شرق وغرب : الشاعرة والأكاديمية الروسية نينا

الكسندروفنا تجيب عن أسئلة كُتّاب عرب

شرق وغرب
شرق وغرب

حتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت الترجمة فى روسيا ضئيلة وغير واسعة الانتشار لاسيما الترجمة من اللغة العربية، فما كان على الرحالة الروس الذين جابوا الشرق الأوسط إلا أن نقلوا إلى الأمة الروسية الأخبار السياسية والاقتصادية والأدبية، وبعض أخبار أهم الكتّاب فى تلك المنطقة. وأكثروا الحديث عن شخصيتين أدبيتين هما: جبران خليل جبران وعمر الخيام. فقد تأثر الكُتَّاب الروس فىتلك الفترة بهذين الكاتبين عبر ما وصل إليهم آنذاك. 
حاول كثير من الأدباء معرفة الكثير عن هاتين الشخصيتين، راح منهم من يزور الشرق، ومنهم من حاول أن يتعلم اللغة العربية ويسبر أغوار آدابها. تولستوي، على وجه الخصوص أراد أن يدرس اللغات الشرقية وأن يتعلمهالكنهُ فشل فىذلك. وبقى ذلك الهاجس يراوده حتى مماته. فما برح البُعد بين اللغتين العربيّة والروسيّة قائمًا حى اليوم. لذ الم يستطع الكُتَّاب الروس معرفة ما يجول فىالساحة الأدبيّة العربيّة؛ إلا من خلال لغات أخرى وهذا قليل للغاية! بينما كانت دُور النشر تبحث عن الكُتب المروجة فحسب. حتى العام المنصرم، لم تُترجم إلى الروسية من العربية إلا من خلال لغة أخرى كلغة وسيطة، وهذا ما حدث مع رواية فرانكشتاين فىبغداد، للروائي أحمد سعداوي، التي ترجمت عبر لغة وسيطة. لذا لم يتعرف الروس على أدبنا بشكل أوسع.
     هنا يتوجه مجموعة من الكتاب العرب إلى الشاعرة الروسية نينا الكسندروفنا، وهي سكرتيرة اتحاد الأدباء الروس، ودكتوراه فىالدراسات الثقافية فىمعهد تشيليابينسك. لها أكثر من ثلاثين عملا توزع ما بين الشعر والنثر، وسلسلة كتب مدرسية أخرى حول الإبداع الأدبي، ودراسات منشورة فىروسيا وألمانيا، ودراسات نقدية منشورة فىالصحف الالكترونية وغيرها من الدوريات الورقية. ترجم لها فىاللغتين الأذربيجانية والبشكيرية.إضافة إلى أقراص صوتية احتوت بعض من أشعارها وبعض من الأغاني التي قد كانت كتبتها. كما  أصدرت أكثر من سبعمائة منشور فىدوريات علمية وأدبية فىروسيا وألمانيا واسبانياوأمريكا. حائزة على جائزة روسيا فىالنثر، وجائزة انترنشونال فىالشعر والنقد والبحث العلمي والتربية الإبداعية. 

تحیاتي أستاذة نینا الكسندروفنا. ما رأي سكرتاریة اتحاد الأدباء الروس الحالیة، حول طرد بوریس باسترناك من الاتحاد بعد نشره روایته دكتور زیفاجو، أهم أعماله التي نال علیها جائزة نوبل العام ١٩٥٨؟ كیف تقیمون هذه الروایة الیوم؟ 
- محبّتي لك، سؤال مهم جدا، يدل على فهم وإطلاع على تاريخ الأدب الروسي فىالقرن العشرين. فىالحقيقة، لم يكن اتحاد الكُتَّاب السوفيتمجرد نقابة للأدباء فحسب، بل كانت نقابة إيديولوجية للدولة أيضا. فىسياق الحرب الباردة، المواجهة الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية العالمية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لم يكن ليسببانتشار رواية بوريس ليونيدوفيتش باسترناك فىالغرب إلا كرد فعل سلبي من قيادة اتحاد الكتاب.للأسف، حتى اليوم، يحاولون فىكثير من الأحايِين، جعل الأدب رهينة القرارات السياسية، وإن القرار السياسي كان سببًا من أسباب نشر رواية «دكتور زيفاجو» فىالغرب، كذلك كان سببًا فيطرده من اتحاد الكتاب السوفيت. فىتلك السنوات، بالكاد يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك. لكن الأدب قوي وجميل باقل لأبد يصرخ للأبد. الآن رواية باسترناك ليست فقط منشورة على نطاق واسع ومحبوبة القراء، إنها تُدَّرس فىالمدارس الثانوية. ففىعام 2006، قام المخرج ألكسندر بروشكين، بعمل فيلم عديد الأجزاء مأخوذًا عن تلك الرواية، حيث تبين أن الكثير من الدوافع توافق المشكلات الحديثة التي تواجها روسيا، كقضايا الاختيار الأخلاقي للمثقفين خلال فترة التحول الاجتماعي. حقيقة أنا أحب شعر بوريس باسترناك، وأعتبر رواية دكتور زيفاجو واحدة من ألمع وأهم الشهادات الأدبية عن التجارب الروسية القاسية فىبداية القرن العشرين.

