كتب :نائل الطوخى
فى أوائل الشهر الحالي، نشرت المترجمة والناشطة السياسية إلهام عيداروس منشورًا على موقع فيسبوك سيُقدر له أن يقلب صفحات المثقفين فى الأسابيع التالية.
عدّد المنشور، والتعليقات المؤيدة له، الكثير من مظاهر الذكورية فى قصائد أحمد فؤاد نجم، ولكن الاستشهاد المركزى فيه جاء من قصيدة «عالمحطة»، والتى تصوّر مشهدًا تمثيليًا لحادثة تحرش تدور فى أحد الأوتوبيسات، وترد فيه جملة: «ولا يعنى الكون هيخرب، لو فقير، يلهط له لهطة؟»
«اللهطة» المقصودة فى هذا البيت بالطبع هى لهطة من جسم المرأة، غير أن هذه الجملة، التى تصوّر المرأة كغنيمة فى الصراع الطبقي، لا ترد على لسان الشاعر فى القصيدة، وإنما على لسان أسطى من الأسطوات فى المشهد الذى ألّفه نجم، وصحيح أن الكثيرين صحّحوا لعيداروس هذه المعلومة، غير أن المنشور سرعان ما حفّز الكثيرين لكتابة منشورات أخرى تعدّد نماذج لـ«ذكورية أحمد فؤاد نجم»، ومن ضمنها بيته الشهير «هما الفيلا والعربية والنساوين المتنقية»، ما حدا بآخرين من محبى الشاعر الراحل، فى هجمة مرتدة، لاتهام المنتقدين بعدم فهم المجاز وبمحاكمة الماضى وفق معايير الحاضر: الوعى النسوى وقتها لم يكن بهذا التبلور كما هو اليوم. ما تفعلونه الآن هو محاكمة الإبداع بأثر رجعي.
لجأنا هنا إلى عدد من الكتاب الشباب، لنعرف رأيهم فى محاكمة إبداع العقود السابقة وفق معايير أيامنا الآن، ولكن يبدو أن كلمة «محاكمة» لم تكن الأوفق، إذ سرعان ما انبرى كتّاب ممن سألناهم للتعبيرعن عدم ارتياحهم لها
بدأ الروائى شادى لويس بطرس برفض الكلمة لأنها تغلق النقاش قبل أن يبدأ، وتعطى انطباعًا بمحاكم التفتيش وحرق الكتب وما إلى ذلك، خاصة ألا أحد يريد محاكمة الأدب، ولكن السؤال من وجه نظره هو: اهل يمكن التعامل مع الأدب القديم بمعايير اليوم؟، وهو السؤال الذى سيرد عليه من فوره قائلًا: اما المشكلة؟ فى النهاية نحن نتكلّم عن أعمال لأناس غير أحياء، وبالتالى فهى ملكنا وميراثنا.
المثال الأثير لبطرس يكمن فى المخطوطات القديمة، التى نستطيع رؤية أثر الزمن عليها، ممثلًا فى الإضافات والتفسيرات التى وضعتها الأجيال المتعاقبة فوق صفحاتها: امعظم ما وصلنا من أعمال قديمة هو مجهود أجيال كاملة تتراكم فوق بعض، ببساطة لأن هذا تراثنا ومن حقنا التعليق عليه كما نريد، تنقيحه وتذييله بالهوامش والتعليقات.ب
هل نخاف إذن من التنديد بالعبودية؟
بالمثل، وإن كان لأسباب مختلفة، يعبّر الروائى أحمد عونى عن قلقه من استخدام كلمة امحاكمةب، حيث المحاكمات تؤدى إما إلى البراءة أو الإدانة، وبالتالى فقد تؤدى إلى منع الإبداع أو إيذاء صاحبه، وفوق ذلك فـالا جدوى من محاكمة شاعر متوفى ومتوقف عن الإنتاج، بتهمة الذكورية، إذا كان الغرض من هذا هو الإدانة الأخلاقية.
