بدأت تلميذاً يتيماً ثم طالباً ثم خريجاً.. كذلك محارباً عام 1948م، جامعياً حتي رئاسة الجامعة؛ وزيراً سياسياً؛ رئيساً لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا

فيغيابه تعطلت بوصلتي، وتاهت معانٍ من بين سلام يأتي مسكونا بمحبته، وغاضت أناملي حتي أحاطني طيفه الملائكي وسماحته، إنه الأستاذ الجراح «إبرهيم بدران» ملحمة القلب المتيم بعشق الوطن، فتعافت الحروف علي استحياء، وتملكتني هالة الوفاء لجزء من حقه الكبير،واستسلمت لجلاء كلمات كتبها الراحل العالم الجليل بقلمه في مناسبة منذ سنتين، بتجليات تكشف عن ورعه وتصوفه وعلمه:
واستخرت المولي عز وجل، وبدأت أرتب أفكاري وأسجل رؤيتي وأرصد ملاحظاتي، وأراجع ما أتيح لي من معلومات قبل أن أعطي لنفسي الحق في أن أكتب ما يرضي الله من معلومات عن زميل التقينا معاً علي وطن نحبه، وتعاونا عبر رحلة العمل التي كتبت علينا، ومن كتبت عليه خطيً مشاها، فحاولت ـ محبة لزميل ـ أن أطلق العنان لذكرياتي في جامعة القاهرة، التي انتمينا إليها في بداية تكويننا، وإن اختلفت الأعمار والظروف والمجالات؛ لأكثر من ثلاثين عاماً حيث تتغير الأيام والأحوال كل يوم.. بل كل ساعة الآن. هنا شطح الخيال بي فرأيت الدنيا تركيبة ربانية عجيبة.. وصفها صعب، أجواء وتضاريس إذا نظرنا إليها من نافذة الجغرافيا.. كذلك هي أيام ومتغيرات وظروف وتحولات إذا تقمصنا شخصية رجل تاريخ وجغرافيا الأيام، وأفراد ومستويات هابطة وصاعدة؛ إذا انتحلنا علم الإنثروبولوجيا؛ تصرفات ومواقف وميول ومصالح إذا ربطنا الموضوع بالسياسة.
كذلك قدرة وبصمات يتركها الإنسان وراءه في أفعال وعلاقات وسلوك وفي التزام سلوكي يؤكد علاقة الفرد بالمجموع، ودوره في العقد الاجتماعي غير المكتوب، والتوجه إلي إدارة النفس في نعيان هَمِّ المجموع، وتمسكه بأسس الفضيلة في التخصص الذي ينتمي إليه، وتصريف الجهد في مجالات خدمة الغير، خادماً أميناً لأهله، أو جاحداً حتي لولي أمره. وزاد في عمق رؤيته حتي أمكنه الاجتهاد في توصيف الدنيا علي أنها متضادات حاكمة، وتبادليات محيرة، نور وظلام، حب وكراهية، أخوة وعداء، وئام وخصام. إذا تحاكمنا إلي الفيلسوف، تعاون وغش، صدق وكذب، عطاء ورفض، حرب وسلام، إذا تمثلنا السلوك؛ حفاظا علي النفس، أو انتهاك وتفريط فيها، أنانية وأفكار ذات جحود.. من وجهة نظر الطبيب النفسي.. تديُّنٌ محمودٌ وتنازل مرفوض.. تمسك إيماني في الجذور وتنازل ظاهري ممجوج، عند التقييم الأماني والنفسي الوسطي.
.. وقد دفعني القلم لتذكر رحلة الحياة التي طالت بإذن الله عسي أن يكون فيها عظة، استرجع أياماً مشيناها في طاعة الله، وكان من حظي أن اخْتُبِرْتُ في حياتي راضيا، وضع الشر قبل الخير لمن يتعظ بقيمة صعوبة الاختبار في الدنيا» وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» صدق الله العظيم. وعائدها من صبر علي البلاء، وتحمل قسوة الطريق، في تلك الرحلة كُتب علي لقاء الآلاف، بل أقول الملايين، وكانت المجالات الحياتية التي اختبرني ربي فيها منذ الطفولة حتي الشيخوخة التي أمر بها الآن؛ حيث بدأت تلميذاً يتيماً ثم طالباً ثم خريجاً.. كذلك محارباً عام 1948م، جامعياً حتي رئاسة الجامعة؛ وزيراً سياسياً؛ رئيساً لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، باحثا عاملا في التنمية، مشاركاً في البناء القومي، في المجالس القومية المتخصصة؛ عضواً عقائديا في المجلس الأعلي للشئون الإسلامية ومجمع البحوث الإسلامية؛ وكان لي الحظ في أن أتعامل مع كافة أطياف البشر ومختلف مستوياتهم..
وأذكر أنه إبان حريق مبني المجمع العلمي المصري دار حديث بيننا ودموعه سيمفونية في حب الوطن، وأحتفظ لأستاذنا الراحل وكنت معه بصورة أبت أن تفارق مخيلتي حين كان يؤم الدكتور عبد العزيز حجازي وهما يصليان المغرب جلوساً في أواخر حياتهما رحمهما الله معاً.