رهبة الحرية المربكة.. الغربة الزاحفة فى قلب الصخب والزحام.. سحر البدايات الحائرة بين البهجة والخوف، فالحلم المنشود تحقق والدخول إلى جامعة القاهرة العريقة صار حقيقة جميلة، ولكن لا مفر من اختلاط المشاعر فها هو التيه فى خضم التنوع الشاهق والاختلاف، ثقل إرهاصات المسئولية، فنحن على أعتاب الوعى، ووداعا لخفة الوجود المدرسية، الكل مسكون بشغف الفضول والمعرفة، الزهو بفعل اقتفاء أثر الخطوات المهيبة لعميد الأدب العربى د. طه حسين، الذى قال ذات يوم: "فلنبتهل إلى الله فى أن يبرئنا من علة الكلام الكثير، فلعلنا إن برئنا من هذه العلة أن نجد العزاء عن آلامنا وكوارثنا فى العمل الذى يزيل الآلام، ويمحو الكوارث ويجلى الغمرات".
أعشق الخريف، أتأمله دوما، فهو يزهر ويغدق بطزاجة البدايات.. المدرسة، الجامعة والحب هو فصل محمل بارتعاشة الاكتشافات، يزف النوستالجيا، وهى كلمة فى الأصل إغريقية تعنى الرجوع والألم، فالحنين إلى ما كان لا يخلو من الشجن، وهو الحزن فى أعذب حالاته الممزوج بالشوق، وكلنا نشتاق إلى سنوات الجامعة.. تكتنز ذاكرتى التمثال الوردى الخلاب "نهضة مصر" للرائع محمود مختار، أكاد أسترجع ذات الخطوات المرتعشة وأنا أدلف إلى المبنى العريق أرى الوجوه المألوفة من مدرستى ليسيه الحرية بباب اللوق، ووجوه لا أعرفها، هاهو قسم الآداب الفرنسي، أساتذة من فرنسا ومن مصر، أسماء تضوى وتؤنس خزائن ذاكرتي.. د.آمال فريد، د.منى حسن، د. أمينة رشيد حفيدة رئيس وزراء مصر إسماعيل باشا صدقي، د.كريستين، د.ليلى عنان، ود. روبير ألبير، د. بوريللي، د. دونى لوش، الذى صار فيما بعد الملحق الثقافى الفرنسي، د. أحمد مرسى أستاذ الأدب الشعبي، أذكر أنه فى بداية محاضرته حكى لنا واقعة شديدة الطرافة، فبينما كانت د.سهير القلماوى تمتحنه سألته: "وأين ياأستاذ أغانى المتسولين، فأجاب:" المتسولون لا يغنون على حد علمي."، أستعيد المخرج النابع شادى عبدالسلام مبدع فيلم "المومياء"، كان يأتى لإلقاء المحاضرات.. أحيانا أستاذ الجامعة البارع لديه ذات المقومات الخاصة بممثل المسرح الموهوب يتمتع بالحضور الطاغى وعنفوان الصوت أى الكاريزما، توغلت آنذاك فى عوالم شائقة لجان بول سارتر، كامو، روسو، أندريه جيد، فلوبير، رامبو، فُتنت بفولتير، هو الأب الروحى للتنوير، التسامح، قبول الآخر، أسلوبه الساخر العامر بالذكاء والنفاذ إلى ذهن القارئ بسرعة وعمق كالسهم الثاقب، كانت قصته البديعة الفلسفية "كانديد" أو التفاؤل التى ترجمها د.طه حسين تسخر من النظرة الوردية المطلقة للوجود، فتتكرر عبارة "نحن فى أفضل عالم ممكن، ليس فى الإمكان أبدع مما كان" ويظل البطل المُرجِّع لتلك العبارات يتلقى كل شرور البشر، الصدمات والمحن، فى الأمسيات الشتائية توحدت مع بلزاك، تلذذت بالخلوة مع "امرأة فى الثلاثين"، "بهاء وبؤس الغانيات"، فالقصة أيضا الفلسفية التى قرأتها ربما عشر مرات "جلد الأسي" هى مرصعة بعطر ألف ليلة وليلة، أستمتع بذائقة السعى من أجل الحصول على ترياق الثقافة فى كل المجالات، ومن يسع ويجتهد يحصد وينعم بالثمار، كانت منحة التفوق التى حظيت بها ذات معنى مجوهر ومكلل بالرموز المعنوية الآسرة، أستعيد ما سطره نجيب محفوظ فى "حضرة المحترم":
"ورفع عينيه إلى السماء فرأى النجوم الساهرة مستقرة فيما يبدو، ولكن لا شيء جامد فى الكون، وقال إن الله خلق النجوم الجميلة ليحرِّضنا على النظر إلى أعلي.. وأن المأساة أنها ستطل يوما من عليائها فلا تجد لنا من أثر، ولا يتحقق معنى لوجودنا إلا بالعرق والدم".
مدام رجاء هكذا كنا نناديها، ربما هى كانت أربعينية، لها عيون عسلية ترتدى النظارة الطبية، ولكنها لا تحجب هذا النهم المعرفى والحلم المعتق من أجل الوصول إلى الآداب الفرنسية بجامعة القاهرة، تنويعة على لحن (هى والمستحيل) للثالوث الذهبى فتحية العسال صفاء أبوالسعود وأنعام محمد علي، أتأمل آنذاك اشتعالها بالعلم، روعة عزيمتها وإصرارها.. مسيو إليبر أستاذ مادة الحضارة قامة نابهة وثقافة موسوعية شاهقة، له كتاب مهم عن (مصر الجديدة هليوبوليس)، هو يجسد الولع بمصر وهو ما لمسته لدى كل أساتذتى، فهم ما إن حضروا إلى المحروسة لا يرغبون فى الرحيل، فمصر بوتقة التراكم الحضارى والثراء الثقافي.. شارع قصر النيل مكتبة (الكتاب الفرنسي) أوlivres de france، هنا أغلب الكتب الخاصة بالمنهج، أدلف إلى المكتبة هى تحاكى مغارة على بابا العامرة بالكنوز، أنهل من الدفء الذى يغمر المكان، وأتنفس رائحة الكتب فى الصباحات الخريفية ذات اللسعة الباردة، أتحدث مع مالكة المكان مدام إيفيت وزينة، وأبتهج لرؤية القط مينو يجلس على كتاب نيتشه، يفترش روائع الفكر الإنسانى بتثاؤب وخمول، وتراودنى أبيات محمود درويش: اللخوف رائحة القرنفل فى الطريق من الربيع إلى الخريف.. ونحن نمشى فى هواجسنا عن الغد.. ربما يصل المسافر كامل الأعضاء.. لكن الربيع وراءه فى كل متر من خطاه وداع.. شىء ما يلاحقه كرائحة القرنفل غامضا ويخاف ألا يستعيده".