رحيق السطور.. الخديوي الذي حارب السخرة

كتاب إنها غلطة فلوبير
كتاب إنها غلطة فلوبير

تتجلى قدرة السرد فى رواية «غلطة فلوبير» للكاتب اللبنانى محمد طعان فى بناء متكامل متخيل عن حياة عباس حلمى الأول وريث عرش مصر خلفا لجده محمد على 1805-1848.

وتتبدى ملامح شخصية عباس  حلمى الأول (1848 - 1854) من خلال السرد فى حرصه على بناء مقامى الحسين والسيدة زينب، ما يوحى بتعلقه بآل البيت، وفى محاولة التخلى عن بعض سياسات انتهجها جده محمد على مثل استخدام  المصريين سخرة فى مشروعاته..

وفى محاولة اقصاء الفرنسيين عن العمل فى مصر، وهم الذين استعان بهم الجد.. وأخطر ما تبديه الرواية هى قصة عداء الفرنسيين لعباس حلمى، وهم الذين استقدمهم محمد على للاستعانة بهم فى مشروعاته، حتى أن الفرنسيين قد شوهوا صورة عباس الأول وتم إلصاق العديد من التهم به، والرواية تحاول تقديم صورة مغايرة لهذا الحاكم المتعاطف مع  المصريين واستعادة دوره التاريخى المغفل عنه.

كما تتجلى براعة الأديب فى روايته هذه فى قدرته على بنائها فى بنيتين متوازيتين وكأنهما روايتان منفصلتان كما يبدو ظاهريا ولا  يتقاطعان إلا فى نهاية الرواية.. الرواية الأولى تروى التاريخ المتخيل عن عباس حلمى حفيد محمد على مؤسس مصر الحديثة وولى عهده الذى يعده للحكم.

أما الثانية فتدور حول حياة الأديب الفرنسى جوستاف فلوبير صاحب رواية «مدام بوفارى»، التى تعرض بسببها للمحاكمة، عامة يحاول المؤلف إعادة نظر وتقييم لفترة زمنية اتهمت بالفساد وبتخليها عن كل ملمح ايجابى، كما تتحمل الرواية ذات البنيتين السرديتين العديد من التأويلات وتحمل العديد من الرسائل كعادة الروايات التاريخية ان صح التعبير، وقد استعمل المؤلف أسلوب الراوى التقريبى لكنه توجه أحيانا إلى السرد المباشر للقارىء.

كما تحاول الرواية الإفصاح عن التاريخ غير المباح وإعادة ترتيب وتفسير تاريخ عباس حلمى وجوستاف فلوبير، وذلك كما أشرنا فى بنيتين سرديتين متوازيتين لا رابط بينهما سوى تقاطع فى نهاية السرد، فيقدم فى سرديته الأولى عباس حلمى كشخصية متفردة معتزة بنفسها وبأصولها حتى فى مواجهة جده محمد على، فهو يحاول أن يكون الحاكم العادل منذ إسناد جده له حكم مدينة الغربية،وقد ساءه رؤيته لأعمال السخرة التى ينتظم فيها المصريون رغما عنهم والتى يتبعها جده فى مشروعاته، ويحاول جاهدا إلغاء السخرة لكن جده يهاجمه كما يعنفه فى علاقته بالبدو وخوفه من خضوعه للوهابيين، وتتبدى من خلال السرد روح عباس حلمى التواقة للنقاء  ومن هنا كان حبه للصحراء برمزيتها الصوفية وبالحصان رمز العروبة والفتوحات، فيذكر «ليس الجواد مجرد شغف.. إنه مبرر حياتى».

ويحاول الأديب تبرير جمعه للسرديتين «حياة عباس حلمى وجوستاف فلوبير» من خلال التعرض لجماعة جاءت الى مصر تدعى السانسيمونيين حلت بمصر للتعاون مع الجد محمد على ومساعدته فى بناء مصر الحديثة ويقوم مذهبهم «على صنع لحمة المجتمع إذ حدده المؤسس بأنه جمعية عالمية تهدف إلى القضاء على استغلال الإنسان للإنسان ولتكافؤ الفرص بين السادة والعبيد الملاك والأقنان الأعيان والمزارعين العاطلين والعمال»، وتلك الدعوة تتلاقى وروح عباس حلمى ونزعاته نحو المصريين وعشقه للحكم العادل.. ويحدث ان يتعرف فلوبير على تلك الجماعة، ويقول: «لقد التقيت للتو ببعض الأصدقاء السانسيمونيين العائدين من مصر» وعندما يتعرف فلوبير على خطتهم فى وصل ضفتى المتوسط من خلال قناة يقول: «أؤيد هذا الاتحاد فهو يشبه زواجا أحب الإشارة الجنسية التى ينطوى عليها» فيرد عليه مكسيم: «إنه زواج لهذا فهو يشير إلى العلاقة الجنسية حيث الرجل هو الغرب الذى يحضر رجولته لتخصيب الأنثى الشرق» وبهذا يجد المؤلف حلوله فى محاولة الربط بين البنيتين.