حديث الأسبوع

ما حــدث .. ليس بريــئًا

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

لن يكون كافيا ولا مقنعا تفسير ولا تبرير ما حدث بعامل الصدفة، بل الأكيد أن ما حدث له صلة واضحة ومتينة بالتطورات والتقلبات المتسارعة التى يعيشها العالم بأسره، فى خضم أزمة صحية تكاد تكون غير مسبوقة، كانت ولا تزال، لها تداعيات عميقة على المستويات كافة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية منها.
فأن تبادر الحكومة الصينية فى اليوم الأول من الشهر الجارى إلى دعوة مواطنيها (إلى شراء وتخزين احتياجاتهم الأساسية لضمان تلبية الاحتياجات اليومية ولمواجهة حالات الطوارئ)، وارتأت هذه الحكومة تضمين هذه الدعوة فى بلاغ رسمى نشرته وزارة التجارة الصينية على موقعها الإلكتروني. وزادت فى التفاصيل المثيرة حينما طلبت الوزارة الصينية (من السلطات المحلية تسهيل الإنتاج الزراعى وتدفقه والإمداد ومراقبة مخزون اللحوم والخضراوات والحفاظ على استقرار الأسعار).
فى العادة حينما تكون المخاطر التى تهدد إمداد السوق بالمواد الاستهلاكية الأساسية حقيقية فإن السلطات المركزية تتجنب جهد المستطاع التهويل من الوضع وتلتجئ إلى مختلف أشكال التواصل المؤثرة لخلق أجواء الاطمئنان والثقة والاستقرار، لأنها دون ذلك فإنها تسبب فى سيادة مظاهر قلق ورعب وهلع خطيرة جدا تدفع بالحشود الهائلة إلى الازدحام فى الأسواق لاقتناء أكبر الكميات من المواد الاستهلاكية المنتجة والمعروضة، وسيقود ذلك إلى الاحتكار والارتفاع المهول فى الأسعار، مما يوفر التربة المناسبة لتمرد شعبى عارم قد يدخل البلاد فيما لا تحمد عقباه.
و السلطات الصينية تدرك أكثر من غيرها، بحكم طبيعتها، هذه الحقائق كافة، ولكنها مع كل ذلك أقدمت على ما أقدمت عليه فى قضية بالغة الحساسية والخطورة. وأيضا لا يمكن أن يكون مقنعا ما روجته بعض الأوساط من أن نشر هذا البلاغ من طرف وزارة التجارة الصينية يعتبر سلوكا طبيعيا ومعتادا منها، وهى اعتادت نشره قبل بداية كل فصل شتاء لدعوة المواطنين إلى تخزين المواد الاستهلاكية لمواجهة فصل الشتاء الصعب حيث تكثر الفيضانات فى كثير من مناطق الصين مما يتسبب فى عزلها بشكل نهائى.
أبعاد ما حدث تتجاوز بكثير الحدود التى حاولت بعض الجهات رسمها له، لأن الخبر الذى قيل إنه ينشر كل سنة لم نسمع به قبل اليوم، وحتى إن حدث دون أن يقع الانتباه إليه لأن وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى فى مختلف أرجاء المعمور لم توله هذه الأهمية كما حدث هذه المرة، حيث وبصفة مباغتة أضحى الخبر حديث المجالس، محتلا صدارة اهتمامات وسائل الإعلام السمعية والمرئية والمكتوبة والالكترونية، فإنه وببساطة يجد تفسيره فيما تتعرض له أسعار الخدمات وأثمان المواد الاستهلاكية فى الأسواق العالمية والذى كان موضوع حديثنا فى الأسبوع الماضى.
يمكن التقدير بأدنى مجازفة أن الأمر يتعلق بالحرب الاقتصادية التى تمثل فى الظروف الراهنة العنوان البارز لمرحلة ما بعد خفوت شراهة الجائحة، ويساعدنا على ترجيح هذه الفرضية أنه وبعد مرور ساعات قليلة من صدور بلاغ وزارة التجارة الصينية نحا مؤشر أسعار العديد من المواد الاستهلاكية نحو الارتفاع فى الصين نفسها قبل أن ينتشر فى الأوراق العالمية بأسرها ، كما ارتفعت أسعار النقل الدولى لهذه المواد بشكل لافت جدا. فالصين التى كانت قبل سنتين من الآن مصدر الوباء الذى هز أركان العالم فى ظروف لا تزال لحد اليوم مجهولة، إن لم تكن مشبوهة، لأنه لا أحد يملك الأجوبة الدقيقة والمقنعة حول الأسئلة المتعلقة بسبب خروج هذا الفيروس الفتاك إلى الوجود ولمبررات انتشاره السريع والمهول فى جميع أرجاء الكون.
الواضح أن كبريات الشركات التى تتحكم فى القوت اليومى للبشرية تحرص فى هذه الظروف الدقيقة على تدارك ما فقدته من خسائر فادحة خلال السنتين الماضيتين، حينما تسببت تدابير الإغلاق والعزل وتوقيف سلاسل الانتاج والنقل فى خسائر مالية فادحة، لأن شيئا يبرر ألهبة النيران التى انتشرت فى هشيم الأسعار بالأسواق العالمية، ولأن وحدات الانتاج الفلاحية والصناعية لم تكن الوحيدة التى تضررت من تداعيات كورونا، بل جميع مناحى الحياة طالها الضرر، ولذلك فالمصيبة كانت واحدة وإذا عمت هانت.
فى ضوء ذلك فالعالم يتعرض فى هذه الظروف الدقيقة إلى مؤامرة، قد تكون تداعياتها أخطر مما تسببت فيه الجائحة، وتتعلق بالأمن الغذائى العالمى. فكثير من الأوساط الاقتصادية لا تتعاطى مع الأوضاع الانسانية العالمية بهواجس التضامن والمساعدة والتكافل ونكران الذات لمواجهة التحديات الطارئة، بقدر ما تتعامل معها بمنطق تجارى مالى يضع رهانات الربح فى مقدمة أولوياته. ولذلك، وفى غياب آليات قوية كفيلة بكبح جماح الجشع، والحد من شراهة الليبرالية المتوحشة، فإن البشرية ستكون معرضة فى هذه الظروف الصعبة والدقيقة التى يجتازها العالم إلى أخطار كثيرة ليس أقلها الاختلالات الفظيعة والكبيرة التى يتعرض لها الأمن الغذائي، والتى سيدفع الصغار من الدول الفقيرة، التى تعتمد على إطعام مواطنيها على الاستيراد، تكلفتها الغالية، والتى تلقى بظلال انتشار مجاعة فى أرجاء واسعة فى الكون ستكون، لا قدر الله، غير مسبوقة .
 نقيب الصحفيين المغاربة