ما الذي يفسّر نجاح الرواية البوليسية فىالأدب الروسي المعاصر (مع كتّاب من أمثال بوريس أكونين ألكساندرا مارينينا) فىأوروبا والولايات المتحدة أكثر من نجاحها داخل روسيا؟
فىالأدب الروسي، كما فىآداب الشعوب الأخرى، هناك أعمال عميقة وعسيرةعلى الفهم تؤثر على الأسس الفلسفية لحياتنا. هناك أيضًا أدب مخصص للترفيه الفكري، يتضمن هذا الأدب على وجه الخصوص القصص البوليسية. للأسف، لا يمكنني قول أي شيء عن القراء الأوروبيين والأمريكيين، لدي فكرة بعيدة جدًا عن هذا.سؤالك هذا قد سمح ليّ بالتطرق إلى الميزات المحددة لهذا النوع. فىرأيي، اليوم فىروسيا يتلاشى الأدب الترفيهي عمومًا، حيث يبحث القراء عن أعمال تستلهم الواقع وتفهمه، مما يُحيلهم إلى التفكير الجاد فىالحياة. ربما يفسر هذا بضعف الاهتمام فىالروايات البوليسية لبوريس أكونين وألكسندرا مارينينا. بالإضافة إلى مؤلفين آخر ينفى روسيا. على أي حال، هذا هو بالضبط الانطباع الَّذي تركته من لقاءات عديدة مع القراء الروس المعاصرين فىالسنوات الأخيرة. لكن بالطبع هذا لا ينفىأن القصة البوليسيّة نوع أدبي ساحر وعاطفىيتطلب جهودًا فكرية من القارئ بحثًا عن دليل للمؤامرة البوليسية.

نعرف أن ثورة ١٩١٧ استغلت بشكل كامل عظمة الأدب الروسي فى القرن التاسع عشر لكنها فشلت فى تسویق أدب القرن العشرین السوفیتي فىالنصف الأول منه لذلك عادت فىالنصف الثاني من القرن إلى دوستویفسكي وتولستوي وجوجول. هل روسیا الجدیدة تمتلك الیقین نفسه بان أدب القرن التاسع عشر هو أفضل ما أنتجته العبقریة الروسیة أمأنها تنوي التعریف بنفسها بالشعر بدلا من الروایة؟
شكرًا على سؤالكوأتفق معك فىأن الأدب الروسي فىالقرن التاسع عشر، قَدَّم أمثلة ممتازة للعبقرية الروسيّة عن كل شيء. كان للقرن التاسع عشر فىروسيا انطلاقة كبيرة، حتّى وصل الأدب إلى ذروته، وأصبحت التجارب القادمة والأسئلة المميتة فىالقرن العشرين واضحة المعالم. فىنهاية القرن العشرين، شهدت روسيا مرة أخرى انهيارًا اجتماعيًا كبيرًا، وكان الشعر لفترة طويلة تعبيرًا عن الروح الروسية. لكن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين،كشفت لنا أسماء جديدة فىالنثر الروسي الكلاسيكي، واليوم هناك فهم قوي وإدراك عال لكل من الحداثة والتاريخ فىالشعر والقصة والرواية.
تتطلب الرواية الانفصال، وإلقاء نظرة على الأحداث من الخارج، وبالتالي فهي تحتاج إلى مزيد من الوقت لتولد. من بين الروائيين الروس المعاصرين البارزين، أذكر منهم بعض الكُتّاب المهمين: بيتر كراسنوف، أرسين تيتوف، إيلينا كريوكوفا. وعدد من الأسماء البارزة الأخرى. آمل أن يتعرف عليهم القراء العرب.


لماذا لا یكون هناك تعاون بین المستعربین الروس مع دور النشر العربیة لإعداد ترجمات أكثر دقة عن الكلاسیكیات الروسیة الأدبية؟ من المعروف أن ترجمات دوسّتويفسكي إلى العربية لسامي الدروبي مثلاً، هي عن اللغة الفرنسية وليس الروسية.
أشاركك وجهة نظرك حول مشكلة الترجمات الأدبية. بقدر علمي، فىالعقود الأخيرة أصبحت الترجمة كبيرة فىجميع أنحاء العالم. لكن المصلحة المشتركة للأدب العربي والروسي يجبأن لا تضعف بل تزيد! وتعاون المستعربين الروس ودور النشر العربية التي تتحدث عنها ضروري، فىهذا المجال. فىرأيي، إن إرادة الدولة الروسية مهمة للغاية، وستجعل من الممكن بناء تفاعل بين المؤسسات ودور النشر والمكتبات من أجل الإثراء المتبادل لثقافاتنا.

كان الأدب الروسي فىما مضى محورا مهما من محاور التأثر العربي، سواء قراءته أو أخذ بعض الملامح منه لدى الكتاب. لماذا بقي التأثر العربي متوقفا عند الكتاب القدامى فقط، والقارئ العربي ما زال عند تولستوي، وجوركي، بولجاكوف ودوسّتويفسكي، أین كتّاب الأجیال الجدیدة، وهل أسهموا فىإیجاد أدب متطور؟ أم أن الترجمة للعربیة لم تعد لصیقة بالأدب الروسي كما فىالماضي؟
أمر رائع أن يكون القراء والكُتّاب العرب على دراية كبيرة بأعمال أفضل الكتّاب الروس فىروسيا فىالقرنين التاسع عشر والعشرين وهذا حقًا هو الصندوق الذهبي للأدب العالمي! ومن المحزن جدًا أن الكتّاب الروس من الأجيال الجديدة اليوم لا يُترجمون بشكل كافٍ إلى العربية ويكاد لا يُنشرون فىالدول العربية. هذه مشكلة تحتاج إلى معالجة، بما فىذلك على مستوى الدولة.يتنوع أدب روسيا الحديثة فىاتجاهات البحث الفني، ويهدف تقليديًا إلى طرح الأسئلة الأخلاقية الأكثر تعقيدًا فىعصرنا. لدينا كتاب شبان مثيرون للاهتمام يدركون عصرهم، ويكتبون عن الحداثة، لكنهم يحافظون على الارتباطأي أن لا ينفصلواعن التقليد الأدبي الروسي، المتمثل فىالاهتمام بالروح البشرية، وأسسها الأخلاقيّة. على سبيل المثال  آندريه تيمافيف ويفكينا ديكينا وفيكتوريا ايفانوفا وايكاترينا يرمالايفا ... أعتقد أن استمرار وتطور التقليد الأدبي الروسي مثير للاهتمام ويتوافق مع القارئ العربي.


