يوميات الأخبار

ففروا إلى الله

مبروك عطية
مبروك عطية

كان علينا أن نفر من الجهل إلى العلم قبل أن تسبقنا الدنيا، وقد صرنا بلا مبالغة كفريسة الأسد الذى لم يكن منه فرار؛ فأدركه الأسد

السبت:


مم يكون الفرار؟


فى ضوء قول الله ربنا: «ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين» من سورة الذاريات تتفتح الآفاق، وتتضامن المعانى، وتنكشف الغمم، وتمطر الحروف قطرات من الندى على كل كبد متعطش لهدى القرآن الكريم، وأول ما نتوقف عنده هو قول الله (ففروا) الدال من معناه اللغوى على بذل أقصى ما فينا من قوة، وتحقيق السرعة المرجوة من مجاوزة الأخطار التى يكون الفرار منها، فأنت لا تقول: ففررت من البيت إلى العمل، وإنما تقول مشيت أو سعيت، والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: «إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» ما قال الله ففروا إلى ذكر الله، وإنما عبر بالسعى، وقد بين لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمرنا بالسعى إلى المساجد فى سكينة ووقار، ثم قال: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» أى أن على المسلم أن يسعى إلى الصلاة فى هدوء فما أدركه من صلاته خلف الإمام صلاه، وما فاته من تلك الصلاة أتمه بعد أن يسلم الإمام، ولو كان هذا الفائت جميع الركعات متى أدرك المصلين فى التشهد الأخير، وهو المعبر عنه فالفقه بصلاة المسبوق، ولو كان المسبوق سوف يأثم؛ لأن أناسا سبقوه لأمرنا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم بالفرار حتى نسلم من الآثام، وندرك الجماعة فى تكبيرة الإحرام، وقد جاء التعبير بالفرار فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه ابن حبان، وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» والشاهد فى قوله صلى الله عليه وسلم: فرارك من الأسد، فإن الأسد لا يمشى منه، وإنما يفر منه، لأن من رأى الأسد مقبلا عليه، وكان كل دوره أن يمشى معطيا إياه ظهره فقل عليه السلام؛ لأن الأسد سوف يدركه، ويأكله، لكن عليه أن يفر منه لينجو منه، ويسلم من أنيابه، وذلك ببذل أقصى ما لديه من طاقة لتكون سرعته فوق سرعة الأسد حتى يحقق لنفسه السلامة منه، وتستطيع أن تقول إن العبرة ليست فى مثال الفرار من الأسد، وإنما هى فى كل خطر يهدد سلامة الإنسان، وكرامة الأوطان، فكم من موضع يجب فيه الفرار، وما ففرنا، فقد كان علينا أن نفر من الجهل إلى العلم قبل أن تسبقنا الدنيا، وقد صرنا بلا مبالغة كفريسة الأسد الذى لم يكن منه فرار؛ فأدركه الأسد، صاروا منتجين، وصرنا المستهلكين، وعرفنا طرق المرض، وقد عرفوا هم العلاج، وصاروا يفرضون ما يريدون من أسعار، بل مما يسميه المتخصصون فى الدراسات السياسية بالعقوبات، ولو كنا متقدمين لما عاقبنا أحد، والحق تبارك وتعالى ذكر لنا قبل هذه الآية من سورة الذاريات سوء عاقبة الذين كفروا به، فمنهم من دمر عليهم كل حياتهم بإرسال الريح العقيم التى قال فيها: ما تذر من شىء إلا جعلته كالرميم، أى تحول كل ما فيه حياة من إنسان وحيوان ونبات صار رمة بلا حركة ولا ملمح من ملامح الوجود، فالحق تعالى يقول لنا: ففروا من ذلك المصير قبل أن يلحق بكم إلي،لا إلى غيرى، فغيرى لا ينجيكم من عذابى، ولا ينجو بكم من عقابى، وذلك بأن تؤمنوا بى، وتصدقوا رسولى، وتتبعوه، وتصلوا عليه وتسلموا تسليما ليس على صفحات الفيس كلاما غير مقترن باتباع سنة له تشهد بصدق صلاتكم عليه، أما أن تأكلوا أمولكم بينكم بالباطل، وتشهدوا الزور، وتسيئوا الجوار، وتغشوا فى المعاملات ثم تصلوا عليه ألوف المرات فلن تقبل منكم صلاة واحدة، وأنا أستحضر هنا حديث البخارى الذى جاء فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعظ الناس وهو متكئ مستريح حتى جاء عند نهيه إياهم عن شهادة الزور، فترك هذه الهيئة، وهب غاضبا وهو يقول :وإياكم وشهادة الزور، وأخذ يكررها، وقد احمر وجهه،وانتفخت عروق رقبته حتى قال الصحابة :وددنا لو أنه سكت من إشفاقهم عليه، وحبهم ألا يغضب إلى هذه الدرجة، وسبب استحضارى لهذا الحديث أنى أريد أن أصور للذين يصلون على النبى صلى الله عليه وسلم ملايين المرات وهم يشهدون الزور فأقول لهم :هل ترون صلاتكم عليه ولو بأضعاف هذا الرقم يقبلها منكم وهو عليكم غاضب، ومنكم ثائر، فأى عقل يقول إن ذلك صحيح ؛فانتبهوا أيها الذين يزعمون بأن الدين كلمات لا غير، وأقوال بلا أفعال، وقد ذكر العلامة القرطبى فى تفسير هذه الآية عدة أقوال للمفسرين الذين سبقوه، جاء فيها:


