أحمد الصاوي يكتب: جوانب الاتفاق فى مسألة الطلاق .. محاولة للفهم والحل

أحمد الصاوي
أحمد الصاوي

هذا ليس حديثاً عن الفقه والفقهاء والاختلافات حولهم. هو حديثٌ عن البناء على مواضع الاتفاق؛ مَسْعى لبلوغ الحل فى إطار المقاصد التى يجتمع عليها الجميع، وليس لتأجيج خلاف، وتوسيع هُوَّة، واستهلاك طاقة فى أتون جدل لا ينتهى وكأنه مقصودٌ لذاته، وليس يُرجَى كطريق لحل ينبذ الصراع ويحقق المقاصد ويُطفئ الحرائق. 

 

منذ دعا الرئيس السيسى فى يناير ٢٠١٧ إلى النظر فى مسألة «الطلاق الشفهى»، وصدور بيان لهيئة كبار العلماء بنتيجة بحث المسألة بعد شهر من دعوة الرئيس، ومَنْ يتصدَّرون النقاش العام من «مُدَّعى الحديث باسم كلتا وجهتى النظر» يحاولون تأويل جوانب الاختلاف بين «صاحب الدعوة وبين من وُجِّهت له الدعوة» لإظهار الأمر وكأن الهُوَّة بين الطرحين متسعة لا يصلح معها رَدْم، فيستمرون فى قرع الطبول وكأنهم فى قلب معركة صِفْرية تماماً تسرى عليها قواعد الانتصار والاستسلام بما لا يليق أبداً بمقام من يعتقدون أنهم يتحدثون باسميهما. 

 

منذ تفجَّر النقاش والعناوين كلها تدور عن الخلاف، لكن لا أحد تحدث عن مناطق الاتفاق بين الرئاسة والأزهر الشريف فى هذه القضية، التى أراها كثيرة وتستحق الانتباه والتركيز. 

 

أولاً: توصيف المشكلة..  


حين تسمع تصريحات الرئيس وتقرأ بيان هيئة كبار العلماء وتشاهد برامج الإمام الأكبر، ستجد - لو حَسُنت النوايا - اتفاقاً على وجود مشكلة عامة فى ارتفاع نِسَب الطلاق (وهى نِسَب الطلاق الموثَّق)، وأن هناك استسهالاً فى الطلاق عند الأزواج والزوجات، وفى القلب من هذه المشكلة، التى تحتاج لبحث أعمق، توجد مشكلة لنساء يتعرضن للطلاق الشفهى المقصود والمكتملة أركانه شرعاً، ولا يتمكنَّ من إثباته وربما يتركهنَّ أزواجهن مُعلَّقات؛ لا هن متزوجات ولا مطلقات؛ لأنه ليس بأيديهن ما يثبت الطلاق، وهو ما يحتاج لتدخل قانونى عاجل. 

إذا كان هذا هو توصيف المشكلة الصحيح فقد اتفق الطرفان عليه وعلى خطورته، وكلاهما لديه القَدْر ذاتُه من التعاطف مع تلك المرأة (المُطلَّقة دينياً.. والزوجة قانونياً) وهو وضع لا يمكن لأحد القبول به أبداً لأى امرأة. 

 

ثانياً: التدخل القانوني.. 


يتفق الطرفان على أهمية ووجوب حدوث تدخل قانونى للتصدى للأزواج الذين لا يقومون بتوثيق طلاقهم الشفهى المقصود والمكتملة أركانه شرعاً، وإن اختلفا فى تصور شكل هذا التدخل؛ ففى حين دعا الرئيس لقانون لا يعتدُّ بالطلاق الشفهى ولا يكترث به حتى لو تكرر مائة مرة، دعا الأزهر إلى قانون لعقاب الزوج الذى يتعنت فى توثيق طلاقه، متمسكاً بوقوع الطلاق الشفهى المقصود والمكتملة أركانه شرعاً. 

 

ثالثاً: الاختصاص.. 


يتفق الطرفان على اختصاص الأزهر الشريف ببحث المسألة، باعتبارها ذات بُعْد دينى، طلب الرئيس رأى الأزهر الشريف ولم يطلب رأى مشايخ الفضائيات ولا نشطاء «السوشيال ميديا»؛ لأنه رئيس دولة تحترم مؤسساتها واختصاصاتها، وهو اختصاص ليس مرجعه فقط الدستور ومواده، وإنما 1000 عام من المكانة المكتسبة دون ادِّعاء، والتى- رغم أى ملاحظات عليها- ساعدت هذا البلد لعقود طويلة على الاحتفاظ بنمط تديُّنه المميَّز دون افتعال، قبل أن تفعل السياسة بنا وبديننا ومنطقتنا الأفاعيل طوال العقود الماضية. 

