السرد بين جماليات الأدب وتدوين التاريخ

السرد بين جماليات الأدب وتدوين التاريخ
السرد بين جماليات الأدب وتدوين التاريخ

كتب : محمد‭ ‬سليم‭ ‬شوشة

تمثل‭ ‬تجربة‭ ‬الأديب‭ ‬اللبنانى‭ ‬الكبير‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬الذى‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬مشروعا‭ ‬أدبيا‭ ‬كبيرا‭ ‬له‭ ‬خصوصيته‭ ‬وأهميته،‭ ‬ويبدو‭ ‬فى‭ ‬نتاج‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬الأدبى‭ ‬قدر‭ ‬الجهد‭ ‬وقدر‭ ‬الموهبة‭ ‬ونستكشف‭ ‬فيه‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الملامح‭ ‬والأهداف‭ ‬الأخرى‭ ‬التى‭ ‬تبرز‭ ‬أهميته‭ ‬وثرائه،‭ ‬فالمشروع‭ ‬الأدبى‭ ‬الكبير‭ ‬والممتد‭ ‬هو‭ ‬فى‭ ‬الغالب‭ ‬يحمل‭ ‬بداخله‭ ‬مشروعا‭ ‬فكريا‭ ‬وثقافيا‭ ‬ونزوعا‭ ‬جماليا‭ ‬معينا،‭ ‬وربما‭ ‬يحمل‭ ‬أبعادا‭ ‬فلسفية‭ ‬أو‭ ‬يجنُّ‭ ‬بداخله‭ ‬فلسفة‭ ‬خاصة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬الفنون‭ ‬الأدبية‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬الفلسفية‭ ‬الواضحة‭ ‬فى‭ ‬بابها‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬بالأدب‭ ‬من‭ ‬فلسفة‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مباشرا‭ ‬ويحتاج‭ ‬إلى‭ ‬استخلاص‭ ‬ودراسات‭ ‬تستكشفها‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الجمالية‭ ‬يبدو‭ ‬واضحا‭ ‬أنه‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الروائيين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬اصطناع‭ ‬الشكل‭ ‬الروائى‭ ‬المشوق‭ ‬أو‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬البناء‭ ‬البوليسى،‭ ‬فيبدو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬متبنيا‭ ‬للنزعة‭ ‬السائدة‭ ‬لدى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الروائيين‭ ‬البارزين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬الجادة‭ ‬أو‭ ‬المهمة‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يمنعها‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بوليسية‭ ‬فى‭ ‬شكلها‭ ‬حتى‭ ‬تتوافر‭ ‬لها‭ ‬مقومات‭ ‬القراءة‭ ‬الواسعة‭ ‬وأسبابها،

‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬رواياته،‭ ‬وهذه‭ ‬النزعة‭ ‬بدأها‭ ‬إمبرتو‭ ‬إيكو‭ ‬فى‭ ‬اسم‭ ‬الوردة‭ ‬وتابعه‭ ‬فيها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الروائيين‭ ‬الآخرين،‭ ‬مثل‭ ‬جون‭ ‬ماكسويل‭ ‬كوتزى‭ ‬وأورهان‭ ‬باموق‭ ‬وإيزابيل‭ ‬أليندى‭ ‬وخالد‭ ‬حسينى‭ ‬وأفونسو‭ ‬كروش‭ ‬وكارلوس‭ ‬زافون‭

. ‬وفى‭ ‬تقديرى‭ ‬الشخصى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬لدى‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬المراحل‭ ‬وتجسدت‭ ‬بشكل‭ ‬قوى‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬اللص‭ ‬والكلاب‭. ‬والنزوع‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬التشويق‭ ‬فى‭ ‬أقصى‭ ‬صوره‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أهداف‭ ‬الخطاب‭ ‬الروائي‭. ‬المهم‭ ‬فى‭ ‬تقديرنا‭ ‬أن‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬كان‭ ‬حريصا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬فى‭ ‬أبرز‭ ‬أعماله‭ ‬ونجح‭ ‬فيه‭ ‬بجدارة‭ ‬كبيرة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسلب‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬البوليسى‭ ‬إبداعه‭ ‬أى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬أهميته‭ ‬أو‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬نوازعه‭ ‬الأخرى‭ ‬وأهدافه‭ ‬الجمالية‭ ‬والدلالية‭ ‬التى‭ ‬تخص‭ ‬المضمون،‭