المجدى من وجهة نظر عونى، عندما ننقد الإبداع القديم، هو االاستفادة من تطور وعينا لفهم سياق إنتاج هذا الإبداع، كيف جرى تلقيه وقت صنعه وكيف تشكّلت ذائقة المتلقين وقتها، هذا لأن ما يحدّد دورة حياة أى عمل هو قدرتنا على الاشتباك معه، من خلال وعينا المعاصر وذائقتنا الحالية.ب
هذه القدرة على الاشتباك مع أعمال قديمة، بحسب عوني، هى ما تمنح الحياة لها، فى مقابل أعمال أخرى، كانت مهمة فى زمنها، ولكنها سرعان ما ماتت بسبب عدم قدرتنا على الاشتباك معها الآن.
مثلهما، تبدأ الكاتبة والمخرجة سلمى الطرزى كلامها بالسخرية من تصوّر البعض لأى نقد باعتباره محاكمة: هل يتصوّر أحدهم مثلًا أننا سنجمع شرائط الكاسيت (فى إشارة لشرائط أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام) ونحرقها؟
انحن لسنا جهة إصدار أحكام، ولكن ذ على الناحية الأخرى ذ فهناك مشكلة فى صنع مقدسّات، وهذا يزعجنى بالأخص عندما يصدر من الأوساط التقدمية التى تدعى الثورية، بينما لا تملك أى استعداد لمساءلة الأفكار الصادرة من معسكرها.
لا تفهم الطرزى موضوع الرموز التى لا يجوز الاقتراب منها أو لمسها، لمجرد مجيئها فى وقت سابق. من حق الجميع بالتأكيد أن يقولوا أشياء لا تعجبنا اليوم، ولكن من حقنا أيضًا نقدها، ومن المحبط جدًا أن تكون الثنائية متراوحة بين المطالبة بمنع الأعمال من ناحية، وبين عدم المساس بها من ناحية أخرى.
أما بخصوص تطبيق معايير اللحظة الحالية على الماضي، فصحيح، كما تضيف، أنه لم تكن هناك معايير واضحة فى الماضى لمعضلات بعينها، ولكن هذا لا ينفى إشكاليتها على مر العصور.
٪ فى الماضى مثلًا كان امتلاك العبيد مشروعًا وعاديًا، فهل يؤدى بنا هذا لعدم الإشارة لإشكاليات العبودية، أو هل يؤدى بنا لتصور أن العبيد كانوا سعداء وهم يُجلدون بالسياط؟ تتساءل الطرزي.
عن المتنبى وأم كلثوم وعمرو بن كلثوم
من جانبه، يطرح الروائى أحمد الفخرانى معضلة معقدة. هو من ناحية يتذوّق شعر المتنبى وبلاغته، غير أنه من ناحية ثانية لا يمكنه أن يقبل متنبيًا جديدًا، يمدح السلطان أو يكرّس لقيم القبيلة، ومن هنا فقد أزعجته مثلًا أغنية تميم يونس التى أصدرها من عامين تقريبًا بعنوان اعشان تبقى تقولى لأب، ورأى فيها تحريضًا واضحًا على العنف، ضد الفن والواقع على السواء.
ومن ناحية ثالثة، يستدرك، فرفضه للأغنية لا يعنى أنه يطالب بمنعها. حتى االرجعيب من حقه تقديم ما يعتبره فنًا. الفن ساحة الجميع، ورفضه أيضًا ساحة للجميع، كما يعقّب.
أما الشاعرة والمترجمة أسماء ياسين فتبدأ بالإشارة لحقيقة كونها كاتبة وامرأة؛ ككاتبة ليس من السهل عليها إخضاع الإبداع لمحاكمات قد تنتهى إلى إقصائه، وكامرأة دفعت ثمنًا غاليًا لحريتها، ليس سهلًا عليها أيضًا تجاهل أفكارًا ذكورية أو رجعية أو عنصرية كامنة فى ثنايا أى إبداع.