قوله تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يامحمد، أي قل لقومك: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: ففروا إلى الله اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر . وقال عمرو بن عثمان : فروا من أنفسكم إلى ربكم . وقال أيضا : فروا إلى ما سبق لكم من الله ولاتعتمدواعلى حركاتكم . وقال سهل بن عبد الله : فروا مما سوى الله إلى الله . إني لكم منه نذير مبين أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية.


وهذه المعانى جميعا تدل على المخاطر التى ينبغى أن نفر منها، ومنها كما ترى الفرار من المعاصى إلى التوبة، ومن عبادة الشيطان إلى عبادة الرحمن، ومن المعانى ما ذكره القرطبى عن عمرو بن عثمان وهو فروا من أنفسكم إلى ربكم، وهو ما أريد التوقف عنده لأبين للقارىء الكريم جوابا عن سؤال قد يعتريه، وهو: كيف يفر الإنسان من نفسه، حيث إنه بظاهره يوحى إلى الغرابة، والجواب أن فرار الإنسان من نفسه معناه: الفرار من وساوس تلك النفس التى هى أشد من وساوس الشياطين بدليل أن نفس ابن آدم هى التى طوعت له قتل أخيه؛ فقال تعالى: «فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين» وهذا الذى فعله من قتل أخيه جعله يتحمل نصيبه من وزر كل إنسان قتل أخاه من يومه إلى قيام الساعة كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول قاتل، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة كما أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة كذلك، ومعنى الفرار من النفس بطريقة عملية أن يعرض المؤمن ما يجول بنفسه على كتاب ربه، وسنة رسوله فما وافق عمل، وما خالف ترك غير معول على البراهين الكاذبة، والحجج الداحضة التى تملى بها نفسه عليه.


الأحد:


