«السيفون».. وسد النهضة

محمد محمود
محمد محمود

ما زالت أزمة سد النهضة الإثيوبى تُراوح مكانها، مع تمسُّك إثيوبيا بموقفها، وسط وساطةٍ جزائريَّةٍ، ربَّما لاقت تجاوبًا إلى حدٍّ ما من قبل الأطراف الثلاثة؛ مصر والسودان وصاحبة السد إثيوبيا. 

لا أحد يُنكر أن الوصول إلى اتفاقيةٍ مُلزمةٍ حول ملء خزان سد النهضة وتشغيله؛ هو هدف مصر الأول من المفاوضات الفنيَّة والسياسيَّة، التى استمرَّت سنوات طويلة بشأن السد، والتى اختارت فيها مصر الدبلوماسيَّة المعهودة عنها، بديلًا عن الانجرار إلى آتون الحروب التى لا يُحمد عُقباها، رغم تعجرف الطرف الإثيوبى ومُراوغته غير المقبولة، طوال أمد التفاوض.

هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى نجد أن مصر ودَّعت بالفعل عَصر الوفرة المائية، ودخلت بسرعة البرق عهد النُدرة، ولم يعد أمامنا سوى ضرورة ترشيد استهلاك المياه فى جميع الاستخدامات المائيَّة، بجانب البحث عن حلولٍ جديدةٍ؛ لتوفير المياه وتقليل الفاقد منها، وسد العجز الذى تُواجهه البلاد، والمُتوقع زيادته أكثر خلال الفترة المقبلة، خاصةً مع الزيادة السكانية المُطردة عامًا بعد عامٍ، إضافةً لثبات حصتنا من مياه النيل منذ بناء السد العالى، فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث كان تعداد سكان مصر فى هذا الوقت حوالى ٢٣ مليون نسمة، وهذا يعنى أن حصة الفرد من المياه فى هذا الوقت، مقسمةٌ الآن على نحو اربعة أفراد ونصف؛ بعد أن بلغ تعداد السكان اليوم ما يزيد على ١٠٢ مليون نسمة يعيشون على ظهر المحروسة. 

لقد فرضت تلك التحديات على الدولة فرضًا التفكير خارج الصندوق؛ للخروج من عُنق الزجاجة، وإيجاد البدائل التى تُلبى مطالب شعب المئة مليون، لذلك اتجهت الدولة لتحلية مياه البحر؛ كخطةٍ استراتيجيةٍ يُعتمد عليها مُستقبلًا، بمعاونة شريكٍ روسىٍّ، كما سلكت أيضًا طرق الترشيد الحديثة فى الزراعة؛ مثل الرى بالتنقيط بديلًا عن الغمر، والحد من زراعة الأرز، ذلك المحصول الهادر للمياه، ثم البحث عن المياه الجوفية بباطن الأرض، وغيرها من أساليب الحلول المختلفة لتلك الأزمة المُعقَّدة، التى كانت وما زالت تُهدِّد النبات والجماد والدواب وكل من يبغى الحياة، فى رقعةٍ تُعانى شُحًا مائيًا، لولا مَنْ الله عليها بينبوع نيلها الأعظم بحصة مياه.

لكن رغم كل هذه الحلول المُبتكرة، وتلك السُبل المُتبعة التى تعمل عليها الأجهزة المعنية بكامل طاقتها، تبقى المُعضلة قائمةً، فحتى الآن لم نخرج من الدائرة المُغلقة، وذلك القفص الرباعى الأضلاع، فى إيجادٍ مخرجٍ من تلك الأزمة البالغة الخطورة، إذ ما زال السلوك الاستهلاكى للمياه كما هو دون تغييرٍ، بل قد يكون الإسراف فى تزايدٍ مستمرٍ، وسط استنزافٍ وتبذيرٍ كبيرين للمياه العذبة والمُحلاة والصالحة للشرب؛ منها إهدار المياه عند استخدام "السيفون" الموجود بمرحاض كل منزلٍ، وقد تسخر من حديثى هذا؛ لكن بحسبةٍ بسيطةٍ، يُمكنك أن تعرف أن حجم إهدار مياه الشرب من خلال السيفون، فنحن لو افترضنا أن أعداد المواليد أقل من أربع سنواتٍ حوالى 10 ملايين طفلٍ، وذلك حسب متوسط أعداد المواليد سنويًا الذى يقترب من 3.2 مليون طفل، إذن هناك 92 مليون شخص يدخلون الحمام يوميًا، ونفترض أن متوسط عدد مرات الدخول فى اليوم 4 مرات، سيكون الناتج 368 مليون مرة، ونفترض أيضًا أن متوسط سعة السيفون من المياه 5 إلى 10 لترات فى المرة الواحدة، سنجد أن فى اليوم الواحد نفقد حوالى 3 مليارات لتر مياه عذبة نظيفة تم تطهيرها، ومرت بمراحل المعالجة؛ بنفقات مُضافة عن طريق الشبة والكلور؛ حتى تكون صالحةً للشرب، ونحن نُهدرها فى الصرف الصحى.

هذا مثالٌ واحدٌ من أمثلة أخرى كثيرة لطُرق الإسراف والتبذير، لذلك يجب أن نخرج من الدائرة المُحكمة الغلق، ونعلم حجم المشكلة الحقيقى؛ ليأتى هنا دور هيئة الصرف الصحى، التى يجب عليها وضع حلولٍ سريعةٍ لمعالجة هذا الإسراف، قبل التعمُّق فى عهد ندرة المياه، والدخول إلى النفق المُظلم الذى لا يُؤمن مخاطره، ومن ثمَّ الخروج منه بسلامٍ وأمان.. اللهم بلغت، اللهم فاشهد.