تضيف أنه مادام الإبداع قد وقع فى يدها، فستتعامل معه بأدواتها الخاصة المنتمية للحظتها الحالية، فلا يمكنها ببساطة، وهى تقرأ أو تتعامل مع أى فن، أن تغفل مسيرة تطور النقد والمجتمع حتى لحظتنا الحالية:
الست مجبرة نهائيًّا على التعامل مع الفن بأدوات عصره، وإن يظل عليَّ فهم السياقات التى صنع فيها، لا بهدف العفو عنه واعتباره لائقًا، بل بهدف رؤية خشونة السياقات القديمة وخلوها من الإنسانية. حينها أستطيع القول إن هذا الإبداع متخلّف وخارج من مجتمع متخلّف لأسباب تتعلق بكذا وكذا.
تستدرك ياسين أننا حين نحكم على منتج ما بـالتخلفب أو االرجعية، فنحن لا نؤذى صاحبه، فقد راح وانقطع عمله إلا من ثلاث كما نعرف، وإنما كل ما نحاوله هو كف الأذى عن المجتمع من قيم لم تعد صالحة، خاصة لو كان الفن رائجًا وذا قدرة على التأثير فى عموم الناس.
وكما سبق وأشار الفخرانى إلى إمكانية التسامح بشكل نسبى مع الإبداع الرجعى، فقط فى حال كونه أقدم زمنيًا، تشير ياسين لشيء شبيه، ضاربة مثالين مختلفين هذه المرة، الأول قصيدة اسلوا قلبيب لأحمد شوقى التى غنّتها أم كلثوم، ويقول فيها الشاعر: اوعلمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابًاب.
٪ يا راجل! تعقّب استهجانًا، تأخذ الأرض غصبًا وفخور بهذا!؟
أما المثال الثانى فهو معلقة عمرو بن كلثوم، والمحتشدة بمظاهر الفخر الصبيانى المضحك من بيتها الأول حتى الأخير، والتى تعتبرها ياسين، للمفارقة، من مفضلاتها، وهذا ببساطة لأن القصيدة بكل ما تمثله من أفكار؛ بسيوفها وخيلها وراياتها وقبائلها وظعينها، انقطع أثرها وصارت خارج التاريخ تمامًا.
صحيح أن ما كُتب كُتب واللى كان كان، كما تضيف، ولكن لا يوجد فن أو فنان أكبر من أن يوضع على منصة التشريح. هكذا تختم كلامها، قبل أن تستدرك ملمّحة لتغيّر الحساسيات بين العصور:
٪ وطبعًا مجاز امنصة التشريحب الذى استخدمته يمكن اعتباره فى المستقبل مجازًا بالغ القسوة ومعدوم الحساسية.
فن وسياسة، وإن اختلفت الأشكال
كما أشارت عيداروس سريعًا فى منشورها المثير للجدل، تدلنا معركة اأحمد فؤاد نجمب على مفارقة طريفة، تغيّر فيها موقع االسياسةب فى أذهان الأجيال الشابة، فالشاعر الذى ارتبط تاريخه بالتعبير عن النضالات السياسية والاجتماعية، هو من استخدم منتقدوه المفاهيم الاجتماعية، مثل االنسويةب و االصوابية السياسيةب، لانتقاده، فيما دافع عنه محبوه باستخدام مفاهيم االفنب و االإبداع الحر من أى قيود.
ولكن بعيدًا عن هذه المفارقة، وبعيدًا عن شخص أحمد فؤاد نجم نفسه، فقد تعلّقت المعركة الدائرة بنزعتين تشقان جسم المجتمع الثقافى منذ سنوات؛ بعض المبدعين مشغولون بالمجتمع وبتمثيل الفئات المقهورة فيه، وعلى رأسهن النساء، وآخرون مشغولون بالإبداع وحريته، ويرون فى نقد الأعمال الفنية،بأى منطق سياسى أو اجتماعى، شكلًا من أشكال الحجر عليها بدواع أيديولوجية.
أحيانًا ما تتمزّق نفس الكاتب الواحد تحت وطأة النزعتين؛ قدسية الإبداع من ناحية والصوابية السياسية من ناحية أخرى. هنا نحاول تعيين بعض آثار هذا التمزق، أو حتى معرفة إن كان ثمة تمزق أصلًا أم لا.