حضور الآخر الروسي فىالروایات العربیة حضور قدیم قد یكون بدأ مع روایة (عصفور من الشرق) الصادرة عام 1938 لتوفیق الحكیم وحضور الصدیق الروسي فیها. وروایة (الجلید) فىفترة لاحقة للروائي صنع الله إبراهیم، وروایة الحي الروسي فىالفترة الأخیرة. ولا أشك أن هناك الكثیر من الروایات العربیة التي یحضر فیها الآخر الروسي، والسؤال هو هل هناك بالمقابل روایات روسیة یحضر فیها الآخر العربي حضورا یجسد حضارته العربیة الإسلامیة العریقة؟
للأسف لست على دراية بالروايات العربيّة عن المجتمع الروسي والحياة الروسيّة. كما أنني لا أعرف الروايات الروسية عن الحياة العربية، عن الحضارة العربية الإسلامية القديمة. فىرأيي، يجب أن توجد مثل هذه الروايات، ويجب ترجمتها إلى لغاتنا الروسيّة والعربيّة، حتّى نتمكن من رؤية أنفسنا من خلال عيون ممثلي الثقافاتالأخرى، وفهم بعضنا البعض بشكل أفضل.يغرس الأدب الروسي فىقرائهِ، احترامًا عميقًا لممثلي الثقافات الأخرى،  فبعد كل شيء روسيا نفسها بلد متعدد الجنسيات، وتشارك على نطاق واسع فىالتعاون الدّولي وتهتم بالانفتاح والتفاهم المتبادل العميق.


كیف تنظرین إلى علاقة الكاتب بالسلطة السیاسیّة وموقفه منها ومن خطابها وممارساتها وعنفها ضد مواطنیها وخارج حدودها؟ هل هناك مسؤولیة علیه تحّملها، بالذات حین تتوفر له المنصات والرأسمال الرمزي فىالمجتمع؟
سؤالك عن موقف الكاتب من السياسة مهم جدًا. هناك فكرة مفادها: أن الكاتب يجب أن يعارض الحكومة وينتقدها بل ويتحمل مسؤولية الحلول السياسية لمشكلة معينة فىبلاده. من السهل إشراك الكتابة فىالأحداث السياسية، والتلاعب بالكتّاب واستخدام كلماتهم لتحقيق مصالح سياسية، مثلما يحدث فىالعالم الذي نعيشه اليوملكن، الأدب له مهام أخرى. الأدب فيمقامه الأول الإنسان. يمكن لأي شخص اعتناق ما يشاء من الأديان أو أن يكون ملحدًا أولديهميولات سياسية معينة، هذا غالبًا ما يصبح سببًا للخلاف والصراع. يسعى الأدب إلى فهم الجوهر الأخلاقي للإنسان وشخصيته ودوافع أفعاله على وجه التحديد من أجل تجنب النزاعات والعنف. لا يمكن القضاء على العنف من حيث المبدأ، لكنه يلجأ إلى أفضل الصفات العقلية لكل شخص ويجعل من الممكن حلًاللمشكلة من خلال حل وسيط معقولًا.يمنح الأدب الوعي،فالوعي يساعد على تجنب العنف. مسؤولية الكاتب هي خلق هذا الوعي باستمرار؛ للحفاظ على حوار دائم عام مع أعماله. لكن الكثير من الناس، بمن فيهم السياسيون، يشاركون فىالحوار العامبما يملكونه من طرائق خاصةلجذب الكاتب إلى المنطقة السياسة، ليحجموا دورهفىأن يكونوا كاتبًا مستقلين. دون كلمةالكاتب، سينمو العنف فىالمجتمع لأن الناس لن يعودوا يفهمون بعضهم البعض.هذا لا ينطبق فقط على العلاقات داخل الدول، بل على العلاقات بين الدول. لذلك أرحب بحوارنا الذي آمل أن يؤدي إلى تفاهم مشترك.

هل يمكن للشاعر أو الأديب أن ينتمي سياسياً لحزب ما، بدون أن يفقد حريته فىالتعبير؟
أشكركِ على سؤالكِ الذي يعيدنا إلى جوهر الأدب ومعناه الأساسي. الأدب أوسع من السياسة لأنه يفحص الحياة ككل ويدرسها ويربطها بالقيم الأبدية. تمد السياسة أنفها فىهذه الحياة حقًا، وتشكل قرارات وأحداثًا محددة. السياسة هي فن الممكن، والأدب، وخاصة الشعر، هو فن المستحيل الذي نسعى إليه دائما. يمكن للأدب أن يحتوي السياسة كجزء من كل، لكن السياسة يمكنها فقط تقييد الأدب. وبالتالي يتعارضون بسهولة مع بعضهم البعض.لكن، ربما هناك أحزاب سياسية لديها اتساع كبير فىالآراء ولا تحد من البحث الفني والأخلاقي للكاتب. وهناك بالتأكيد مواقف يختار فيها الكاتب بوعيٍحزباسياسيًاما،  

وذاك مدرك أنه يسعى إلى تجسيد مُثله الأساسية.هذا حوار مفعم بالحيوية ومتوتر للغاية، ولا يمكن أن يكون هناك إجابة واحدة كافية للجميع.

فيما يخص الأدب الحديث، أينهم الروس الآن من العالم؟ أیهما أكثر تقدًما وتجدًدا روسیا الآن أم روسیا السابقة فىالأدب الحديث؟
لقد تطرقت إلى مسألة مهمة للغاية تتعلق بوجود الأدب، ليس فقط باللغة الروسية، ولكن أيضًا فىجميع أنحاء العالم. نتذكر أن الأدب يقوم على ثلاث مهام اجتماعية رئيسة:أنه ذاكرة للثقافة، ومرآة للحداثة، ودراسة لنماذج المستقبل. وبالتالي، فإن كل فترة جديدة فىتطور الأدب لا تلغي الفترات السابقة، بل تتطور على أساسها، وفىالفترات الصعبة من التغيير الاجتماعي يمكننا أن نجد الدعم والمساندة ممن سبقونا. كان القرن الـ 20 المأساوي بالنسبة لروسيا قائمًا على الخبرة الفنية والمعرفية الإنسانية، التي قدمها لنا القرن الـ 19. تنبأ الأدب الروسي العظيم فىالقرن الـ 19 بالمحاكمات التي ستمر بها روسيا فىالقرن الـ 20. عشنا من تجربتها الأخلاقية. واليوم، فىالعقود الأولى من القرن الـ 21، نرى بداية طفرة جديدة للأدب فىبلدنا.إن روسيا وآدابها  الآن وفىالماضي، هي وحدة واحدة، وقد تم بالفعل تفسير الأحداث التاريخية والتحولات الاجتماعية التي حدثت فىالقرن الماضي من قبل الكتّاب فوضعوها فىشكل فني فىأعمالهم.