 

والأهم أن الرئيس تقبَّل رأى الأزهر المتمثل فى بحث هيئة كبار العلماء، لمدة ٤ سنوات، وراهن على النقاش المجتمعى كما قال، ولم يراهن على صلاحيات أخرى حاول بعضهم الترويج لها من خلال الذهاب مباشرة للبرلمان لإصدار تشريع، يعرف الجميع أنه سينتهى- حسب اللائحة والقانون والدستور- لاستطلاع رأى الأزهر فيه لضمان دستوريته.

 

 تلك إذن جوانب اتفاق واضحة جداً بين الرئيس والإمام، تحتاج من يمد يده للبناء عليها.. وتلك محاولة متواضعة منى فى هذا الشأن، لكن قبل أن أسترسل يجدر بى أن أضع مجموعة من المعلومات بين يديك. 

 

هل الرأي الذى اعتمده الأزهر الشريف.. يمثله بمفرده؟ 

 

بمجرد أن دعا الرئيس لبحث المسألة دعا الإمام هيئة كبار العلماء للانعقاد، وشكَّل لجنة لبحث الأمر، تضمُّ فى عضويتها أعضاء من الهيئة وعضواً منتدباً من وزارة العدل من قضاة محكمة الأسرة، ما يعنى أن المنتج النهائى للجنة شاركت فيه الدولة بشكل أو بآخر إن كان البعض لا يرى أن الأزهر جزء من الدولة.

 

كذلك فالرأى المعلن الذى تعتمده دار الإفتاء المصرية، ويعمل به أمناء الفتوى بها، أن الطلاق الشفهى المقصود والمكتملة أركانه يقع. 

 

هذا إذن هو رأى المؤسسات فى زمن الاجتهاد الجماعى الذى يضمن تنوع تخصصات وخبرات من يتصدون لأى مسألة، وعهد سياسى قائم على التنظيم واحترام المؤسسات وإعادة الاعتبار لها، ولا أَمَلُّ من قولى إن كل ما نعانيه من فوضى وتفلُّت وتشدُّد فى المجال الدينى سببه السماح عبر عقود لكيانات موازية للمؤسسة الدينية الرسمية بأن تمارس دورها وتضرب مصداقيتها. 

 

والأزهر الشريف فى موقفه الفقهى المعلن وضع كل النقاشات أمام كل مهتم فى كتاب كبير عنوانه: «يانع ثمرات الأوراق فى مسألة الإشهاد على الطلاق»، والحقيقة أننى لم أجد لهذا الكتاب أثراً أو وجوداً فى النقاشات الإعلامية شبه العلمية عن المسألة، وفى هذا الكتاب اعتراف من الأزهر بأن المسألة خلافية، واختلف فيها علماء الأزهر الثقات كما اختلف الفقهاء. 

 

وكما أسلفت دعا شيخ الأزهر هيئة كبار العلماء لبحث المسألة، وكلف مجموعة من العلماء من كلية الشريعة جامعة الأزهر وكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وطلب الأزهر من وزير العدل أن ينتدب له قاضياً مخضرماً، ولديه علم بقضايا الطلاق، ويجمع بين فقه الطلاق وفقه الواقع وأحواله.

 

ولم يفصح الإمام عن رأيه للجنة أو يترأسها أو يحضر اجتماعاتها، وكلف الباحثين بالمشيخة بإعداد بحث ضخم فى مجلدين ووضعه تحت تصرف اللجنة، يجمع كل أقوال المذاهب والفقهاء المنفردين فى مجلدين كبيرين، فيهما كل ما قيل فقهياً فى هذه المسألة، وصدَّر شيخ الأزهر هذا البحث الكبير بخطاب لأعضاء اللجنة قال فيه: «أعلم أن حضراتكم على علم دقيق ومعرفة تامة بما تشتمل عليه هذه الأوراق المصورة من المصادر والمراجع والأبحاث المتعلقة بمسألة (الإشهاد على الطلاق)، ونظراً لأن جَمْعَها فى ملف واحد ربما يصعب على كثير منا؛ لافتقاد بعض هذه المراجع، أو صعوبة الوصول إليها، فقد آثرت أن أُيسِّر جمعها بين أيديكم؛ اختصاراً للوقت، وإعذاراً للعلم، ولِحَقِّ العلماء فى الاجتهاد والرأى. وإننا لفى انتظار ما يوفقكم الله إليه، وسوف يلتزم الأزهر حرفياً بما تنتهون إليه بعد البحث والاجتهاد، مع دعائى بالتوفيق».


ووقَّع خطابه بـ«خادم العلم والعلماء، أحمد الطيب». 

