حظر التجمعات بأمر الباشا لمواجهة الوباء

الحديث عن إصابات الكوليرا ممنوع.. و«الولولة» مرفوعة من خدمة الجنازات!

 سعيد باشا منع الحديث عن إصابات «الهواء الأصفر»
سعيد باشا منع الحديث عن إصابات «الهواء الأصفر»

تبدو الدعاية المُضادة ظالمة أحياناً، وقد لا يتضح ظلمها إلا بعد عشرات السنين. هذا ما فكرتُ فيه وأنا أقرأ قرارات وأوامر والى مصر سعيد باشا، الذى صورته بعض الكتب كشخص شديد النهم «همه على بطنه» فقط، لدرجة أنه وافق على حفر قناة السويس مقابل «طبق مكرونة»! استعراض أوامره يحتاج إلى كتاب، لهذا أكتفى هنا باختيار بعض ما يتماشى مع أجواء «كورونا» التى تُسيطر على العالم منذ أكثر من عام ونصف العام. ففى سنة 1855 ضربت موجة جديدة من وباء الكوليرا دولا عديدة، وكان هذا المرض قد اعتاد أن يبث الرعب فى قلوب الناس كل بضعة أعوام، وفى القرن التاسع عشر عُرف فى مصر والبلدان العربية باسم «الهواء الأصفر».

الثابت أن العادات السلبية لم تتغير رغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن، فقد لاحظ سعيد باشا أن ممارسات الحياة اليومية تتسبب فى نشر الكوليرا، لهذا أصدر أمرا رسميا حذّر فيه من خطورة ما يحدث، سوف نُترجم ما ورد فيه، لأن لغته العربية قد تستعصى على الفهم. أشار الباشا بوضوح إلى «الأسباب المكروهة»، التى تساهم فى انتقال العدوى، ومن بينها اجتماع الأهالى فى أماكن مفتوحة رغم حرارة الجو، لمجرّد «سماع بعض الملاهى»، أو تجمعاتهم فى أماكن مُغلقة مكتومة الهواء، لكنه لم يكتف بذكر خطورة ذلك على الصحة العامة فقط، بل تطرق إلى الأضرار النفسية، فأشار إلى هوس المواطنين بالحديث عمن أصيبوا بالمرض ومن ماتوا به، وهو ما يزيد من حدة ضرر «الأوهام النفسانية». لهذا وجّه بإبطال التجمعات، خاصة مع اقتراب عيد الفطر. أوامره الصادرة فى 17 رمضان شدّدتْ أيضا على ضرورة منع «الولولة والصُوات وتراكم النساء حول جنازة الأموات»، واعتمد فى ذلك على وجهة نظر دينية، لكن دوافعه لم تكُن دينية، حيث أكد بعدها بوضوح على ضرورة القبض على من لا يمتنع عن تلك الأمور، لأنها تجلب الضرر من تأثير الأوهام.
قبلها بيوم كان الباشا قد أصدر أمرا عاليا آخر لمحافظة الإسكندرية، بضرورة اتخاذ جميع الإجراءات لحفظ الصحة العامة، وطلب عقد اجتماع بين محافظها وناظر ديوان البحرية، لتحديد التدابير اللازمة، بهدف «منع سريان هذا الداء الوخيم». الحديث عن ديوان البحرية يعكس رؤية استباقية لسعيد باشا، فقد اتخذ القرار بعد أن توقع أن تكون الموانئ أحد أهم بؤر استيراد الوباء المُتفشى عالميا، وهو ما حدث بالفعل بعدها بأعوام فى عهد الخديو إسماعيل، عندما وصلت الباخرة سدنى وعلى متنها 15 ألف حاج من مختلف دول العالم، وأخفى القبطان أن عددا من رُكابها مصابون بالكوليرا، رست السفينة بميناء الإسكندرية، وهبط منها الحجاج المصريون لينشروا المرض، وأصيبت عروس المتوسط بكارثة فقدت فيها 4 آلاف من أهلها، أى نحو 22% من سكانها، وانتقل الوباء إلى مختلف المحافظات، فمات فى القاهرة ستة آلاف مواطن، وعلى مدار ثلاثة شهور تالية فى صيف 1865 مات 60 ألف مصرى.
أصدر سعيد باشا عدة أوامر مشابهة لعدد من المحافظات، تضمنت التعليمات نفسها تقريبا، لكن المختلف كان أمرا وجهه لناظر ديوان البحرية، بالتنسيق مع رئيس رجال الجهادية، بعودة ثلاثة ألوية تابعة للجيش لمديرياتها الأصلية إلى أن ينتهى الوباء، مع توفير رعاية مُناسبة للجنود الباقين فى الإسكندرية، وأمر بصرف خبز نظيف لهم، وإن لم يتوافر يتم استبداله ببقسماط نظيف عالى الجودة، مع ضرورة اتباع الإجراءات الاحترازية السابق ذكرها. ونتيجة لتدابير الباشا مرت الأزمة بأقل الأضرار.