تعرف القارئ العربي، كما العالمي، على الأدب الروسي فىمطلع القرن الـ20 المتمثل فىالروایة والقصة القصیرة، وكان یتصف بسمتین أساسیتين هما: الالتزام المنطلق من ضرورة الفن، والإیمان بالقیم الإنسانیة، فما تراها أهم سمات الأدب الروسي المعاصر؟
نشكرك على الرؤية الكبيرة وصياغة الجميلةللسمات الرئيسة للأدب الروسي فىسؤالك، بما فىذلك الأدب الحديث. نعم  يعتبر كل من الأجيال الشابة والرواد من الكتّاب الروس أن أهم قضية فىالقيم الإنسانية هي الأساس الأخلاقي للفرد. اليومفىعملية التطور السريع للتقنيات، وإدخال الذكاء الاصطناعي فىحياتنا، أصبحت مسألة الإنسان حادة ومؤلمة بشكل خاص.وهذا فىالأساس سؤال أخلاقي وجوهري، هل يعتقد الإنسان أنه يعيش فىعوالم فوضوية مليئةبالأحداثالعدوانية؟ أم أنه يشعر أنه يحتل مكانًا معينًا ويتحمل مسؤولية كبيرة فىنظام معقد من العلاقات الطبيعية والكونية، حيث توجد قوة أعلى تحدد وجودنا؟يمنحنا الأدب والفن معرفة حيةجنبًا إلى جنب مع الشعور والضمير. فىروسيا، يُطلق على الأدبأنه أكثر العلوم دقة فىالحياة، وأساسهُ متأتي من فهم أننا نعيش فىعالم منظم معقد، يجب دراسة قوانينه ومراعاته والمشاركة فىالحفاظ على الحياة وتثمينها. ثم الاهتمام بالعالم الداخلي للفرد، ودوافعه العاطفية، ومغزى أفعاله. ومن هنا يأتي الاهتمام بالضمير، لأن الضمير هو الشعور الذي يوائم أفعالنا مع قوانين عالم الله من حولنا. فمن هنا ينطلق القلق على المستقبل، والمسؤولية التي يجب أن نتحملها اليوم. يسعدني أن أرى كيف يتحول الكتّاب الشباب، وطلابي على وجه الخصوص، إلى الأسئلة الروسية التقليدية حول شخص ما ويسعون جاهدين لتفكيكتلك الأسئلة وحلها فىواقع اليوم.

المتداول عن النسویة أنها قد تجاوزت مراحلها عند الروسیات، وخاصة فىالأدب الذي تكتبه النساء، كونها وصلت لمرحلة ما بعد النسوية، وخاصة فىمسألة تدجین ما بعد النسویة. كیف تتم ترجمة ما بعد النسویة وجعلها مفهومة لعامة الناس من الشعب الروسي؟
 لم يحظ الأدب النسوي فىروسيا بتطور واعتراف حقيقي. أعتقد أن هذا حدث لأنه عبر تاريخهلم يميز الأدب الروسي ضد الكاتبات والنساء بطلات الأعمال. لطالما كان يُنظر إلى الرجل والمرأة على أنهما جزءان متساويان وغير منفصلين من المجتمع. فىأعمال الكتّاب الروس العديد من الصور النسائية الغنائية الجميلة. تقليديا فىالثقافة الروسية،المرأة هي مصدر إلهام الرجل. فالمرأة هي من تمثل نفسها وحدها.وعندما حلت موجة جديدة من النسوية إلى روسيا فىنهاية القرن الـ 20، لم تحظ بدعم كبير وقراءةشاملة. ربما لأن مجرة ​​كاملة من النساء الشاعرات والكاتبات قد تشكلت فعلا فىالأدب الروسي بحلول ذلك الوقت، لذا لم تكن النساء بحاجة إلى ترسيخ أنفسهن فىالأدب على العكس من الرجال تماما. يمكنني أيضًا أن أتحدث عن تجربتي الشخصية  بعد أن انشغلت فىالكتابة منذ التسعينيات، لم أواجه قط تمييزًا مهنيًا أو موضوعيًا. واليوم تطور «النثر النسائي» بدعم من الشاعرة والكاتبة المسرحية» سفيتلانا فاسيلينكو»وتحت قيادتها، ويتم نشر الكتب بشكل منهجي، ويتألف فريقها- فريق النشر-  من النساء فقط. ومع ذلك، فإن هذا النثر لا يتعارض مع الأعمال المنشورة، وفىحوار دائم معهنفيما يخص الأدب الروسي، يُنظر تقليديًا إلى المعارضة والمواجهة بين الرجال والنساء على أنها مدمرة لكلا الجانبين.

