من دفتر الأحوال

الفارغون

جمال فهمى
جمال فهمى

 المخرج الإيطالى الأشهر فدريكو فيللينى (1920 _1993) الذى هو أحد الرواد الكبار لتيار الواقعية الإيطالية الجديدة فى السينما ، كان ومازال واحداً من أهم أيقونات الثقافة والإبداع الراقى لدى جيلنا (جيل النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضي) وربما أكثر من جيل آخر سبقنا إلى الحياة ، سواء فى بلادنا أو فى عموم بلاد العالم.
فى فترة من الزمن كان العبد لله شغوفا جداً بالفرجة على أى من إبداعات فيللينى التى قد تتاح للجمهور المصرى من خلال عروض مهرجانات السينما ونواديها المحترمة التى يبدو أن أغلبها الآن (إن لم يكن كلها) للأسف الشديد ، لم يعد موجوداً، ومن الأفلام المبكرة التى حققها وكتب لها السيناريو هذا المخرج الإيطالى الكبير ، فيلم «الفارغون» الذى قد لا يكون متمتعا بشهرة باقى أفلامه مثل «دولشى فيتا» و«8 ونص» و»أماركورد» و»المهرجون» وغيرها من التحف السينمائية التى تزينت بتوقيعه، لكنه أطلق شهرة فيللينى الواسعة فى إيطاليا والعالم ، إذ رشحته الأكاديمية الأمريكية عام 1952 لجائزة الأوسكار ، لكنه لم يفز بها وإنما نال فى العام نفسه جائزة «الأسد الفضي» من مهرجان البندقية.
فيلم «الفارغون» خال تماماً من أية حكاية ، هو يعرض فحسب مقاطع من حياة مجموعة من الشباب تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين ، يعيشون فى قرية من قرى الريف الإيطالى فى زمن ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط حكم الديكتاتور العاتى مسولينى الذى خلف دماراً وخراباً هائلاً طال الحجر والبشر معا.
 مشاهد الفيلم تظهر بقوة ووضوح أجواء الملل والفراغ القاتل الذى يعيش فيه هؤلاء الشباب  بلا عمل ولا هدف ولا أية طموحات كبيرة أو صغيرة ، وإنما هم فقط ينفقون أيامهم فى حياة عبثية تظل مشاهدها الفقيرة تُلاحق بعضها بعضا وتتكرر يوميا بانتظام ممل ، بينما هم جميعا مطبعون بالضياع وعدم الاكتراث لأى شىء ولا بأى أحد.
تتوالى المشاهد على هذا النحو فيما يجاهد المشاهد للعثورعلى أى محور أو معنى لحياة مجموعة شباب هذا الفيلم فلا يجد وسط أجواء الكآبة الساخرة، سوى أن بعض هؤلاء الشباب يطمح ، من دون حماس كبير ، لأن يكون ممثلا أو كاتبا .. هكذا بغير التسلح بأية موهبة أو دراسة .
 أنهم عصبة شباب أرواحهم  مدمرة  بفعل حياة الفراغ والسأم التى يعيشونها عالة على أهاليهم البؤساء ، فهم يمضون ساعات يومهم منذ أن يستيقظوا حتى يناموا ، وهم يتسكعون على غير هدى فى دروب البلدة الضيقة الفقيرة ، وجميعهم تقريبا ، لا يفعلون شيئا ولا يحلمون بشىء ، كما أنهم لا يفرحون ولا يحزنون ، فلا الماضى يهمهم و لا المستقبل يقلقهم.
 إذن فهى حال ثقيلة من العبث والضياع والعجز والاستسلام .. فقط فى المشاهد الأخيرة من الفيلم نرى واحدا فقط من هؤلاء الشباب يدعى «مورالدو» يتمرد على هذه الحال التى تطحنه وزملاءه ويقرر السفر إلى العاصمة روما ، وفى المشهد الأخير نجد مورالدو فى القطار المغادر لبلدته يتطلع كمن يحلم ، إلى عالم جديد قد تتحقق فيه أحلامه ، لكن فى لحظة يتبدد شعوره بفرحة الأمل إذ تقفز إلى مخيلته صور رفاقه التعساء الذين تركهم خلفه وهم غارقون فى الملل والضجر واليأس.