‬ولم‭ ‬ينزل‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬سطحى‭ ‬أو‭ ‬نماذج‭ ‬إنسانية‭ ‬وشخصيات‭ ‬مكررة‭ ‬أو‭ ‬نمطية‭. ‬فتحقق‭ ‬لديه‭ ‬الخصوصية‭ ‬فى‭ ‬الشكل‭ ‬والخصوصية‭ ‬فى‭ ‬عوالمه‭ ‬الروائية،‭ ‬فتظل‭ ‬شخصياته‭ ‬حاضرة‭ ‬فى‭ ‬مخيلة‭ ‬المتلقى‭ ‬بأوضح‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬بارزة‭ ‬وذات‭ ‬مذاق‭ ‬خاص‭. ‬

تحققت‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬البوليسية‭ ‬والقدرات‭ ‬التشويقية‭ ‬الكبيرة‭ ‬فى‭ ‬روايات‭ ‬مثل‭ ‬زملك‭ ‬الهندس‭ ‬وسحى‭ ‬الأمريكانس‭ ‬وسمطر‭ ‬حزيرانس‭ ‬وسشريد‭ ‬المنازلس‭ ‬وبصورة‭ ‬أقوى‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬زطبع‭ ‬فى‭ ‬بيروتس،‭ ‬فنجد‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التمثيل‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬ملك‭ ‬الهند‭ ‬أن‭ ‬جريمة‭ ‬القتل‭ ‬الغامض‭ ‬والمحيرة‭ ‬تقع‭ ‬فى‭ ‬أول‭ ‬الرواية‭ ‬عبر‭ ‬سرد‭ ‬مشهدى‭ ‬سينمائى‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬واضحا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬القاتل‭ ‬أو‭ ‬هل‭ ‬هى‭ ‬جريمة‭ ‬انتحار‭ ‬وتظل‭ ‬هذه‭ ‬الاحتمالات‭ ‬قائمة‭ ‬مع‭ ‬التوغل‭ ‬فى‭ ‬السرد‭ ‬وقرب‭ ‬نهايته،‭ ‬ويسيرالسرد‭ ‬فى‭ ‬اتجاه‭ ‬استعادة‭ ‬تاريخ‭ ‬الشخصية‭ ‬وتاريخ‭ ‬عائلتها‭ ‬ويكشف‭ ‬كافة‭ ‬تقاطعاتهاا‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬وماضيها‭ ‬عبر‭ ‬مسار‭ ‬التحقيقات‭ ‬وشخصية‭ ‬المحقق‭ ‬الذى‭ ‬تمثل‭ ‬قصته‭ ‬إطارا‭ ‬لهذه‭ ‬الجريمة‭ ‬أو‭ ‬الحادثة،‭ ‬فى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الشراكة‭ ‬بين‭ ‬المحقق‭ ‬والمتلقى‭ ‬فى‭ ‬استكشاف‭ ‬الحقيقة‭ ‬والتفاعل‭ ‬السردى‭ ‬معها‭ ‬وترجيح‭ ‬بعض‭ ‬الاحتمالات،‭ ‬ودفع‭ ‬المتلقى‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬مرجحا‭ ‬لاحتمال‭ ‬على‭ ‬آخر،‭ ‬وهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬المحفز‭ ‬للمتلقى‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شريكا‭ ‬فى‭ ‬التفكير‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬مراحله‭ ‬هو‭ ‬الشكل‭ ‬المثالى‭ ‬تقريبا‭ ‬لأنه‭ ‬يحقق‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬دمج‭ ‬للمتلقى‭ ‬فى‭ ‬العمل،‭ ‬ويجعله‭ ‬يتماهى‭ ‬مع‭ ‬الشخصيات‭ ‬ويصبح‭ ‬متأملا‭ ‬ومفكرا‭ ‬وليس‭ ‬مستقبلا‭ ‬سلبيا‭. ‬