من المعلوم أن روایة فلوبیر (مدام بوفاري) نشرت قبل روایة تولستوي (آنا كارنینا) بنحو ٢١ عاما، وهناك أكثر من عامل مشترك بینهما، مثل موضوع الخیانة الزوجیة والنهایة المأساویة –الانتحار- وكذلك قضیة الحمل بعدعلاقة خارج إطار الزواج، فـ إیما بوفاري أنجبت طفلة وآنا كارنینا أجهضت، فهل تظنون أن تولستوي قرأ روایة فلوبیر وتأثر بها بحیث لم یستطع تلافىالوقوع فىشباك التناص من خلال المشتركات الثلاث؟
تمت مقارنة روايات «مدام بوفاري» و «آنا كارنينا» فعلا فىالنقد الأدبي الروسي والأجنبي. هناك دليل على كيفية تعامل هؤلاء الكتاب مع بعضهم البعض. تولستوي فىمحادثة مع أجين بوردون فىسنة 1904 قال: «أحد كتابي المفضلين هو فلوبير الذي لا يضاهى. فىالواقع، فنان رائع، عظيم، دقيق، متناغم، كامل الجسد، مثالي. أسلوبه مليء بالجمال النقي المتناغم». رد فلوبير بعد أن قرأ «الحرب والسلام» فىالترجمة الفرنسية عام 1879، على تورجينيف حول هذا الموضوع على النحو التالي: «هذه رواية من الدرجة الأولى. يا له من رسام ويا له من عالم نفس!»مشكلة العائلة والواجب والحب والعاطفة بشكل أو بآخر تقلق كل كاتب،وكلينظر لها بشكل مختلف عما ينظر لها غيره. إذا كان فلوبير يصف أولاً وقبل كل شيء الزنا الصغير ونتائجه الطبيعية، فإن تولستوي فىالمقدمة كان موضوعه الأسرة، والمشكلة الأخلاقية للواجب والعاطفة. لقد أوجز بالفعل هذه المشكلة فىرواية الحرب والسلام، وفىآنا كارنينا كشف بعمق من خلال قصص ثلاث عائلات - كارينينز وأبلونسكي وليفين-. واحد من خطوط الحبكة الثلاثة يردد صدى رواية فلوبير ظاهريًا، لكن فكرة مختلفة تمامًا تهيمن عليها. فقد اشتملتروايته علىمشكلات عائلية وفلسفية واجتماعية، لكن الشيء الرئيسي هنا هو مأساة الأسرة جراء التغيرات التي تطرأ على الأخلاق العامة.بالإشارة إلى التشابه الخارجي بين رواية فلوبير وأحد خطوط حبكة رواية تولستوي، وهما كلاسيكيتان من القرن الـ 19، نرى مدى الاختلاف لاستخدام كل منهما فىمهارتهما المتميزةفىتناولهمالهذا الموضوعومدى اختلاف عمق المشكلة التي أثاروها،فعند القراءة المتأنية نفهم مدى اختلاف الروايتين  فىخزينة الأدب العالمي المختلفة.


هل كانت لدیكم خطط أو نیة فىإعادة تفعیل ترجمة آدابكم الجدیدة كما كان یحدث فىالسابق وكما تفعل أغلب الدول الأوربیة الآن؟
 لو فهمت سؤالك بشكل صحيح، فنحن نتحدث عن ترجمات أدب جديد. هذه المشكلة مهمة بالنسبة لروسيا سواء على الصعيد الدولي أو فىإطار حوار الثقافات الوطنية داخل البلاد. يجب الاعتراف بأن الأنشطة الأدبية والترجمة التي كانت تدعمها الدولة السوفيتية بنشاط فىالسنوات الثلاثين الماضية قد ضعفت بشكل كبير.لكن الوضع فىروسيا تغير اليوم، حيث تُعقد ندوات إبداعية للمترجمين الشباب، وشاركتُ فىالعديد منها كمدرس أدبي،وفىالعام الماضي عقدت مثل هذه الندوة فىسيكتيفكار وفىاوفا. ففىأيام العطلة، اعتاد معهد غوركي الأدبي فىموسكو تدريب مجموعات من المترجمين فىمختلف مجالات التفاعل الثقافي.شعرتُ بالاهتمام الكبير لدى الكتاب الشباب والمبتدئين بأعمال الترجمة عندما فتحت مختبرًا للترجمة فىمعهد ولاية تشيليابينسك (إقليم الأورال) للثقافة. عندما دعتنا الأخصائية الشابة إيلينا رومانوفا إلى مشروع تكييف الطلاب الأجانب فىروسيا عن طريق الفن، واتضح أن العديد من هؤلاء الطلاب يكتبون شعرًا رائعًا. منذ ذلك الوقت، فىلقاءاتنا وأعيادنا الأدبية، ظهرت القصائد باللغتين العربية والهندية وترجماتها الروسية.أعتقد أن الرغبة فىالحوار والرغبة فىتوسيع مجالها الثقافىليست مجرد توجها روسيا اليوم، لأن حوارنا حول الأدب الروسي والعربي هو أيضًا تجسيد له على نطاق عالمي.

لا یوجد مسرح ذا سمعة عالمیة عالیة من دون ان یعرض مسرحیات أنطون بافلوفیتش تشیخوف. أین تجدون السر فىهذه الشهرة العالمیة وهذا الاهتمام المحموم بأعمال المسرحي الروسي تشیخوف؟
أنا سعيدة لأنك تقيم الموقف تجاه أنطون بافلوفيتش تشيخوف فىالعالم على أنه اهتمام كبير. نحن فخورون بأن هذا الاهتمام ينمو. أعتقد أن خصوصية دراما تشيخوف تكمن فىأنه حوّل الانتباه من فعل إلى تجربة. يهتم الشخص دائمًا بشخص ما، ويهتم دائمًا بالمشاعر، وعندما يصبح فجأة القوة الدافعة لعمل المسرح، يكون سبب الأحداث وتأثيرها بالطبع أمرًا جذابًا للغاية.يمنح هذا أيضًا حرية إبداعية كبيرة للمخرج فىإبداعه المشترك مع الكاتب المسرحي فىتجسيده لأروع التجارب العاطفية على المسرح. عالم الروح البشرية لا نهاية له ومتعدد الأوجه. القرن الـ 20 بأكمله وأحداث اليوم تجبرنا على البحث عن أصول كل ما هو جميل وما هو مأساوي فىالروح فىأعمق تجاربها. وأصبح تشيخوف أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى.