 

لم يفرض الإمام الأكبر على اللجنة أمراً، وسبق أن صرح فى برنامجه فى التليفزيون المصرى بأن رأيه الشخصى «مع الإشهاد على الطلاق»، لكنه التزم بنتيجة الاجتهاد الجماعى احتراماً لمؤسسية هيئات الأزهر الشريف، التى تلخصت فى «وقوع الطلاق دون إشهاد.. وتأثيم وتجريم المتعنت فى التوثيق وإضاعة حقوق المرأة». 

 

نحن، بوصفنا متلقين غير متخصصين فى الفقه، غرقنا طوال سنوات من النقاش فى أقوال الفقهاء وتبنَّى كل فريق آراءه، وظن هذا أنه ينتصر للرئيس وظن ذلك أنه ينتصر للإمام، فيما لم تستفد المرأة العاجزة عن إثبات طلاقها الشفهى شيئاً حتى الآن، ولم تعرف: هل هى زوجة أو مطلقة، وكيف تعيش مطلقة أمام الله وزوجة أمام القانون؟

 

شخصياً، ما يهمنى هو الانتصار لهذه المسكينة؛ بالبحث عن حل سريع لها نبنيه على نقاط الاتفاق سالفة الذكر باقتراح محدد يسمح بتمكين الزوجة من إثبات طلاقها وحسم أمرها إن كانت زوجة أو مطلقة بإجراءات مُيسَّرة وناجزة، مع إبقاء الرأى الفقهى الرسمى الذى انتهت إليه المؤسسة المختصة بوقوع الطلاق دون إشهاد. 

 

كيف يتحقق ذلك عملياً ودون غرق من جديد فى الجدل؟ 

 

تعرف أنه ليس كل الطلاق الشفهى يقع، لكنه المقصود بذاته المكتملة عناصره الشرعية، وكثير من الأسر تلجأ لدار الإفتاء ولجان الفتوى بالأزهر لبيان إن كان الطلاق قد وقع أم لا، وحالات كثيرة تُردُّ استناداً لوجود إكراه أو غياب عن العقل أو غضب شديد أو تعليق.. إلخ إلخ. 

 

تستطيع إذن أن تمنح هذه اللجان دوراً قانونياً، أو تشكل فى كل محافظة لجنة تابعة لوزارة العدل، برئاسة أحد قضاة محكمة الأسرة، وعضوية أحد أعضاء لجان الفتوى المتخصصين، وأحد أعضاء جمعية المأذونين. 

 

ويمكن لأى امرأة طُلقت شفهياً أن تقدم بنفسها مذكرة لهذه اللجنة بوقوع طلاق شفهى فى حقها بعد أسبوع واحد من وقوعه وعدم مبادرة الزوج بتوثيقه.

 

وبخطوات وإجراءات سريعة وناجزة لا تستغرق شهراً تستدعى اللجنة الزوج، وتناقش ملابسات طلاقه؛ فإن وجدته مقصوداً مكتملة عناصره أوقعته ومنحت الزوجة وثيقة طلاق فى الجلسة ذاتها، أو أن يعرض عليها الزوج الرجعة مع إثبات الطلقة رسمياً فى عداد طلقاته، وإن كانت الطلقة لم تستوف أركانها لا تقع، ويُعرض على الزوجين الرأى الشرعى الذى يحصنهما مجدداً من الوقوع فى تلك الأزمة.

 

وفى حالة الزوج المتعنت ترسل له اللجنة استدعاء للمثول أمامها، فإن لم يفعل أرسلت إليه استدعاءً ثانياً، وإن تخلف عن الحضور تعتمد اللجنة رواية الزوجة وتمنحها وثيقة طلاقها. 

 

لست قانونياً لأعرف كيف يتم تنظيم ذلك تشريعياً، لكن ما أعتقده أن كل هذا الجدل يحتاج حلاً عملياً وناجزاً يتمثل فى تسهيل وتبسيط إجراءات إثبات الطلاق لأى زوجة طُلقت شفهياً، ويضمن ذلك أننا لن نجد مرة أخرى امرأة معلقة؛ لا تعرف إن كانت زوجة أم مطلقة، ويكون وضعها فقهياً يماثل وضعها قانونياً، فتتحقق المقاصد من دعوة الرئيس، ويُحترم الاجتهاد الجماعى للمؤسسة المختصة، حتى يجدَّ عندها جديد، وتُطفأ أى حرائق مصطنعة يسببها الأمر.

 

تلك محاولة متواضعة - وظنى أنها حسنة النية - للفهم والنقاش والحل، مع التسليم بأن قضايا الأسرة كلها تحتاج إلى نقاش مجتمعى أعمق وأهدأ وأبعد عن مناخات الاستقطاب وصراعات الفرق على الشاشات. 

[email protected]