وهذا‭ ‬الشكل‭ ‬البوليسى‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬استراتيجيات‭ ‬عديدة‭ ‬عند‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬خاصة‭ ‬بالتشكيل‭ ‬الزمنى‭ ‬أو‭ ‬التصرف‭ ‬الفنى‭ ‬فيه‭ ‬وخاصة‭ ‬بالمكان‭ ‬وتكوين‭ ‬الشخصيات‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬الحكائية‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تأخذ‭ ‬مسارات‭ ‬سردية‭ ‬ويتعامل‭ ‬معها‭ ‬الخطاب‭ ‬السردى‭ ‬وفق‭ ‬استراتيجيات‭ ‬متنوعة،‭ ‬فنجده‭ ‬مثلا‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬حى‭ ‬الأمريكان‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬اختفاء‭ ‬الابن‭ ‬إسماعيل‭ ‬ابن‭ ‬بلال‭ ‬محسن،‭ ‬أى‭ ‬من‭ ‬الحدث‭ ‬الأبرز‭ ‬والأهم،‭ ‬وغموض‭ ‬هذا‭ ‬الاختفاء‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬اتصالات‭ ‬غامضة‭ ‬تأتى‭ ‬لأمه‭ ‬انتصار،‭ ‬وانطلاقا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬البوليسى‭ ‬يبدأ‭ ‬فى‭ ‬تشكيل‭ ‬حكايات‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬وتكوينه،‭ ‬واسترجاع‭ ‬طفولته،‭ ‬بل‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أمه‭ ‬وعائلته‭ ‬بشكل‭ ‬تفصيلى‭ ‬وكأن‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬منهم‭ ‬هى‭ ‬البطل‭ ‬أو‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة،‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬يأتى‭ ‬بتقطيع‭ ‬وعودة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬الحدث‭ ‬البوليسى‭ ‬الإطار،‭ ‬وعبر‭ ‬سرد‭ ‬تفريعى‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬فيه‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬التشويق‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬أو‭ ‬ارتكازا‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬طبيعة‭ ‬المرحلة،‭ ‬فنجده‭ ‬مثلا‭ ‬فى‭ ‬قص‭ ‬حكاية‭ ‬الأم‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬الأبعاد‭ ‬السياسية‭ ‬لعائلة‭ ‬مصطفى‭ ‬العزام‭ ‬مخدوم‭ ‬عائلة‭ ‬الأم‭ ‬وكافة‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬العائلة،‭ ‬وفى‭ ‬تتبع‭ ‬تاريخ‭ ‬الأب‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬وما‭ ‬عاشته‭ ‬طرابلس‭ ‬فى‭ ‬ظلها‭ ‬من‭ ‬هجوم‭ ‬واقتحام‭ ‬وتبادل‭ ‬للعمليات‭ ‬الثأرية‭ ‬وحالات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬التشرد،‭ ‬وهكذا‭ ‬فيجد‭ ‬القارئ‭ ‬نفسه‭ ‬دائما‭ ‬أمام‭ ‬عالم‭ ‬صاخب‭ ‬دائما‭ ‬وحيوى‭ ‬ومشتعل‭ ‬بالأحداث‭ ‬المهمة،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬الخال‭ ‬مثلا،‭ ‬نجد‭ ‬سفرياته‭ ‬ورحلاته‭ ‬الخارجية‭ ‬وأمراضه‭ ‬النفسية‭ ‬وإدمانه‭ ‬وخيباته‭ ‬السياسية‭ ‬وبخاصة‭ ‬وهو‭ ‬يتابع‭ ‬خطاب‭ ‬التنحى‭ ‬للرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭. ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬السرد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬إسماعيل‭ ‬الشخص‭ ‬المختفى‭ ‬وكأن‭ ‬السرد‭ ‬بصدد‭ ‬استعراضه‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬الجوانب‭ ‬ليستكشف‭ ‬أو‭ ‬يستجلى‭ ‬أسباب‭ ‬اختطافه،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬مرحله‭ ‬استكشاف‭ ‬مصيره‭ ‬وتحريره‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬حيا‭. ‬ويكاد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬البوليسى‭ ‬غالبا‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الروايات،‭ ‬فنجده‭ ‬أيضا‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬طبع‭ ‬فى‭ ‬بيروت‭ ‬حيث‭ ‬استكشاف‭ ‬مصير‭ ‬المخطوط‭ ‬المختفى‭ ‬أو‭ ‬مصير‭ ‬فريد‭ ‬أبو‭ ‬شعر‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬الذى‭ ‬تم‭ ‬إقحامه‭ ‬فى‭ ‬جريمة‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬ذنب‭ ‬فيها‭ ‬بسبب‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬المرأة‭ ‬الغامضة‭ ‬بيرسفون‭ ‬زوجة‭ ‬مالك‭ ‬المطبعة‭. ‬

ليس‭ ‬التشويق‭ ‬فقط‭ ‬هو‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬لدى‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى،‭ ‬ففى‭ ‬الواقع‭ ‬تصبح‭ ‬رواياته‭ ‬مرجعا‭ ‬تاريخيا‭ ‬مهما،‭ ‬ولا‭ ‬أعنى‭ ‬هنا‭ ‬التأريخ‭ ‬بالشكل‭ ‬التقليدى‭ ‬المرجعى‭ ‬أو‭ ‬الأكاديمى،‭ ‬بل‭ ‬التأريخ‭ ‬والتسجيل‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬الفن‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬للفن‭ ‬من‭ ‬السطوة‭ ‬فى‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬فإن‭ ‬التاريخ‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬التاريخية‭ ‬الخالصة‭ ‬يصبح‭ ‬مشكوكا‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬متأثرا‭ ‬بأهداف‭ ‬مدونه‭ ‬أو‭ ‬كاتب‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬التأريخى،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬أى‭ ‬كتابة‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬تفتح‭ ‬حوارا‭ ‬مع‭ ‬المتلقى‭ ‬حول‭ ‬حوادث‭ ‬بعينها‭ ‬أو‭ ‬تاريخ‭ ‬بعينه‭ ‬وتمتد‭ ‬فى‭ ‬جدلها‭ ‬معه‭ ‬بما‭ ‬يحفز‭ ‬على‭ ‬المعرفة‭ ‬ويجعله‭ ‬يسعى‭ ‬ويطلع‭ ‬ويستكشف،‭ ‬يقرأ‭ ‬ويصدق‭ ‬أو‭ ‬يقرأ‭ ‬ويشكك‭ ‬أو‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬مصادر‭ ‬أخرى‭ ‬ليقارن‭ ‬ويقابل‭ ‬بينها‭. ‬

فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬بل‭ ‬يكاد‭ ‬كلها‭ ‬يجد‭ ‬المتلقى‭ ‬التاريخ‭ ‬اللبنانى‭ ‬حاضرا‭ ‬بكافة‭ ‬مراحله‭ ‬فى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬العثمانى‭ ‬وبخاصة‭ ‬آخره‭ ‬أو‭ ‬نهاياته‭ ‬ومرحلة‭ ‬الانسحاب‭ ‬تحديدا،‭ ‬ثم‭ ‬مرحلة‭ ‬الوصاية‭ ‬الفرنسية‭ ‬وعصر‭ ‬الجمهورية‭ ‬ثم‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬وحتى‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭ ‬أو‭ ‬راهن‭ ‬الكتابة‭ ‬وزمن‭ ‬إنشاء‭ ‬الخطاب‭ ‬الروائي‭. ‬

وفكرة‭ ‬التأريخ‭ ‬لديه‭ ‬تتجاوز‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسى‭ ‬أو‭ ‬المراحل‭ ‬المشتعلة‭ ‬سياسيا‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬التأريخ‭ ‬الإنسانى‭ ‬الشامل،‭ ‬فنجده‭ ‬يؤرخ‭ ‬للبشر‭ ‬والثقافة‭ ‬والحرف‭ ‬أو‭ ‬الصناعات‭ ‬الخاصة‭ ‬واليدوية،‭ ‬يؤرخ‭ ‬للبناء‭ ‬والحضارة‭ ‬والتطور‭ ‬العمرانى‭ ‬والسكانى‭ ‬والتغيرات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والطبقية،‭ ‬فيصبح‭ ‬أدبه‭ ‬سجلا‭ ‬حافلا‭ ‬بكافة‭ ‬التحولات‭ ‬الدقيقة‭ ‬للبنان‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬للسياسة‭ ‬أو‭ ‬الحوادث‭ ‬الكبرى‭ ‬التى‭ ‬حتما‭ ‬هى‭ ‬بارزة‭ ‬وظاهرة‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬أدباء‭ ‬آخرين‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تخطيها‭. ‬

فى‭ ‬رواياته‭ ‬يؤرخ‭ ‬للتحولات‭ ‬النفسية‭ ‬والذهنية‭ ‬والثقافية‭ ‬للإنسان‭ ‬اللبنانى‭ ‬ويعبر‭ ‬عن‭ ‬محيطه‭ ‬الاجتماعى‭ ‬والاقتصادى‭ ‬والعوامل‭ ‬التى‭ ‬تمارس‭ ‬تأثيرها‭ ‬وفاعليتها‭ ‬عليه‭ ‬متخطية‭ ‬الحدود،‭ ‬فنجد‭ ‬لبنان‭ ‬متأثرا‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬بما‭ ‬يدور‭ ‬بين‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان‭ ‬أو‭ ‬يتأثر‭ ‬بما‭ ‬يقع‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬فى‭ ‬العراق،‭ ‬ويبدو‭ ‬أثر‭ ‬هذا‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬فى‭ ‬الإنسان‭ ‬وأنماط‭ ‬الحياة‭. ‬يرصد‭ ‬برهافة‭ ‬تغلغل‭ ‬الطائفية‭ ‬فى‭ ‬قطاعات‭ ‬عريضة‭ ‬وكيف‭ ‬تغذيها‭ ‬الجماعات‭ ‬المتطرفة‭ ‬ويرصد‭ ‬أثر‭ ‬الفساد‭ ‬السياسى‭ ‬وبعض‭ ‬الممارسات‭ ‬الفاسدة‭ ‬فى‭ ‬الاتجار‭ ‬فى‭ ‬السلاح‭ ‬أو‭ ‬العملة‭ ‬المزورة‭ ‬أو‭ ‬المخدرات‭ ‬تحت‭ ‬غطاءات‭ ‬سياسية‭ ‬طائفية‭ ‬وأثرها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬العادى،‭ ‬يرصد‭ ‬بدقة‭ ‬تحول‭ ‬الأسر‭ ‬والعائلات‭ ‬وتأثر‭ ‬إيقاعهم‭ ‬بهذه‭ ‬الأمور،‭ ‬فيحدث‭ ‬لديه‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬الجماعى‭ ‬إلى‭ ‬الفردى‭ ‬أو‭ ‬العكس‭ ‬بنعومة‭ ‬وتدرج‭ ‬شديدين‭.‬