نحن بحاجة إلى معرفة الحریة،أعني حریة التعبیر فىروسیا. كیف تتعامل الحكومة مع المشهد الثقافىالیوم،هل هناك كتاب وصحفیون فىالسجون یمارسون الكتابة من خلف القضبان؟ هل ثمة رقابة تقید مساحة الكاتب؟ إذا لا، لماذا هنالك كتاب روس یعیشون فىأوروبا؟
 مسألة حرية التعبير ليست فقط مثيرة للاهتمام،إنه أمر حيوي لأي كاتب فىأي بلد،  لأن الكلمة هي أساسنا وأداة العمل. أنا منخرطة فىالصحافة والأدب مهنيًا منذ أوائل التسعينيات ولم تصادفني يومًا مسألة تقييد الكلمة. ليس لدينا الآن منظمات أيديولوجية، ولا رقابة على ما يقوله الكتاب بالمطلق. هناك مشكلة ليست فىروسيا فحسب بل فىالعديد من الدول. فىغياب الأيديولوجياتيصبح السوق الجهة المنظمة فىمجال الثقافة، تقطع الأعمال المعقدة عن القارئ إذ تتطلب جهدا روحيا لإدراكها، بل تقدم بشكل رئيسيالكتب المسلية للقارئ، لأن الكتب الأيديولوجية كتب معقد لا يربح بها السوق ولا تُروج، يشتريها فقط من يحتاج إليها وهذا يسبب مشكلة للناشر.فىهذه الظروف تدعم الحكومة الروسية والإدارات الإقليمية الكتاب، وتخصص له مُنحًا.ينشر فيعددكبير من المجلات الأدبية الإقليمية،فالطبع مع ازدهار الأدب الذي نشهده اليوم.الدعم المطبعي للكتاب غير موجود؛فالعديد من المؤلفين ينشرون مؤلفاتهم على حسابهم الخاص أو البحث عن رعاة لنشر أعمالهم. بالإضافة إلى أدب التيار الليبرالي الذي يحظى اليوم بدعم أكبر من الأدب التقليدي والوطني، مع ذلك لا توجد رقابة أدبية فىروسيا الحديثة، وهذه نعمة كبيرة.لكن هناك مسؤولية كبيرة على كل كلمة تنشر، فالقارئ هو من يحاسب الكاتب فىروسيا. بالنسبة للجزء الأخير من سؤالك، لا أعرف كتابا روسايمارسون الكتابة خلف القضبانبسبب الرقابة الأدبية أو لسبب آخر يخص الأدب. يكتب الشاعر الآن ما يجول فىرأسه فقط. ومن الصعب عليّ أن أجيب على السؤال: لماذا يعيش كتّاب روس فىأوروبا، كل واحد منهم اختارذلك بحرية القرار. العالم مفتوح ويمكن لأي شخص أن يختار مكان إقامته. أنت، على سبيل المثال، تعيش فىفنلندا، لكنك لا تزال كاتبًا عراقيًا. كذلكالكاتب الروسي، وإن غادر روسيا  يظل كاتبا روسيا. 


أعتقد أن الأدب فىالعقود الأخيرة يقف خلفه السياسة بقوة، وذلك بسبب صعود الولایات المتحدة والتفاف الشرق الأوسط بعباءة الأمريكان، لم یعد للروس ید متحكمة فىهذه الأماكن، ومن هذه الأذرع الترجمة والأدب عموما وحتى السینما، بسبب صعود الأمريكان وذوبان الشیوعیة فىالأخير.
لسوء الحظ، غالبًا ما يصبح الأدب والثقافة الحديثة بشكل عام رهينة للسياسة وأدوات للتوسع السياسي والاقتصادي. فىهذه الحالة، المشاركون فىالحوار ليسوا متساوين، أحدهم يملي والآخر يرى. يصعب عليّ تقييم التأثير الثقافىللولايات المتحدة على دول الشرق، فأنا لست سياسية ولا أملك معلومات فىهذا المجال. لكني متأكد من أن الهدف من الحوار الأدبي وحوار الثقافات هو التفاهم والاحترام المتبادل بين الناس فىجميع أنحاء العالم، وليس فقط فىمناطق معينة من النفوذ السياسي والاقتصادي. أصبح هذا الفهم أساس حسن الجوار والتعاون، والعالم اليوم فىأمس الحاجة إليه.

هل یمكن أن نقرأ الأصوات المعارضة فىالأدب الروسي والتي كانت مبعدة فىفترة حكم ستالین وهي كثیرة فىالشعر والروایة، بمعنى هل هناك إصدارات جدیدة فىهذا الشأن غیر نتاج آنا اخماتوفا وشارلام شالاموف؟
بالطبع، لا يمكن للكتّاب المعاصرين تجاهل هذا الحدث الكبير والمأساوي فىبداية القرن الماضي، لأن مشكلة التحولات الاجتماعية الكبيرة واختيار مسار التنمية أصبحت ذات صلة - مرة أخرى، ليس فقط لبلدنا، ولكن للعالم بأسره.واحدة من أفضل روايات العصر الحديث، يمكنني أن أسميها ثلاثية «ظل بيهستونج» المخصصة لأحداث الحرب العالمية الأولى فىروسيا. فإن ما سبق الحرب هي الأحداث الثورية، فتسببت فيها وحكمتها إلى حد كبير. بينما لم يُكتب عنها إلا القليل. كان مؤلف هذه الرواية هو كاتب النثر المشهور أرسين تيتوف من مدينةايكاترينابورج.حصلت روايته على جائزة «ياسنايا بوليانا» الأدبية المرموقة فىروسيا. ربما ستتاح لك الفرصة لقراءة هذه الثلاثية، لكن للأسف، لم تتم ترجمتها إلى العربية بعد.


