كنوز | هات ورقة وقلما وأكتب

أنيس منصور
أنيس منصور

أنيس منصور

نقدم لقراء «كنوز» فى الذكرى العاشرة لغياب الكاتب الكبير أنيس منصور الذى رحل عنا فى 21 أكتوبر 2011، المقال التالى الذى كتبه قبل رحيله بثلاثة شهور تقريبا عن عمر يناهز 87 عاما، المقال يقول الكثيرعن حقيقة الإنسان فلسفيا، ويقول فيه : 

الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا. 

فالناس لا يعرفون هذه الحقيقة إلا فى مرحلة متأخرة من العمر.. وإلا فى لحظة باهرة ينكشف فيها الإنسان تماما.. فما الذى يراه ؟ 
يرى أنه أمضى عمره كله يدور حول خوف. 

أو حول أمل.. 

أو حول طمع.. 

أو حول حب.. 

وأن هذا الذى يدور حوله قد سلبه القدرة على الرؤية.. وعلى التمييز. 

أنه مسحوب من كل عواطفه إلى الأمام .. وهذا الانسحاب قد جعله مأخوذا دائما.. وجعل طريقه صعبا وعالمه ضيقا. 

إذا أحس بالاختناق.. فليس سبب ذلك عيبا فى جسمه.. ولكنه هو الذى جعل الجدران قريبة.. والسقف أقرب.. وراح يتنفس فى هواء حبيس !

أنظر إلى حياتك كل يوم.. أنظر ولو مرة واحدة.

هات ورقة وقلما واكتب بالضبط ما الذى تفعله أو فعلته اليوم. 

لا تخجل إذا أغمضت عينيك وتركت القلم يكتب ثم وجدته يرسم ثورا يدور فى ساقية.. فليس عفريتا هو الذى كتب لك.. هذه هى الحقيقة.. أنت تدور وتدوخ.. تذوب.. تتلاشى . 

أنت لا تدرى ما الذى تفعله.. ولكنك أعمى.. أعميت نفسك.. وليس غيرك أحسن ولا أسوأ حالا منك.

كلنا نيام.. 

نمشى نياما.. نصحو نياما. 

ونرى فيما يرى النائم أننا نفكر وندبر ونحكم ونتحكم.

وليس هذا تخريفا أو انسياقا وراء القلم.. ولا وراء هذه الكلمات.. ولكن هذه الحقيقة عندما أدركتها بوضوح أذهلتنى وأخافتنى وملأت باليأس قلبى.
ولم أعد أعرف ما الذى أفعله وما الذى أقوله بعد اليوم.. فليس فى العمر وقت طويل لكى أفكر وأراجع ما اتخذته من آراء وما اهتديت إليه من حقائق. 
وأنا أعلم أنه أفضل للإنسان أن يريح رأسه ويتوكل. 

أن يربط أفكارا كمجموعة من الأغنام ويلفها حول رقبته ويختار له شجرة وينام تحتها حتى يجيء الموت الذى هو النوم الأبدى.. وفى ذلك كفاية. فالعمر لا يتسع للتفكير فى كل شيء.. ولا أحد اتسع عمره لذلك. 

وإذا ظل الإنسان يفكر فى كل شيء فإنه لن يجد طعاما ولا شرابا، وهو لن يجد الطعام والشراب لأنه لن يجد رأسا ولا قلبا ولا معدة.. وخير له أن يرضى بما اهتدى إليه وأن يستريح. 

ولكن ماذا إذا اكتشف الإنسان أنه يدور حول شيء.. أو أن فى داخله شيئا يدور، وأنه وكل الناس دائرون حول رغباتهم وشهواتهم ومخاوفهم وعقائدهم. 
أو أنه لا شيء فى هذه الدنيا .. أو أن العالم من حولنا لا يهتم كثيرا إن ضللنا أو اهتدينا.

وأننا هكذا اليوم وغدا وأمس: لا شيء!!

اقرأ أيضا | «الشرق الأوسط» 19 يوليو 2011