الهــدف شــريـف والفعـــل مخيــف

كارثة سلاسل ربط الأطفال

سلاسل ربط الأطفال
سلاسل ربط الأطفال

منى سراج 

أطفالنا هم أغلى ما تمنحه لنا الحياة، وقلقنا وخوفنا عليهم أمر مشروع.. لكن هذا الخوف يتحول الآن عند بعض الآباء والأمهات إلى مرض نفسى خطير يسمى «الحماية الزائدة»، الذى يجرد أبناءنا دون أن ندرى من أجهزتهم الدفاعية النفسية المسئولة عن حمايتهم، أحد أخطر السلوكيات الناتجة عنه من الوالدين هى تقليعة ربط أبنائهم بسلاسل «ضد الفقد».
 

«آخر ساعة» رصدت بعض هذه الحالات وتتبعتها لدراسة أمرين هامين أولهما هو أسباب وجود هذا المرض عند بعض الوالدين، وثانيهما رصد المخاطر السيكولوجية المترتبة على ارتداء هذه الأساور عند الأطفال، وأثناء تتبع الحالات التقينا بعبير الحضرى، أم مصرية لثلاث بنات "جنا وجودى وجيسى" أعمارهن بالترتيب 18 و16 و12 عاما، تقول: لم ألجأ لاستخدام «ربطة البوبى» ــ على حد تعبيرها ــ إلا بعد ما أنجبت ابنتى الصغيرة «جيسى»، فعندما كان عمرها عامين وشهرا ذهبنا إلى أحد السوبر ماركت الكبيرة وفى أقل من ثانية التفت حولى ولم أجدها أمامى جلست أصرخ وأبكى فى انهيار شديد، وبفضل رحمة المولى عز وجل انتبه زوجى وأسرع إلى إدارة المول ليعطوا أوامرهم بإغلاق الأبواب فورا، وطلبوا مواصفات ابنتى منه ليبلغوا رجال الأمن من خلال الميكرفونات المكبرة بعدم السماح لخروج أى طفلة بنفس مواصفات ابنتى من بوابات الخروج، ثم بدأوا ينادون عليها حتى وجدناها، ومنذ هذه اللحظة قررت ألا أتنازل عن هذه الجنازير مطلقا، فأصبحت بالنسبة لى مسألة حياة أو عدم حياة.


لكن الأم أمانى رفعت روايتها تختلف كثيرا، فبسبب قراءتها عن مخاطر تقييد الطفل اختارت "الأسورة الطويلة" لتتيح لطفلها مساحة حرية أكبر، لأنها اعتقدت وبررت لنفسها هذا السلوك بأنه أقل ضررا وأنه يجعل الطفل يتحرك أكثر.. قابلنا أيضا الأب سامح السيد مهندس الاتصالات الذى أخبرنا أنه يلجأ إليها فى أوقات محددة فقط مثل حال اضطراره الذهاب إلى أماكن مزدحمة أو فى حالة المشى لمسافات طويلة، والسبب أنه يستطيع أن يحمل ابنته فوق كتفه بسهولة ويسر، ولذلك لا يحتاج إلى استخدامها بشكل مستمر.. اختتمنا جولتنا بالحديث مع فاطمة، ربة المنزل والتى اتخذت قرارا بمنعها عن أطفالها تماما لأنها "أزهقتنى وكرهتها" ــ كما عبرت ــ وجعلتها تشعر أن يدها مقيدة وأنها محبوسة وغير قادرة على الحركة بحرية، فبعدت عنها نهائيا، ولم تجعلها أحد اختيارات الحماية بالنسبة لأولادها. 


بعد الوقوف على أسباب مخاوف الأمهات والآباء، التقينا بخبراء علم النفس الإكلينيكى وسيكولوجيات الطفل، لتبدأ الدكتورة مريم نور الدين أستاذ علم النفس الإكلينيكى بجامعة القاهرة واستشارى العلاج النفسى بمستشفى الشرطة سابقا، فى رصد المخاطر.


تتابع: هذا سلوك غير صحيح من الأمهات سببه إصابتهن بمرض "الأوفر بروتيكشن" أو الحماية الزائدة، ومخاطر هذا السلوك السيكولوجية على الطفل متعددة، لها شقان، شق سيكولوجى له علاقة بمفهوم وإدراك الطفل عن نفسه، والتى لا يعرف معظمنا أنها تبدأ معه مبكرا من عمر عام أو أقل، أى قبل أن يفهم.. فهو يشاهد نفسه مثل الكلب أو القطة وبالتالى يبدأ مفهومه عن ذاته يقل.. ثانيا يرسخ لديه أنه يفتقد المهارات الكافية للتعامل مع الخطر، بل يحدث له أخطر من ذلك وهو فقد مهارات التعلم اللازمة لاكتساب مهارات الحماية، والسبب أن تقييد يده يؤكد لوعيه أنه لن يتعلم أبدا.


وتضيف: جميع بوابات مهارات التعلم واكتساب مهارات جديدة، وتكوين الصداقات تأتى فقط من مساحة الانفصال التى تمنح للرضيع من والديه، ودور التربية الأساسى هو أن يساعد الأب ابنه أن يكون مستقلا عنه ليصبح قادرا على تحمل المسئولية، وما يتعارض بشدة مع هذه التربية ارتداء هذه السلسلة فحتى بعد فكها والاستغناء عنها لن يتوقف تأثيرها، بسبب أننا ننتزع سلسلة مادية ونضع مكانها سلسلة معنوية تستمر معه بقية عمره فيصبح إنسانا غير قادر على تحمل المسئولية، لا يعرف كيف يتخذ قرارا، وقد يطلق عليه بعد ذلك من المجتمع "ابن أمه".


وتؤكد أن ظهور هذه الحالات لن ينتهى إلا بعلاج الأم وليس الطفل، فعليها ألا تجعل قلقها أعلى من إعطاء نفسها فرصة اختيار طرق حماية أخرى، وضرورى أن تفهم أن هناك فارقا كبيرا جدا بين تواجد ابنها الفيزيقى كجسد وبين تواجده السيكولوجي، حتى تدرك الصورة المشوهة التى يصل إليها ابنها حين يكبر.


الدكتور حسن الخولي، أستاذ علوم الاجتماع الاقتصادى جامعة عين شمس يرى أنها ليست ظاهرة وإنما سلوك معيب جدا، تلجأ إليه بعض السيدات كتقليد للغير فى ثقافات مختلفة متأثرة بالدراما، فى مظهر ليس مألوفا عندنا ولا عند الدول الأخرى وإنما ناتج عن قليل من بعض ممن يمتلكون تفكيرا غريبا، فيربطون أطفالهم دون وعى، وللأسف يحدث الخلل فى شخصية الطفل مع النمو العمرى.


مضيفًا أن ذلك حب وخوف ليس فى محله، وحتى وإن لجئوا إليه فى أوقات محددة فقط، ومهما كان أناقة وطول الأسورة المستخدمة فما هى إلا مظاهر شاذة، وأذية جسدية تعد نوعا من أنواع العنف، وبدلا من تقييد حركته بهذا الشكل، عليها أن تمسك يده أو تشيله أو تضعه فى سيارة،  ولأن شخصية الطفل تتكون منذ نعومة أظافره، فيحذر أستاذ الاجتماع من الضرر الذى يقع من الارتداء مرة واحدة فقط ولن نستطيع الحماية منه، وقد يسبب للطفل أزمة عميقة لن يكتشفوها لاحقا، فالأذى يتعارض مع الشعور بالكرامة والشعور بالحرية، وبذلك تعرضون طفلكم للإصابة بالانطوائية، والانعزالية، والعدوانية والأنانية.


الدكتور جمال حماد، أستاذ علم الاجتماع الاقتصادى، ورئيس مشروع بناء شخصية الطفل المصرى بإحدى منظمات المجتمع المدنى قال: إن مخاوف الأمهات سببها زيادة مظاهر القلق والتوتر والفقر وعدم الشعور بالأمان فى المجتمع ويحذر الأهل من فكرة التقييد لأبنائهم بالجنازير لأنها سلاسل نفسية تهز ثقة الطفل فى المجتمع، ويصف سيكولوجية الطفل بأنها معقدة جدا، فهو لا يصدق إلا ما يراه وما يشعره فقط، وهو شديد الذكاء، لذلك إذا اضطر الوالدان تلبيسهم هذه السلاسل عليهم أن يبلغوهم فورا بأسباب قوية يصدقونها تفسر لهم الاضطرار لفعل هذا فيهم، وإلا قد يحدث للطفل -من باب التوقعات الطبية- خوف مرضى يجعله مجرما مسلحا يتوقع دائما أن جميع من حوله سيخطفونه وبالتالى سيبدأ بمهاجمتهم دون سبب اعتقادا منه بأنه يحمى نفسه.