هل تعتقدین أن الأدب الروسي الآن بمراجعاته التاریخیةللماضي القاسي الذي طاله وللرقابة التي ضیقت علیه الطریق  یستطیع أن یتجاوز هذا الماضي، بمعنى آخر یرى البعض أن الأدب الروسي الحدیث هو مراجعة للماضي ما یجعله فاقدا المستقبل باعتبار أن من یطلق نیران مسدسه على الماضي سوف یطلق علیه المستقبل نیران مدافعه. فهل تعتقدین انه قادر فىالمستقبل أن يجد دربا؟ هل من بوادر أمل أن ینهي مراجعاته ویقدم نفسه للعالم العربي بعد أن تراجع أو غیب؟
 أفهم أن سؤالك مدفوع باهتمام شديد بالحياة المعاصرة فىروسيا. طبعا أدب الحداثة ينُسى  ولا يختفي، وحوارنا دليل حي على ذلك!لا يُنظر إلى التاريخ فىالتقليد الروسي على أنه ترتيب لأحداث منفصلة، ولكن كعملية متكاملة وموحدة، حيث من المهم جدًا فهم كيفية تأثير الواقع علينا ومدى قدرتنا على التأثير فيه. من الصعب فهم الأحداث الكبيرة عند حدوثها، لأنها قريبة جدًا، ومن المستحيل ببساطة رؤية بعض العلاقات عن قرب. لذلك ، فإن الرجوع إلى التاريخ هو جزء من تقاليدنا الأدبية.ينظر بعض الباحثين الغربيين للأحداث الثورية فىبداية ونهاية القرن العشرين على أنها انقطاع للتعاقب التاريخي والاستمرارية، لكن الأمر ليس كذلك. فمن خلال صورة حدث تاريخي، صيغتمعان حديثة ذات صلة وثيقة فىمعظم الأعمال الأكثر إثارة وأهمية  للقراء، هي تلك الأعمال التاريخية التي يرون فيها صورة الحاضر.هذا لا يستبعدظهور الأعمال الفردية التي يمكن أن يُنظر من خلالها إلى مناشدة الماضي على أنها هروب من الحاضر،والانهزام من إيجادحلول عاجلة للمشاكلات. لكن لم تحدد مثل هذه الأعمال فىالماضي ولا الآن.فالأدب الروسي يكتب بدوامنشط عن الحداثة أيضا.أود لو تتاح للقراء العرب فرصة التعرف على الحياة الحديثة فىروسيا، وليس على تاريخنا فحسب. لذا من الضروري إقامة حوارات أدبية مستمرة وأعمال حثيثة تخص الترجمة.

كتبت مرة أنا بروساكوفافىزمن يلتسن، أن الأدب الروسي فقد مركويته وحيويته فىالحياة الروسية وتحول القراء عن التفكير وانصرفوا إلى قراءة الصحف، وراحوا يتحدثون فىمطابخ منازلهم عن يلتسين ولوكاشينكو أكثر من حديثهم عن الروايات والأشعار. هل سنشهد عودة جديدة للأدب الروسي فىالحياة الروسية اليومية؟ وهذا حتما سيتبعه عودة إلى مركزية الأدب الروسي فىالعالم، فقد شغل هذا الأدب العالم لفترة ليست قصيرة.
 لقد تناولت موضوعًا مهمًا جدًا. أصبحت التسعينيات من أصعب السنوات وأصبحت تجاربها من أصعب التجاربفىروسيا على مستويات اقتصادية وسياسية وإنسانية. أنت تعلم أن هذه الأزمة نجمت عن موت الاتحاد السوفيتي وعواقب هذا الموت. حدثت التغييرات بسرعة كبيرة وشغلت انتباه مواطنينا، لأنه كان من الضروري التنقل فىبيئة جديدة وصعوبة العيش وتربية الأطفال والعمل.لكن لا يمكنني أن أتفق معك فىأن الأدب الروسي فقد حيويته وأهميته،فمنذ عام 1991، عقدت اجتماعات أدبية باستمرار، وعملت ككاتبة ودعوت زملائي للحديث بهذا الشأن،وحضر هذه القراءاتعدد غفير من القراء، وتحدثنا عن الأدب والحياة، وقرأنا الشعر والنثر. فقد شرع الكثير من الناس فىكتابة القصائد والقصص بأنفسهم، وأرادوا دراسة وتعلم الكتابة.ففىعام 1994، قمت بتدريس العديد من الفصول الأدبية للأطفال والشباب وقدامى المحاربين. كانت هذه الفئات مطلوبة للغاية. اليوم أنا أواصل هذا العمل ليس فىمناطق جبال الأورال، إنما فىجميع أنحاء روسيا. منذ أكثر من عشر سنوات، أقوم بدورات أدبية فىمعهد تشيليابينسك للثقافة.ولسوء الحظ، هناك مقالات انتهكت الأدب فىروسيا، بالإضافة إلى أن عددًا قليلاً جدًا من أعمال الكتاب الروس ترجمت وتترجم إلى لغات أجنبية، وهذه الترجمات لا تعكس محتوى الأدب الروسي الحديث. لذلك، يشعر المرء فىالخارج بأن التقليد العظيم للأدب الروسي قد توقف وفقد أهميته العالمية. وبالطبع هذا ليس هو الحال. لا تزال روسيا دولة تتمحور حول الأدب. وما زال الأدب الروسي يفهم ويصف الحياة اليومية فىروسيا. فاليوم تنشر مجلات ممتازة للقراءة العائلية فىمناطق مختلفة من روسيا مثل «النهار والليل» فىكراسنويارسك، و»صعود» فىفورونيش، و»بيلسكي بروستوري» فىأوفا، و»ردنايا لادوغا» فىسانت بطرسبرغ، و»بييسك فيستنيك» فىألتاي، وغيرها من المجلات. وإذا ما ترجمت أفضل الأعمال المنشورة فىهذه المجلات إلى اللغة العربية، فسيكون القارئ العربيقادر على الاقتناع بأن الأدب الروسي حي ويواصل تقليدًا عظيمًا.