يرى شادى لويس بطرس أنه من الممكن التعليق على الإبداع من منطلق تقدمي، ذلك أن الفصل بين ما هو فنى وما هو سياسى واجتماعي، من وجهة نظره، هو فصل خيالى وشديد المثالية، بل أنه فصلٌ يحتقر الأدب مفترضًا ألا تأثير له على السياسة والمجتمع.
كل الأشياء، الفن والسياسة والاقتصاد وسائر الأنشطة البشرية، متداخلة من وجهة نظره، ولا يمكن الفصل بينها إلا بشكل إجرائى مؤقت، كأن نقول مثلًا إن المبدع استخدم الجناس والاستعارات المكنية فى نصه بشكل رائع، ولكن النص نفسه منحط من الناحية الأخلاقية، ولنتذكّر أن هذا النوع من النقد، أى التعامل مع الأدب بأدوات أيديولوجية وسياسية، موجود فى عمل مفكّرين مثل فرانز فانون وإدوارد سعيد، أى حتى من قبل اشتقاق عبارة اصوابية سياسيةب.
فى مقابل بطرس، يتشكّك أحمد عونى قليلًا فى إمكانية التعليق على الفن بمنطق نضالى تقدمي، ذلك أن طبيعة النضال، الذى يسعى لأن يكون صائبًا وذا أهداف محددة، تختلف جوهريًا عن الإبداع بالبراح الممنوح له للتأمل والتشكيك والتفكيك، وهذا للمفارقة ما يعطى الإبداع قيمته المجتمعية: الن يستفيد المناضل من إبداع ينسخ خطابه ويحاكيه بصرامة، ولكنه قد يستفيد من عين المبدع التفكيكية فى تطوير فهمه، بالضبط كما يستلهم الإبداع روحه من حركة المجتمع.ب
هى فى النهاية علاقة عضوية بينهما كما يرى، تحتاج لأن يؤدى كل طرف مهمته بطبيعته المستقلة، فيما قد يتضمّن بعض الخطورة طبعًا الأنه يعنى أن بإمكان الإبداع الترويج لأفكار رجعية وعنصرية. غير أننا فى المحصلة لا نملك سوى نقد هذه الأفكار، مع السعى فى نفس الوقت للحفاظ على هذا براح الفن، حيث السيولة وحدها هى الضمانة لوجود مساحة لطرح أفكار تقدمية ومبدعة
فى المحصلة، يحترم عونى كلًا من الفن والنضال السياسي، حتى وإن كان بمنطق افليبق كلٌ فى مكانهب، غير أن أحمد الفخرانى يأخذ الأمر لخطوة أبعد، يدين فيها ازعيق الصوابية السياسيةب بالأساس:
٪ الضابط لا يرغب فى رؤية نفسه إلا كملاك، رجل الدين لديه قائمة من الممنوعات، محمد صبحى لديه اصوابيتهب المحافظة أيضًا التى ترضى قطاعًا لا بأس به من المجتمع، وأنا أسأل هل طوّرت االصوابية السياسيةب خطابًا مفارقًا لتلك الرؤى؟ لم يثبت ذلك بعد.
ينبع رفض الفخرانى لمفاهيم االصوابية السياسيةب من ثقته فى المتلقى الذى تشرّب المفاهيم التقدمية عن اقتناع،لا عن شعور بالذنب أو عن خوف من الاتهامات الزاعقة التى تقضى على إمكانية الكلام.
أما عن الخوف من تأثير الفن على الوعي، فهو يعتقد ببساطة أن من يملك موقفًا أصيلًا سيكون أميل للتواضع والصبر والنقاش، لكن ما يحدث الآن هو تحول أى حوار حول مفاهيم االصوابية السياسية، سواء فى الفن أو الواقع، إلى ساحة قتال وهيستيريا وأحكام نافذة لا تقبل الطعن.
٪ الأعمال الفنية التى رأيناها تعتمد امعايير الصوابية تفتقد للحيوية وتميل للافتعال، لأنها تنطلق من روح العظة، بينما الفن هو السعى لمعرفة وفهم الشىء، لا الإثبات المسبق له، هكذا يقول، قبل أن يختم حاسمًا: والفن والعظة لا يجتمعان. فهم الواقع والعظة لا يجتمعان.
المصدر : جريدة اخبار الادب