يبدو‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬مغرما‭ ‬باصطياد‭ ‬إيقاع‭ ‬الحياة‭ ‬اللبنانية‭ ‬فى‭ ‬مراحل‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان‭ ‬فى‭ ‬خطابه‭ ‬السردى،‭ ‬فيبدأ‭ ‬بتصوير‭ ‬تفصيلى‭ ‬ورصد‭ ‬مشهدى‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الفردى‭ ‬أو‭ ‬المشهد‭ ‬القريب‭ ‬المركز‭ ‬على‭ ‬البطل‭ ‬وبين‭ ‬الجماعى‭ ‬أو‭ ‬البانورامى‭ ‬الذى‭ ‬يرصد‭ ‬إيقاع‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬المدينة‭ ‬كلها‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬بيروت‭ ‬أو‭ ‬طرابلس‭ ‬وهما‭ ‬أكثر‭ ‬مدينتين‭ ‬حاضرتين‭ ‬لديه،‭ ‬ليقتنص‭ ‬إيقاع‭ ‬الحياة‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬الجوانب‭ ‬ويرصد‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬الإنسان‭ ‬اللبنانى‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الظروف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والأسعار‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬وطبيعة‭ ‬المواد‭ ‬والكتب‭ ‬المطروحة‭ ‬والقراءة‭ ‬والغناء‭ ‬والموسيقى‭ ‬فى‭ ‬البلد‭ ‬وحالة‭ ‬التعليم‭ ‬والمدارس‭ ‬فيبدو‭ ‬غير‭ ‬مقيد‭ ‬فى‭ ‬روايته‭ ‬بالحكاية‭ ‬الشخصية‭ ‬فقط‭ ‬أو‭ ‬بأبعادها‭ ‬الفردية،‭ ‬وإنما‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الفردى‭ ‬والجماعى‭ ‬برهافة‭ ‬شديدة‭ ‬دون‭ ‬إخلال‭ ‬بالتركيز‭ ‬أو‭ ‬تكثيف‭ ‬الخطاب،‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬لديه‭ ‬أدنى‭ ‬إسهاب‭ ‬أو‭ ‬ترهلات،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬يأتى‭ ‬السرد‭ ‬لديه‭ ‬مكثفا‭ ‬ومركزا‭ ‬بشدة‭ ‬على‭ ‬الحكاية‭ ‬أو‭ ‬البنية‭ ‬الدرامية‭ ‬التى‭ ‬قصد‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬تتبعها،‭ ‬وهذا‭ ‬التوفيق‭ ‬الشديد‭ ‬والتوازن‭ ‬البارع‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬يحقق‭ ‬الجماعى‭ ‬والبانورامى‭ ‬والرصد‭ ‬الاجتماعى‭ ‬الشامل‭ ‬عبر‭ ‬تفاصيل‭ ‬الفردى‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شخصياته‭ ‬وحكاياتهم‭ ‬أو‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتهم‭. ‬

يبدو‭ ‬لبنان‭ ‬فى‭ ‬رواياته‭ ‬بصورته‭ ‬المتشابكة‭ ‬كثيفة‭ ‬التفاصيل‭ ‬والتقاطعات،‭ ‬ويبدو‭ ‬فى‭ ‬غاية‭ ‬البراعة‭ ‬حين‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬التى‭ ‬تعيش‭ ‬بين‭ ‬هويتين‭ ‬أو‭ ‬ثقافتين،‭ ‬فهو‭ ‬فى‭ ‬تقديرى‭ ‬الشخصى‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أبرع‭ ‬الروائيين‭ ‬الذين‭ ‬يرصدون‭ ‬تحول‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬يجسد‭ ‬كيف‭ ‬يعيش‭ ‬الأجانب‭ ‬فى‭ ‬لبنان‭ ‬من‭ ‬الأرمن‭ ‬أو‭ ‬اليونانيين‭ ‬أو‭ ‬الإيطاليين‭ ‬أو‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الجنسيات‭ ‬وفكرة‭ ‬تحولات‭ ‬البشر‭ ‬فى‭ ‬طائفة‭ ‬أو‭ ‬دين‭ ‬أو‭ ‬ثقافة‭ ‬أو‭ ‬لغة‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬التنويعات،‭ ‬حتى‭ ‬فكرة‭ ‬التحول‭ ‬عن‭ ‬العائلة‭ ‬أو‭ ‬تغيير‭ ‬الاسم‭ ‬ليصبح‭ ‬الشخص‭ ‬شخصا‭ ‬آخر،‭ ‬ويبدو‭ ‬هذا‭ ‬واضحا‭ ‬مثلا‭ ‬لدى‭ ‬شخصيتين،‭ ‬عائلة‭ ‬فريد‭ ‬أبو‭ ‬شعر‭ ‬وجده‭ ‬الذى‭ ‬هربت‭ ‬به‭ ‬الأم‭ ‬وقت‭ ‬الحرب‭ ‬الكبرى‭ ‬وكيف‭ ‬أنها‭ ‬ماتت‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الجد‭ ‬يعيش‭ ‬فى‭ ‬عائلة‭ ‬أخرى‭ ‬وتربيه‭ ‬أو‭ ‬تنسبه‭ ‬لنفسها‭ ‬وكأنه‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬شتلة‭ ‬نبات‭ ‬تم‭ ‬نقلها‭ ‬من‭ ‬تربتها‭ ‬واستزراعها‭ ‬فى‭ ‬تربة‭ ‬أخرى،‭ ‬وحدث‭ ‬هذا‭ ‬كذلك‭ ‬مع‭ ‬نظام‭ ‬بطل‭ ‬رواية‭ ‬شريد‭ ‬المنازل،‭ ‬ومع‭ ‬تغيير‭ ‬اسم‭ ‬عائلة‭ ‬كروم‭ ‬ليصبح‭ ‬كرم‭ ‬بمطبعتهم‭ ‬التى‭ ‬تتبع‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تاريخ‭ ‬الطباعة‭ ‬فى‭ ‬لبنان‭ ‬بكافة‭ ‬مراحلها‭ ‬وأدواتها‭ ‬وتطورها‭ ‬وتقاطع‭ ‬الطباعة‭ ‬مع‭ ‬الطائفية‭ ‬والمشاكل‭ ‬السياسية‭ ‬ومع‭ ‬كافة‭ ‬التغيرات،‭ ‬فنجد‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الإنسان‭ ‬فى‭ ‬جوهره‭ ‬مادة‭ ‬سائلة‭ ‬ومحايدة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتشكل‭ ‬بسهولة‭ ‬فى‭ ‬إطار‭ ‬أى‭ ‬وعاء‭ ‬آخر‭ ‬بدافع‭ ‬غريزة‭ ‬البقاء‭ ‬والتعايش‭ ‬والحب‭ ‬وأنه‭ ‬برغم‭ ‬هذا‭ ‬الجوهر‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬صلبا‭ ‬وعنيفا‭.‬

وهكذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬روايات‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬عبر‭ ‬فكرة‭ ‬التحولات‭ ‬هذه‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬رصد‭ ‬بعمق‭ ‬وصور‭ ‬ببراعة‭ ‬ورصد‭ ‬ورسم‭ ‬سردى‭ ‬مدهش‭ ‬الإنسان‭ ‬اللبنانى‭ ‬فى‭ ‬وضعين‭ ‬أو‭ ‬حالتين‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬تصورين؛‭ ‬جوهرى‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬الجانب‭ ‬الإنسانى‭ ‬المتشابه‭ ‬هو‭ ‬المهيمن‭ ‬والبارز،‭ ‬وآخر‭ ‬سطحى‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬فيه‭ ‬غير‭ ‬العنف‭ ‬والقتل‭ ‬والطائفية‭ ‬والاحتراب‭ ‬السياسى‭ ‬والسرقة‭ ‬والفساد،‭ ‬وهكذا‭ ‬أيضا‭ ‬يبدو‭ ‬سرده‭ ‬هامسا‭ ‬بأهم‭ ‬الأسئلة‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬من‭ ‬المسئول‭ ‬عن‭ ‬تغيير‭ ‬هذا‭ ‬الجوهر‭ ‬وقتل‭ ‬المشترك‭ ‬والمرن‭ ‬فى‭ ‬الإنسان‭ ‬اللبنانى‭ ‬وجعله‭ ‬يبدو‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭ ‬الأخرى‭ ‬المقابلة‭ ‬والمناقضة،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الصورتين‭ ‬من‭ ‬فجوة‭ ‬هائلة‭.‬