لماذا تخلى الأدب الروسي عن عالميته وتراجع ليكون أدبًا محليًا لا يقرأ خارج الحدود؟!
  لقد ساعدني سؤالك فىمعرفة كيف يُنظر إلى الأدب الروسي فىالخارج اليوم. لا تزال عالمية الأدب الروسي، وأسسهُ الأخلاقية الرفيعة التي صيغت فىالقرن الـ 19 معترفا بها فىجميع أنحاء العالم، أساسية بالنسبة لنا.لكني أعتقد أن الأدب مثل الثقافة بشكلها العام بعد أن صعد إلى القمة، لا يمكن أن يظل دائمًا عليها، لأن الأدب طريقة رائعة ومأساوية لفهم الشخص لذاته وقوانين العالم الذي يعيش فيه،وهذا ليس طريقًا سهلاً.تماشيًا مع الأحداث التاريخية فىالقرن الماضي، واجه الأدب الروسي مع المجتمع العديد من التصادمات، تغير موقف العالم تجاهها من الاهتمام والانتباه إلى التسييس الحاد والمغرض بل وحتى إلى العداء. الحفاظ على التقليد الأخلاقي للأدب الروسيمستمر فىأعمال الكتاب الشباب. هل يمكن اعتبار هذا إنكارًا للعالمية؟لقد شهدنا أيضًا فترة ترجم فيها الأعمال التي تعرضت فيها الحياة فىروسيا للتشويه والتشويش بشكل كبير. مثل هذا التحيز، بالطبع، غير مقبول.اليوم، لا تزال مشكلات بناء حوارات ثقافية على المستوى العالمي قائمة، ولهذا من الصعب إجراء تقييم موضوعي لحالة أدبنا. أعتقد أن محادثتنا هي إحدى الفرص العظيمة وخطوة نحو حل هذه المشاكل.
 


ما حال قصيدة النثر؟ وهل تأثر الشعر بما رفد إليه من تيارات عالمية خارج روسيا؟ فيما تتمثّل اهتمامات الكتاب الشباب الشعرية وما الصعوبات التي تواجه نتاجهم الأدبي؟
 لقد طرحت سؤالًا قريبًا جدًا مني، لأني أعمل مع الشعراء الشباب وأعلّمهم المهارات الأدبية للقصائد.النثر هو نوع غنائي خاص نادر جدًا فىأدبنا، واليوم لا يحظى بشعبية.منذ بداية القرن الـ 21، انتشر الشعر الحر(القصيدة المفتوحة)  فىروسيا، وتجلى فيه تأثير الشعر الغربي: التوجه الفكري، القرب من الكلام اليومي والموضوعات اليومية، وغياب الصور. فىالتقليد الشعري الروسي الشعر الحر أقصر، والاستعارة هي أساس حبكتها ووسيلة التعبير الرئيسية فيه.من الواضح الآن أن التقليد الغربي للشعر الحر لم يتجذر فىبلادنا. بالنسبة للشعر الروسي، فالمقطوعات الصوتية أكثر خصوصية وعضوية، الأساس الموسيقي للشعر نفسه يحمل معانعظيمة،يكشف عن الصور الفردية. ويفضل الشعراء الشباب الشكل التقليدي، مدركين أن ذلك يساعدفىالكشف عن المعنى العميق.إذا تحدثنا عن الصعوبات، فربما تكون تلك هي الصعوبات التي تواجهها المواهب الشابة التي تطرقت لها أعلاه. يتمتع الشعراء الشباب اليوم بفرصة التواصل وتعلم المهارات، والمنافسة فىالمسابقات، فتنشرالقصائد فىالمجلات والمجموعات الأدبية. تقليديًا تخصص كل مجلة سنويًاعددًا أو نصفه لإصدارات الشباب. هناك منح لنشر الكتاب الأول.الكتّاب الشباب فىروسيا نشطون للغاية. لقد أنشأوا مجلس الكتاب الشباب فىاتحاد الكتاب فىروسيا، وعقدوا اجتماعات ومهرجانات كبيرة فىجميع أنحاء البلاد، وأداروا استوديوهات أدبية للأطفال، ونشروا فىالمجلات، وفتحوا منشوراتهم الخاصة على الإنترنت. هذا جيل قوي وحيوي.منذ بداية العقد الأول من القرن الـ 21، بدأت فكرة أن الشعر ما هو إلا تعبير عن الذات ليتم زجه بنشاط فىالمجتمع. هذه الأنانية الأدبية ليست نموذجية بالنسبة لنا، فالشاعر فىالتقليد الروسي (وفىالتقليد العربي على ما أعتقد) هو تعبير عن مشاعر وأفكار الناس، عندها فقط تصبح مهمة ويبدأ الشعر فىالظهور بصوت كامل. ويسعدني أن أرى أن فكرة التعبير عن الذات لم تترسخ عندنا، بل أصبحت شيئًا من الماضي. يتحمل الشعراء الشباب المسؤولية عن الكلمة، ولا يبررون أنفسهم بالتعبير عن أنفسهم.تكمن اهتمامات الشعراء الشباب فىالمقام الأول فىفهم أنفسهم وخلق صورتهم الخاصة عن العالم، وتجربة مشاعر عالية. كل شاعر، ربما فىجميع أنحاء العالم، يبدأ بهذا، أي من الشخصي للغاية، ثم تأتي الموضوعات الفلسفية الأوسع نطاقًا: الوطن الأم، والتاريخ، والطبيعة، والعالم ... ودائمًا بالطبع، موضوع الحب.يصعب عليّ الحكم على مدى تأثير الشعر الروسي المعاصر على الأدب العالمي. أفهم أن أعمال الترجمة والحوار بين الثقافات المختلفة تتطلب اليوم اهتمامًا خاصًا وتطورًا نشطًا. وآمل أن تتاح الفرصة لخبراء الشعر فىجميع أنحاء العالم للقاء جيل الشباب المُشرق من الشعراء وكتاب النثر الروس.