لماذا أخفي الراهب كتاب «الكوميديا»؟ لا لشئ إلا لأنه كان يري أن «الضحك» حرام! ما الذي فعله بالكتب؟ وضع في أوراقها سماً زعافاً، فإذا عثر عليها أحد الرهبان الشباب سري السم في جسده ومات علي الفور

في 1980 كتب الروائي والفيلسوف الإيطالي «إمبرتو إيكو» روايته ذائعة الصيت «اسم الوردة» (تحولت إلي فيلم 1986) تقوم الرواية علي حبكة بوليسية تهدف إلي الكشف عن سلسلة جرائم قتل غامضة للرهبان في أحد الأديرة النائية في القرن 14، أي في العصور الوسطي الأوربية، يحل علي الدير راهب زائر، حاد الذكاء، يعمل عقله في البحث والتقصي، فيكلفه رئيس الدير بالتحقيق في الجرائم، بعد سلسلة من التحقيقات والحوارات الفلسفية العميقة حول مسائل الإيمان، ومناقشة سلطة النقل علي سلطة العقل بين رجال الدين، يتوصل الراهب إلي حل لغز جرائم الدير، الذي يصف إيكو مكتبته بأنها مصممة علي هيئة متاهة، يكتشف الراهب أن راهبا أعمي عجوزا، قد أخفي بالمكتبة، المتاهة، أربعة كتب بينها الجزء الثاني من كتاب أرسطو عن «الكوميديا» (ينقسم كتاب أرسطو «فن الشعر» إلي جزأين؛ الأول عن «التراجيديا» أو «المأساة»، والثاني عن «الكوميديا» والأخير مفقود إلي الآن)، لماذا أخفي الراهب كتاب «الكوميديا»؟ لا لشئ إلا لأنه كان يري أن «الضحك» حرام! ما الذي فعله بالكتب؟ وضع في أوراقها سماً زعافاً، فإذا عثر عليها أحد الرهبان الشباب في الدير، وفتح الكتاب ليقرأه ويقلب أوراقه سري السم في جسده ومات علي الفور، لماذا أخفي الراهب الأعمي الكتب ولم يحرقها؟ يؤكد «إيكو» أنه لم يفعل هذا، لأن المعرفة سلطة، والكتب المخفاة دليل تميزه عن الرهبان الآخرين، لذا أخفاها في أقصي متاهات الدير، لتكون له وحده السلطة عليها، وليقتل أي راهب آخر يتطلع إلي حيازة تلك السلطة! هل أعجبتكم الحكاية وتفكرون في قراءتها؟ أو مشاهدة الفيلم؟ لا أظن أنكم بحاجة إلي عناء قراءتها، رغم أنها رواية بديعة، ففصولها، علي أية حال، تدورالآن في مصر، يقولون إن التاريخ يكرر نفسه، وها هو ذا يعيد صياغة الحكاية التي دارت في عصور «محاكم التفتيش» بحذافيرها، بشخصياتها، وملابساتها، وج رائمها. ففي هذه اللحظة يقبع في السجن باحث شاب، تجرأ علي إعمال عقله وأخرج الكتب المخبأة ونازع أهل النقل سلطتهم، فسمموه، وسمموا معه أية بادرة لمحاولة خوض مغامرة تشبهها، ليظلوا، هم فقط، أهل المعرفة، وأهل سلطتها علي طريقة «اضرب المربوط يختشي السايب»! ولا أخفيكم أنني أكتب ما أكتب بحذر من يخشي أن تأخذه الكتابة إلي أن يقع في براثن الشيوخ، ولأن «كل خطوة في وسطها مغامرة» كما كتب صلاح عبد الصبور في قصيدته «أغنية للشتاء»، سأستعيد ما كتبته -علي حلقتين- منذ عام تحت عنوان «مغامرة إسلام بحيري»، وهل نملك إلا الإعادة، أمام سلطة معرفية تؤسس علي «في الإعادة إفادة» لمعرفة 14 قرنا مضت؟!: «يبدو الفارق شاسعا بين العقل الـ»مارشيدير»، والعقل النقدي لـ»بحيري»، قارئا النصوص في سياقاتها الماضية وواضعا إياها في زمننا، باحثا عن النبع الصافي للفكر، وللدين، ولقدرة الإنسان علي الفرز والإبداع. يبدو الشاب وكأنه «ينقب» في حفريات المعرفة، مطوحا بكل هذا الغثاء عن طريقه، نحن الذين تجاوزنا الخمسين نعرف إلي أين يقودنا إسلام بحيري، ربما إلي لحظة عشناها في طفولتنا وشبابنا، لحظة وعي، تعاود الظهور كأنها «رسالة إلهية» حين يلتقي مولد النبي بعيد ميلاد المسيح، وحين تدق أجراس الكنائس مع أذان المغرب، فيرتشف الصائمون رشفة الماء الأولي من الآبار الصافية، المقدسة». لكن المغامرة أسلمت «إسلام» إلي السجن، وأسلمتنا إلي الخوف، وما أوردت ما كتبته دون جديد، إلا لأنه مر مرور الكرام، والحمد لله، ولم أزل في بيتي، دون اتهامي بالمشاركة في تلك الجريمة الغامضة (كجرائم دير الرهبان؟!) لبحيري: جريمة ازدراء الدين! وسيسامحني، دون شك، الباحث الشاب، فلم أعد في سن تسمح لي بأن أقضي ما تبقي من أيامي في غياهب السجون، ولأنني مضطرة -استسلاما لمشيئة الأزهريين- إلي أن أكتفي بتحذير نفسي من التفكير،من الآن فصاعدا، وبتحوير عبارة فيلسوف العقلانية «ديكارت»: «أنا أفكر، إذن أنا «مسجون