يبدو‭ ‬سرد‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬هو‭ ‬سرد‭ ‬التفاصيل‭ ‬والمشاهد‭ ‬الكاملة‭ ‬بكافة‭ ‬أبعادها‭ ‬وتجسيدها،‭ ‬حتى‭ ‬كأن‭ ‬الذى‭ ‬يقرأه‭ ‬يتابع‭ ‬أفلاما،‭ ‬يرصد‭ ‬الحركات‭ ‬بتأن‭ ‬وتدقيق‭ ‬وتمضى‭ ‬شخصياته‭ ‬أمام‭ ‬القارئ‭ ‬فى‭ ‬الشوارع‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬متابعة‭ ‬عملها‭ ‬وطقوسها‭ ‬الحياتية‭ ‬وتصبح‭ ‬التفاصيل‭ ‬مهيمنة‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬على‭ ‬ذاكرة‭ ‬المتلقى‭ ‬ووجدانه،‭ ‬ويبدو‭ ‬وصفه‭ ‬ذا‭ ‬كثافة‭ ‬عالية‭ ‬فى‭ ‬التفاصيل‭ ‬عبر‭ ‬لغة‭ ‬خاطفة‭ ‬وسريعة‭ ‬ومركزة‭ ‬وبعيدة‭ ‬عن‭ ‬أدنى‭ ‬ترهل‭ ‬أو‭ ‬تزيدات،‭ ‬يصف‭ ‬بدقة‭ ‬أنماط‭ ‬الملابس‭ ‬وأشكال‭ ‬الموضة‭ ‬وألوان‭ ‬الملابس‭ ‬كما‭ ‬يصف‭ ‬الشوارع‭ ‬والمحال‭ ‬العامة‭ ‬والمطاعم‭ ‬وإيقاع‭ ‬العمل‭ ‬فيها‭ ‬كلها،‭ ‬ويصف‭ ‬الأشجار‭ ‬والبساتين‭ ‬والحدائق‭ ‬والملاهى‭ ‬والأحياء‭ ‬والطرق‭ ‬والمواصلات‭ ‬العامة‭ ‬بشكل‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬كأنما‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬فى‭ ‬لبنان‭ ‬فى‭ ‬كافة‭ ‬هذه‭ ‬المراحل‭ ‬التاريخية،‭ ‬يصف‭ ‬المدن‭ ‬الجبلية‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬طرابلس‭ ‬وإيقاع‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ ‬الاصطياف‭ ‬أو‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬الساحلية‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬القرى‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬المدارس،‭ ‬كما‭ ‬يصف‭ ‬ألعاب‭ ‬الطفولة‭ ‬وتطور‭ ‬الإنسان‭ ‬وتنامى‭ ‬وعيه،

‭ ‬وتبدو‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬تحديدا‭ ‬من‭ ‬أبرع‭ ‬ما‭ ‬لديه،‭ ‬حيث‭ ‬يتتبع‭ ‬تطور‭ ‬وعى‭ ‬الشخصية‭ ‬بنعومة‭ ‬وتدرج‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الطفولة‭ ‬وفى‭ ‬المراحل‭ ‬التعليمية‭ ‬وألعاب‭ ‬الصبية‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬أو‭ ‬مشاغباتهم‭ ‬ومراهقتهم‭ ‬وكيف‭ ‬تتغير‭ ‬أفكارهم‭ ‬بشكل‭ ‬مدهش،‭ ‬ويبدو‭ ‬هذا‭ ‬واضحا‭ ‬مثلا‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬حى‭ ‬الأمريكان‭ ‬مع‭ ‬شخصية‭ ‬إسماعيل‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬وكيف‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬التطرف‭ ‬الدينى،‭ ‬وكيف‭ ‬أثر‭ ‬فيه‭ ‬السياق‭ ‬الاجتماعى،‭ ‬وعلاقة‭ ‬الابن‭ ‬بالأم‭ ‬والأب‭ ‬وكيف‭ ‬يشكلانه‭ ‬حتى‭ ‬دون‭ ‬وعى‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭. ‬ويظهر‭ ‬أيضا‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬شريد‭ ‬المنازل‭ ‬كما‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬نظام‭ ‬الطفل‭ ‬المسلم‭ ‬الذى‭ ‬يتربى‭ ‬فى‭ ‬كنف‭ ‬توما‭ ‬ورخيمة‭ ‬الزوجين‭ ‬المسيحيين‭ ‬الثريين،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تغير‭ ‬العلاقات‭ ‬أو‭ ‬الصحبة‭ ‬والمدارس‭ ‬والحب‭ ‬والأموال‭ ‬فى‭ ‬تكوين‭ ‬الإنسان‭ ‬وتشكله‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭ ‬بحيث‭ ‬يندهش‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬مما‭ ‬يصل‭ ‬إليه‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭.‬

