كنوز| «العقاد» يتذكر طقوس العيد التى عاشها فى طفولته

عباس محمود العقاد فى شبابه
عباس محمود العقاد فى شبابه

من العيد تعلمنا أن الطفل الصغير «شىء مهم» فى البيت، أوأننا نحن بذواتنا أشياء مهمة.. لأننا اطفال.. وتبتدئ تهنئات العيد فى الريف بعد مغرب الشمس من يوم الوقفة، وتكون مقصورة فى ذلك اليوم على الجارات القريبات من المنزل، لأن الغالب عليهن أن يذهبن صباح العيد مبكرات إلى»القرافة» لتفريق الصدقة على أرواح الأموات.


وتدخل الجارات واحدة بعد الأخرى يرددن صيغة لا تتغير، تنتهى بهذا الدعاء: «يعود عليك كل سنة بخير.. أنت وصغارك وصاحب بيتك والحاضرين والغائبين فى حفظ الله» ، وقبيل المغرب ، تكون عملية التغيير وتوزيع الملابس الجديدة على صغار البيت قد ابتدأت على يد الوالدة فى نشاط وسرعة.
ولكن..

وهذا هو العجب.. فى غضب وشدة، واحياناً فى سخط وصياح: « تعال يا ولد.. اذهب يا مسخوط.. إلحق ادخل الحمام.. مع تسبيحة أو اثنتين من قبيل: ان شا الله ما لبست.. ان شا الله ما استحميت..! « .


لقد تعودنا هذا الموشح.


كل عيد على قدر ما تعيه الذاكرة فى سن الطفولة! وأکثر ما يكون ذلك حين تزدحم الجارات .. وحين تكون أقربهم إلى الدار على استعداد للشفاعة وترديد الجواب المألوف فى هذه الأحوال : « بعيد الشر .. بعيد عن السامعين « .


وقد خطر لى يوما أن هذا كثير على عملية التغيير فرفضت الكسوة الجديدة وذهبت صباح العيد إلى منزل جدتى بثوبى القدیم !


وكان من تقاليد العيد أن ترسل رءوس الذبائح إلى الجدات أم الأب أو أم الأم من كانت منهما على قيد الحياة .. وأم الأب مفضلة إذا كانت الجدتان تعيشان .
فلما دخلت منزل جدتى أم أمى وهى ضريرة سمعت الأطفال يعجبون لأننى لم ألبس جديدا فى العيد .. فقربتنى الجدة العطوف إليها وسالت فى شيء من اللهفة : « ما الخبر يا ولدى ، لماذا لم تلبس ثوبك الجديد ، ألم يحضروا لكم ثيابا جديدة ؟


قلت : « بلى إنهم قد أحضروها ولكننى رفضت أن آخذها من يد بنتك .. لأنها تشتمنا وتزعق فينا»، فابتسمت وهى تعرف بنتها حق المعرفة وصاحت:» بنتى ؟! ..وكيف كانت القصة؟ « .


فأعدت عليها القصة مرددا كلمات السخط التى أغضبتنى فسألت: « أكان أحد من الجيران عندكم فى تلك الساعة؟ « .


فحسبت أنها تطلب شهودا على الواقعة وقلت لها: « كثيرات ..فلانة .. وفلانة .. و ...»


فلم تمهلنى أن أتم أسماء جاراتنا اللاتی تعرفهن وأخذت تربت على كتفى: «وأنت العاقل يا عباس تقول هذا .. أن أمك لا تكرهك ..ولا تدعو عليك ..ولكنها تصرف النظرة»، وفهمت معنى «تصرف النظرة» بعد شرح قليل .. وخلاصتها: أن رؤية الأم فى مساء العيد من اطفالها الفرحين المتهللين بالعید تفتح أعين الحاسدات اللاتى حرمن الاطفال ولا يحتفلن بتغييرات العيد هذا الاحتفال ..

فإذا شهدن علامات السخط بدلا من الفرح والرضا .. بطل الحسد وسلمت الصغار وأمهاتهم من عيون الحاسدات!


عباس محمود العقاد  من كتاب «أنا»