ثمرة الفرار


الحق تبارك وتعالى يحذرنا من يوم لقائه، ومما قاله فى ذلك فى خواتيم سورة لقمان: «يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور» وللربط بين معنى هذه الآية الكريمة، والمثال المشهور الذى جاء فيه الفرار من الأسد أقول: لو أن إنسانا رأى أسدا فى مكان معمور لوجب عليه الفرار، حيث احتمال أن يفتك به الأسد ولا يمنعه أحد عنه، فإن لقى الأسد فى مكان مهجور ليس فيه سواه والأسد كان الفرار منه أشد، لأنه لا يجد من يستغيث به، أو يراه فيدركه قبل أن يستغيث، واليوم الذى نلقى الله فيه على تلك الشاكلة، لأنه اليوم الذى لا ينفع فيه قريب قريبه، ولو كان كما نقول من الدرجة الأولى، والدا أو ولدا، أخا أو حميما مقربا، قال الله ربنا: « ولا يسأل حميم حميما، يبصرونهم « أى سوف يبصر الحميم حميمه، ويعلم أنه ليس بنافعه، وحتى لا يقول : لو رأيته لسألته، أو لو رآني لنفعنى قال الله : يبصرونهم، أى يبصر كل إنسان أحبته، يراهم ويرونه، لكن لا ينفعهم ولا ينفعونه، وهو أيضا كهذا المثال من زاوية أخرى وهى أنه أشد خطورة منه ؛فالأسد لا تنشق الأرض عنه ليخرج فجأة إلى فريسته، وإنما له مواضع يخرج منها فى الغالب كالغابات، والأماكن النائية، وهناك احتمال النجاة منه بالفرار لكن يوم اللقاء بالله يأتى فجأة غير متوقف على سن، ولا على مرض، وإنما هو أجل سماه الله من الأزل، ولايعلم به أحد سواه، ولا فرار منه، ومن منجاة، وقد قال الله تعالى :»ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها «وإنما يكون الفرار من قبل أن يأتى؛ ومن ثم كانت الحياة أكبر فرصة من أجل هذا الفرار فما دام فى صدرك نفس فلابد أن تفر من كل ما سبق ذكره من مخاطر تهدد مستقبلك عند الله، إذا صعدت روحه وأنت موقن أنها لن تعود إلا يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وثمرة الفرارتتجسد حقا لا خيالا فى النجاة من كل التردى قبل فوات الأوان، ولا أعنى بفوات الأوان هنا حصول الموت، وإنما أعنى به طول الأمد بين..

المصيبة التى كان ينبغى أن نفر منها، وبين زمن طال حتى تعودناها، وألفناها، وادعينا أنها من قضاء الله وقدره، وقد قال الله تعالى: «فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم «أى أن طول المدة يورث قسوة القلب، وإذا قسا القلب فالأمل فى الفرار من المستحيل، أو على الأقل من الصعوبة بمكان.


الاثنين:


معوقات الفرار


وأنت إذا استحضرت مثال الفرار من الأسد لم يكن صعبا عليك أن تتصور أن هناك معوقات تحول دون فرارك مثل ضعف بدنك فلا تستطيع أن تفر، أو أن تحاصرك الأسود من كل اتجاه، وقس على ذلك فرارك من أزمة ما إلى أحد من أهلك، تفر إلى بيته، وقبل أن تضع يدك على جرس بابه ترى القفل ليعلن لك أنه غير موجود، وقد يكون موجودا ويراك من العين السحرية فلا يجيبك ولا يفتح لك بابا، وقد تتصل بصاحب أو صديق أو زميل فلا تجد رصيدا معك أو تجد الشبكة معطلة، كل إنسان فى حياتك ليس مضمونا نجاح فرارك إليه، انظر إلى هذا الحديث العظيم فى معناه، حيث جاءت امرأة للنبى صلى الله عليه وسلم وكانت محتاجة ؛فسد حاجتها، وزادها، وقال لها إن احتجت إلى شىء فائتنى؛ فقالت: وإن لم أجدك؛ فقال لها: صلى الله عليه وسلم: فائت أبا بكر، قال جميع أهل العلم لم يخالف أحد فى تفسير قولها: وإن لم أجدك: تعنى الموت، أى إذا جئت إليك وقيل لى: مات فماذا أفعل؟ ولم ينكر عليها صلى الله عليه وسلم ما قالت، وسبب عدم إنكاره أن ذلك ممكن، فنصح لها إن جاءت، وقيل لها مات أن تسأل أبا بكر حاجتها، ولن تعود صفر اليدين، وقد بتنا نسمع مثل هذا الحوار لو أن إنسانا قيل له ذلك وكان كريما قال لمن سأله السؤال نفسه إذا جئت إلي، وقيل لك :مات يعوض عليك ربنا، يعنى لا أحد بعده سينفع سائله مما يدل على أن الفرار إلى الناس مشوب بالمعوقات التى تحول دون تحقق المراد الذى من أجله كان الفرار.


وما هكذا الحال فى الفرار إلى الله، حيث إنه لا معوقات له أبدا، لأنه يسعف العليل، ويجيب من سأله، وينصر من استنصره، ويكرم من لجأ إليه، يقبل توبته، ويغفر كل ذنوبه ولا يبالى ليلا كان ذلك أو نهارا، سرا كان ذلك أو جهارا، وقد تفر إلى من تثق فيه لكنك تجده عاجزا عن معونتك وهو صادق غير كاذب بخلاف الفرار إلى الله الذى لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء.