صراع على «القرن الأفريقى»

القرن الأفريقى
القرن الأفريقى

دينا توفيق

قضايا عالقة وأوضاع متردية.. سلسلة من الأزمات والخلافات المتداخلة عاشها القرن الأفريقى على مدى السنوات الأخيرة.. تعددت بؤر التوترات والنزاعات فى مختلف دوله.. الإرهاب والصراعات العرقية أبرز التحديات التى يواجهها.. ولا يزال مسلسل استغلال الطامعين لدول المنطقة مستمرا ويزداد يومًا بعد يوم، احتدام سباق النفوذ الدولى وتأمين المصالح، نظرًا لما تتمتع به تلك المنطقة من أهمية سياسية واستراتيجية واقتصادية.
 

وتشمل وفقًا للتحديد الجغرافى، دول الصومال وجيبوتى وإريتريا وإثيوبيا، فهى إحدى المناطق المحورية فى العالم، وبوابة للقارة الأفريقية التى تربط بين القارة والشرق الأوسط وآسيا، ونقطة التقاء البحر الأحمر بالمحيط الهندي، والتى تشهد منافسة متصاعدة بين القوى. كما تطل على مضيق باب المندب، أحد أهم طرق التجارة البحرية ونقل الطاقة فى العالم، حيث يمر عبره 25% من الصادرات العالمية و 30% من النفط المتجه إلى الغرب، حيث تتجاوز التجارة السنوية 700 مليار دولار، وعبور 25ألف سفينة وما يقرب من مليارى برميل من النفط تمر سنويًا عبر المضيق الاستراتيجي. ويعد القرن الأفريقى ومنطقة البحر الأحمر تجمعًا للموانئ البحرية ذات الأهمية الاقتصادية والعسكرية للدول المتنافسة إقليميًا وعالميًا. هذا بالإضافة إلى أهميتها الاستراتيجية، حيث تقع فى قلب "مبادرة الحزام والطريق الصينية"، وتعتبر جزءًا من مشروع "ممر النمو الأفريقى الآسيوي" الذى تطلقه اليابان وشركاؤها، وهذا يحث الحلفاء الإقليميين لكلا الجانبين على البحث عن أدوارهم فى مشاريعهم العالمية.
ويواجه القرن الأفريقى أزمات لا تعد ولا تحصى؛ إلى جانب التأثير المدمر المحتمل لفيروس كوفيد-19 على السياسة والاقتصاد، فإن المنطقة تكافح مع التحولات المضطربة عبر الحدود وتظل ملعبًا لمنافسة القوى العظمى. 
والمكانة الاستراتيجية لدولة جيبوتى جعلتها حارسًا طبيعيًا لباب المندب، وهو ما يمنحها ثروة بحرية ويجعلها ركيزة أساسية فى سياسات الدول المتنافسة لتعزيز النفوذ، كما يتضح من احتضانها لسبعة قواعد عسكرية للقوى الدولية على أراضيها؛ منها قاعدة معسكر «ليمونير» التابعة للبحرية الأمريكية، وقاعدة قوات الدفاع الذاتى اليابانية «JSDF»، بالإضافة إلى قاعدة «هيرون» البحرية الفرنسية. وكانت الولايات المتحدة من أشد المنتقدين للتوغلات الصينية فى القرن الأفريقي، وخاصة فى جيبوتي، التى يُنظر إليها منذ فترة طويلة على أنها منطقة نفوذ أمريكية. سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى إحباط النفوذ الصينى والروسى ومحاولاتهما المتعمدة خلق استثمارات فى المنطقة لكسب ميزة تنافسية على الولايات المتحدة. 
تأسست القاعدة البحرية الصينية كأول قاعدة أجنبية لجيش التحرير الشعبى عام 2017 فى جيبوتي، أصغر دولة فى القارة السمراء، وعلى مدى سنوات، اندلعت صراعات أهلية متعددة فى الصومال والسودان واليمن، مما زاد من مستوى التهديد لحرية الملاحة. وتعد القاعدة جزءًا من سياسة الصين الشاملة تجاه جيبوتي، والتى تهدف إلى تعزيز مكانة بكين كشريك اقتصادى رئيسى للدول الواقعة فى القرن الأفريقي، بالإضافة إلى توفير الأمن للسفن الصينية ودعم بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.


ومنذ إنشاء القاعدة، وفقًا لمعهد "وراسو" للشئون السياسية، كانت هناك اتهامات عديدة، وجهها مسئولو الإدارة الأمريكية، بأنها محاولة صينية للتوسع فى المحيط الهندي. وفى أبريل 2021، أشار قائد القيادة الأمريكية فى أفريقيا الجنرال "ستيفن تاونسند" خلال جلسة استماع أمام الكونجرس إلى أن الصين تقوم بتوسيع الميناء لاستيعاب حاملات الطائرات فى المستقبل. ومع ذلك، ووفقًا لبيان الحكومة الصينية، فإن الهدف من القاعدة هو الوفاء بالالتزامات الدولية من خلال تقديم المساعدات الإنسانية، ودعم عمليات حفظ السلام فى القارة عامة، والمساعدة فى مهام مكافحة القرصنة المستمرة وكذلك الحفاظ على الاستقرار فى المنطقة. ومنذ عدة سنوات، اتبعت سلطات جيبوتى سياسة تهدف إلى تحويل الدولة الصغيرة إلى مركز نقل وكذلك مالي، على غرار نموذج سنغافورة، الذى من خلاله ستتم التدفقات المالية والتجارية بين أفريقيا وآسيا، وفقًا لمجلة "ذا ديبلومات" المتخصصة فى شئون منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وتلبى السلطات الصينية هذه الخطط من خلال تقديم التعاون فى إطار مبادرة الحزام والطريق. وتشمل المشاريع الرئيسية للصين فى المنطقة ميناء "دوراليه" متعدد الأغراض بتكلفة بلغت 590 مليون دولار، وخط السكك الحديدية بين جيبوتى وإثيوبيا. وتم افتتاح خط السكك الحديدية عام 2017، وتم تمويله بنسبة 70% بقرض من بنك Eximbank الصينى بالتعاون مع مجموعة السكك الحديدية الصينية «CREC» وكذلك شركة الإنشاءات الهندسية المدنية الصينية «CCECC». وفى العام ذاته، تم إنشاء منطقة التجارة الدولية الحرة، بالإضافة إلى ذلك، تم تشغيل شبكة أنابيب المياه والآبار والخزانات فى عام 2017 لمعالجة نقص المياه. كما تم تمويل المشروع الذى تبلغ قيمته 330 مليون دولار من قبل بنك التصدير والاستيراد الصيني، فى حين كانت شركة CGC الصينية للإنشاءات مسئولة عن تنفيذه.


وفى فبراير عام 2019، وقعت السلطات الإثيوبية والجيبوتية مذكرة تفاهم لبناء خط أنابيب للغاز الطبيعى بقيمة 4 مليارات دولار، وإنشاء محطة تصدير للغاز الطبيعى المسال «LNG». وفى السنوات الأخيرة، أصبحت الصين دائنًا رئيسيًا لجيبوتى، حيث بلغ إجمالى ديونها الخارجية حوالى 66-70% من الناتج المحلى الإجمالى.
وبرزت إثيوبيا كثانى أكبر مقترض أفريقى من الصين وشريك رئيسى فى مبادرة الحزام والطريق. كما أصبحت إثيوبيا أيضًا منصة إقليمية للصين. 
تستفيد الصين من الاهتمام المتقطع والتركيز الأمنى الضيق لسياسة الولايات المتحدة فى المنطقة، فضلاً عن الإحباط الأفريقى والتعب من الجهات المانحة والشركاء الغربيين التقليديين. وخلال قمة مجموعة السبع، التى عقدت فى كورنوال البريطانية خلال يونيو الماضي، أعلنت الولايات المتحدة عن خطط لإطلاق مشروع تنافسى "إعادة بناء عالم أفضل" (B3W)، التى تبنتها الدول السبع الكبرى، للتصدى للصين. ويهدف إلى زيادة الاستثمار عالى الجودة فى البنية التحتية فى البلدان النامية منخفضة ومتوسطة الدخل تكون بمثابة البديل المنافس لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية. ومن المحتمل أن تملأ هذه المنصة فجوة موجودة، لكنها لا تزال فى مرحلة التخطيط ومن السابق لأوانه الحكم على ما إذا كان يمكن أن تصبح بديلاً لمبادرة الحزام والطريق.
ويؤكد قرار الإدارة الأمريكية  فى أبريل الماضى بتعيين الدبلوماسى المعروف فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، "جيفرى فيلتمان" ليكون مبعوث الولايات المتحدة للمنطقة، الأهمية الاستراتيجية للمنطقة بالنسبة لأولويات السياسة الخارجية لبايدن ورغبته فى تحديد انفصال واضح عن حقبة الرئيس السابق "دونالد ترامب"، وفقًا لصحيفة "واشنطن بوست". وقد جذب التصعيد الدراماتيكى للعنف فى الإقليم الإثيوبى فى أعقاب الحملة العسكرية التى شنها آبى ضد جبهة تحرير شعب تيجراى، الانتباه الدولي. وأشار وزير الخارجية الأمريكى بلينكين إلى انتهاكات حقوق الإنسان فى الإقليم على أنها "تطهير عرقي". والأكثر دلالة، لقد حذرت واشنطن من أن حجم الأزمة الحالية فى إثيوبيا، التى شهدت نزوح مليون شخص و56 ألف لاجئ عبر الحدود إلى السودان، قد ترسخ الصراع وتشكل تهديدًا طويل الأمد للسلام والأمن العالمى.


كما دخل القرن الأفريقى فترة تميزت ليس فقط بالتغيير التحولى المحتمل ولكن أيضًا بالنشاط الإقليمى المتزايد بدافع المصالح الاقتصادية والاعتبارات الجيوسياسية، حيث أصبحت بعض دول الخليج العربية، وكذلك تركيا جهات فاعلة خارجية بارزة بشكل متزايد فى المنطقة، وبين عامى 2000 و 2017،  استمرت الأموال الخليجية فى التدفق إلى القرن الأفريقى. وعلى مدى العقد الماضي، أصبحت دول الخليج تعتبر المنطقة «جزءًا لا يتجزأ من محيطها الأمنى الأساسى». لمواجهة صعود تنظيم داعش، والنشاط الإيرانى المتزايد فى المنطقة، والصراع فى اليمن.