فى‭ ‬روايات‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬تحضر‭ ‬دائما‭ ‬الشخصيات‭ ‬بعمقها‭ ‬الثقافى‭ ‬والإنسانى‭ ‬وتاريخها‭ ‬والمتوارث‭ ‬فيها،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬خطا‭ ‬متوارثا‭ ‬عن‭ ‬الآباء‭ ‬والأجداد،‭ ‬وآخر‭ ‬يشكله‭ ‬الزمن‭ ‬أو‭ ‬يصبح‭ ‬مساحة‭ ‬تموج‭ ‬دائما‭ ‬بالتحول‭ ‬والتغييرات،‭ ‬فنجد‭ ‬مثلا‭ ‬المهن‭ ‬والثقافات‭ ‬والفكر‭ ‬المتوارث‭ ‬من‭ ‬الآباء‭ ‬والأجداد‭ ‬إلى‭ ‬الشخصية،‭ ‬وكيف‭ ‬تكون‭ ‬الاهتمامات‭ ‬ذاتها‭ ‬متوارثة،‭ ‬ويظهر‭ ‬هذا‭ ‬مثلا‭ ‬فى‭ ‬شخصيات‭ ‬مثل‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬كرم‭ ‬أو‭ ‬دودول،‭ ‬وبالمثل‭ ‬فى‭ ‬شخصية‭ ‬بيرسيفون‭ ‬اليونانية‭ ‬الجميلة‭ ‬التى‭ ‬تزوجها،‭ ‬وكيف‭ ‬تكون‭ ‬صفات‭ ‬الآباء‭ ‬وتربيتهم‭ ‬ممتدة‭ ‬وفاعلة‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭ ‬فى‭ ‬تكوين‭ ‬البشر،‭ ‬والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬المعلم‭ ‬أنيس‭ ‬الذى‭ ‬يتوارث‭ ‬أسرار‭ ‬مهنة‭ ‬الطباعة‭ ‬وأدواتها‭ ‬وتاريخها‭ ‬من‭ ‬أبيه‭ ‬وجده،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬الرجلين‭ ‬مختصا‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬والإدارة‭ ‬فإن‭ ‬الآخر‭ ‬قد‭ ‬ورث‭ ‬أسرار‭ ‬المهنة‭ ‬والممارسة‭ ‬العملية‭ ‬لها،‭ ‬وكذلك‭ ‬توارث‭ ‬فريد‭ ‬أبو‭ ‬شعر‭ ‬للاهتمامات‭ ‬الأدبية‭ ‬والذهنية‭ ‬المشبعة‭ ‬بها‭ ‬والمخيلة‭ ‬والجموح‭ ‬والشاعرية‭ ‬وحب‭ ‬النساء‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الصفات‭. ‬

ويشكل‭ ‬جبور‭ ‬الدويهى‭ ‬فى‭ ‬سرده‭ ‬كافة‭ ‬التنويعات‭ ‬البشرية‭ ‬والطبقات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬بين‭ ‬النبل‭ ‬والرقى‭ ‬والإنسانية،‭ ‬وصفات‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬الانتهازيين‭ ‬وتجار‭ ‬الحرب‭ ‬والمجرمين،‭ ‬من‭ ‬يقودون‭ ‬الأحداث‭ ‬ومن‭ ‬يجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬منقادين‭ ‬أو‭ ‬مرغمين‭ ‬ويتحكم‭ ‬فيهم‭ ‬آخرون،‭ ‬ليشكل‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬صورة‭ ‬شاملة‭ ‬لنسيج‭ ‬اجتماعى‭ ‬ثرى‭ ‬وغنى‭ ‬بالأنماط‭ ‬الإنسانية‭ ‬المتباينة‭ ‬التى‭ ‬تشكل‭ ‬شعرية‭ ‬السرد‭ ‬وتجعله‭ ‬لا‭ ‬يمضى‭ ‬على‭ ‬وتيرة‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬يشتغل‭ ‬على‭ ‬نغمة‭ ‬أحادية،‭ ‬بل‭ ‬يكون‭ ‬لديه‭ ‬تنوع‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬المستويات،‭ ‬حتى‭ ‬بين‭ ‬السخرية‭ ‬والفكاهة‭ ‬وبين‭ ‬الجد‭ ‬والمأساة،‭ ‬وتنوع‭ ‬فى‭ ‬مستويات‭ ‬اللغة‭ ‬السردية‭ ‬واختلافها‭ ‬بين‭ ‬التداولى‭ ‬وبين‭ ‬الشعرى‭ ‬أو‭ ‬البلاغى‭ ‬الذى‭ ‬تثريه‭ ‬الاستعارة‭ ‬الخاطفة‭ ‬أو‭ ‬الصور‭ ‬المجازية‭ ‬المتشكلة‭ ‬عن‭ ‬المشهد‭ ‬والنابعة‭ ‬منه‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬لديه‭ ‬الكثير‭ ‬جدا‭ ‬مما‭ ‬يمكن‭ ‬درسه‭ ‬وتتبعه‭ ‬وبحثه‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬والظواهر‭ ‬وسيعيش‭ ‬مشروعه‭ ‬وإنجازه‭ ‬الأدبى‭ ‬طويلا‭.‬

المصدر : جريدة أخبار الادب