مصر الجديدة:

نجيب محفوظ لا يسد الطريق

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

فجأة ظهرت مقالات وبوستات على الفيسبوك لكتاب مصريين تدعو لإعادة النظر فى أعمال نجيب محفوظ، وأنه ليس بالمتربع على عرش الرواية العربية. لن أدخل فى تفاصيل ما كتب، لكنى سأذكّر الجميع بما ينسون. أولا ليس هناك كاتب فى العالم تعد أعماله كلها بنفس القيمة الأدبية. دائما هناك أعمال فى القمة وأعمال عادية أو متوسطة. هذا لا يعيب أى كاتب. نجيب محفوظ فى هذا مثل أى كاتب عظيم، لديه أعمال فى القمة وأعمال أقل. لكن مهم جدا أنه ترك خلفه حوالى خمسين رواية ومجموعة قصصية، بعد رحلة امتدت لسبعين سنة من الإنتاج. كل الذين يرون نجيب محفوظ حجر عثرة، لهم روايتان أو ثلاث أو حتى أربع أو ليس لهم. نجيب محفوظ كتب فى عصور كان كتّاب الرواية فيها يعدون على الأصابع، ومن ثم كان يمكن للنقاد والقراء متابعتهم، بينما كتاب الرواية الآن لا يمكن احصاؤهم، فكل يوم تصدر خمسون رواية، ومن ثم اختلط الحابل بالنابل كما يقال. نجيب محفوظ صنع لنفسه حياة لا يشغله فيها شىء عن الكتابة، وكانت الحياة سهلة، وظيفة حكومية تكفى لأن يكون لك شقة وبيت مستقل وزواج إذا أحببت، فكانت فرصته أكبر فى الإبداع. نجيب محفوظ أيضا وضع برنامجا طموحا لنفسه، أن يبنى للرواية العربية تاريخا كما هو للرواية العالمية. يبنيه وحده.  فبدأ بالرواية التاريخية ثم الواقعية ثم الحداثة بكل تجلياتها فى التعبير، واستمر إلى آخر حياته مشغولا بمشروعه فى بناء تاريخ وقصر متعدد الطوابق للرواية، صنعه كتاب العالم فى أكثر من ثلاثمائة سنة. نجيب محفوظ لم يشغل نفسه بالصراعات الأدبية، فلقد كان يوسف السباعى مثلا وإحسان عبد القدوس أكثر منه انتشارا فى الخمسينيات، وعرفتهما السينما قبله، لكنه لم يتوقف أو يظهر أى عداء لأحد، بل كتب سيناريو لرواية أنا حرة لإحسان عبد القدوس والطريق المسدود مع سيد بدير. كان مخلصا لمشروعه. حين ظهرت على سبيل المثال موجة الكتابة الجديدة فى الستينيات، لم يبد أى عداء مع أفرادها، بل على العكس كانت جلسته يوم الجمعة فى مقهى ريش محفلا لهم يسمعهم ويتناقشون . لم ير أنهم يتميزون عنه أو أقل منه. أدرك أن هذا أمر طبيعى فالدنيا لن تقف عند أحد، والزمان يمشى إلى الأمام. نجيب محفوظ أيضا حين ذهبت السينما إليه مع بداية الستينيات، بعد أن كانت لإحسان عبد القدوس ويوسف السباعى أكثر من غيرهما، وسّعت من وجوده بلاشك، والسينما الآن غائبة عن الرواية. ليس لكاتب بعد محفوظ على سبيل المثال من كتاب الستينيات وبعدهم أكثر من فيلم أو فيلمين. السينما تراجعت كثيرا عن الرواية وعن الإنتاج. أى أن اختلاف الزمن عامل مؤثر جدا فى وجود الكاتب الآن. لم يكن نجيب محفوظ هو السبب فى تراجع السينما، ولا تراجع القراء وذهابهم إلى التسلية، من أدب رعب وبوليسى وغير ذلك، مما لم يكن موجودا فى عصر نجيب محفوظ إلا فى شكل بعض روايات مترجمة لأجاثا كريستى أو موريس لوبلان مؤلف أرسين لوبين. ما المشكلة إذن؟ المشكلة هى العصر وليس نجيب محفوظ . كانت الشهرة فى زمنه بالكتابة صارت بالجوائز. كانت الكتب والصحف هى نافذة الكاتب، فصارت الميديا التى عرفت حتى الغش بالإعلانات الممولة وصدقها الكثيرون. كانت المدارس تشجع على القراءة فصارت مكتباتها مغلقة. كان تسعة أو عشرة نقاد يكفون لمتابعة الإنتاج الأدبى، فصرنا فى حاجة إلى ألف ناقد. وهكذا حتى لا أعيد ما كتبت. العصر هو المشكلة، وليس نجيب محفوظ ولا أى كاتب.