البستان

في رثاء سعدي ‬يوسف.. الشاعر الذي رأى وتجاوز

سعدى‭ ‬يوسف‭
سعدى‭ ‬يوسف‭

أحمد‭ ‬الناصري

رحل‭ ‬شاعرنا‭ ‬الكبير‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬الذى‭ ‬كتب‭ ‬أطول‭ ‬قصيدة‭ ‬بالعربية،‭ ‬منذ‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ (‬القرصان‭ ‬1952‭) ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬ديوانه‭ (‬خريف‭ ‬مكتمل‭) ‬فى‭ ‬تجربة‭ ‬ثرية‭ ‬وزاخرة‭ ‬بالتجديد‭ ‬والاختلاف‭ ‬اللذين‭ ‬لم‭ ‬يتوقفا‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬قصائده،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أعماله‭ ‬الأخرى‭: ‬مجموعة‭ ‬قصص‭ ‬قصيرة‭ ‬بعنوان‭ (‬نافذة‭ ‬على‭ ‬المنزل‭ ‬المغربي‭)‬،‭ ‬ورواية‭ (‬مثلث‭ ‬الدائرة‭)‬،‭ ‬ورواية‭ ‬جرى‭ ‬إتلافها‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬مداهمات‭ ‬عام‭ ‬1963،‭ ‬حين‭ ‬جرى‭ ‬اعتقال‭ ‬الشاعر‭.

‬وترجمات‭ ‬رائدة‭ ‬وجديدة‭ ‬فى‭ ‬الشعر‭ ‬العالمى‭ ‬وكتب‭ ‬نقدية‭ ‬بينها‭ (‬رامبو‭ ‬وزمن‭ ‬القتلة‭). ‬وإزاء‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الطويلة‭ ‬والتجربة‭ ‬النادرة،‭ ‬أستعيد‭ ‬الظروف‭ ‬والوقائع‭ ‬التى‭ ‬تعرفت‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭.‬وهنا‭ ‬أسجل‭ ‬انطباعاتى‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬الذى‭ ‬رأى‭ ‬وتجاوز‭ ‬كقارئ‭ ‬تابعه‭ ‬وتعلم‭ ‬منه،‭ ‬فحين‭ ‬تعرفت‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف،كان‭ ‬قد‭ ‬تكرس‭ ‬اسماً‭ ‬هاماً‭ ‬يقف‭ ‬فى‭ ‬الصف‭ ‬الأول،أسس‭ ‬مشروعه‭ ‬الشعرى‭ ‬ورسخ‭ ‬أدواته‭ ‬الفنية،‭ ‬ودأب‭ ‬على‭ ‬تجريب‭ ‬مستمر‭. ‬وهو‭ ‬إذ‭ ‬يرحل‭ ‬ويمضى‭ ‬فى‭ ‬دروب‭ ‬فردية،‭ ‬دروب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الشعر‭ ‬والإبداع‭ ‬والثقافة‭ ‬والفكر،‭ ‬التى‭ ‬ساهم‭ ‬فيها‭ ‬بشكل‭ ‬حيوي،‭ ‬ويختتم‭ ‬مسيرة‭ ‬المواقف‭ ‬الوطنية‭ ‬الثابتة‭ ‬إزاء‭ ‬الحياة‭ ‬والوجود،‭ ‬فإنه‭ ‬ظل‭ ‬أميناً‭ ‬لجملته‭ ‬الأثيرة‭ (‬أسير‭ ‬مع‭ ‬الجميع‭ ‬وخطوتى‭ ‬وحدي‭)‬،‭ ‬يتلمس‭ ‬ويكتشف‭ ‬غابات‭ ‬الشعر‭ ‬وغاياته‭ ‬وتلويناته‭ ‬وأشكاله‭ ‬المتنوعة‭ ‬والمتجددة،‭ ‬بتجاوز‭ ‬نادر،‭ ‬،‭ ‬ليكتشف‭ ‬زهرة‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬نادر‭!‬

قرأت‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬السبعينيات،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬أسس‭ ‬مشروعه‭ ‬الشعرى‭ ‬المختلف‭ ‬واتضح‭ ‬معمار‭ ‬قصيدته‭ ‬الخاص،‭ ‬وكانت‭ ‬دواوينه‭ ‬الهامة‭ ‬قد‭ ‬انتشرت،‭ ‬خاصة‭ ‬ديوانه‭ ‬الأثير‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬السماء‭ ‬الأولى،‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬نهايات‭ ‬الشمال‭ ‬الأفريقى‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ديوان‭ ‬الأخضر‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬ومشاغله،‭ ‬والتى‭ ‬كتب‭ ‬أغلبها‭ ‬فى‭ ‬منفاه‭ ‬الجزائري،أى‭ ‬منذ‭ ‬أواسط‭ ‬الستينات،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬دواوينه‭ ‬الرصينة‭ ‬الأولى‭ ‬وفى‭ ‬مقدمتها‭ ‬النجم‭ ‬والرماد،‭ ‬الذى‭ ‬يعد‭ ‬التحول‭ ‬فى‭ ‬تجربته‭ ‬ويمثل‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬البدايات‭. ‬وبعدها‭ ‬ديوان‭ ‬الليالى‭ ‬كلها‭ ‬والدواوين‭ ‬التى‭ ‬صدرت‭ ‬فى‭ ‬بغداد‭ ‬حتى‭ ‬رحلينا‭ ‬الإجبارى‭ ‬عنها‭ ‬أواخر‭ ‬عام‭ ‬1978‭.‬

فى‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد‭ ‬نسبياً،‭ ‬والذى‭ ‬يبتعد‭ ‬عنا‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً‭ ‬فى‭ ‬مسير‭ ‬الحياة‭ ‬الطويل‭ ‬والمتعرج،‭ ‬كان‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬يمثل‭ ‬عالماً‭ ‬شعرياً‭ ‬وثقافياً،‭ ‬ثرياً‭ ‬وخلاقاً،‭ ‬جديداً‭ ‬باهراً،‭ ‬أثر‭ ‬فى‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والمثقفين‭ ‬وقراء‭ ‬الشعر،‭ ‬ليس‭ ‬فى‭ ‬العراق‭ ‬وحسب‭ ‬إنما‭ ‬فى‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭. ‬وكنا‭ ‬نتابع‭ ‬وبشكل‭ ‬يومى‭ ‬جريدة‭ ‬طريق‭ ‬الشعب‭ ‬التى‭ ‬صدرت‭ ‬فى‭ ‬16‭ ‬سبتمبر‭ ‬عام‭ ‬1973،‭ ‬حيث‭ ‬دأب‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬على‭ ‬النشر‭ ‬المتواصل‭ ‬والمنتظم‭ ‬فيها،‭ ‬وقد‭ ‬عمل‭ ‬لاحقاً‭ ‬فى‭ ‬الجريدة،‭ ‬مسئولاً‭ ‬عن‭ ‬صفحتها‭ ‬الثقافية‭.‬ومن‭ ‬خلالها،‭ ‬رعى‭ ‬وساعد‭ ‬عدداً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والشعراء‭ ‬الشباب،‭ ‬وترك‭ ‬آثاره‭ ‬الواضحة‭ ‬على‭ ‬عموم‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭. ‬فتأثر‭ ‬به‭ ‬وبأسلوبه‭ ‬الشعرى‭ ‬عدد‭ ‬منهم،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬التقليد‭ ‬والتبعية،‭ ‬وغياب‭ ‬المحاولة‭ ‬والتجريب‭ ‬الخاصين‭.‬وهذه‭ ‬مسألة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬مسئولاً‭ ‬عنها‭ ‬بأى‭ ‬حال‭!‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬الشاعر‭ ‬الذى‭ ‬يقف‭ ‬فى‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬العراقيين‭ ‬والعرب،‭ ‬كانت‭ ‬الفرصة‭ ‬متاحة‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬نتاجه‭ ‬وشعريته‭ ‬وخصائصها،‭ ‬كما‭ ‬تتبعت‭ ‬بداياته‭ ‬وثقافته‭ ‬وصفاته‭ ‬ومواقفه‭ ‬الفكرية‭ ‬والإنسانية‭. ‬وقد‭ ‬حصلت‭ ‬فى‭ ‬السبعينات‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬دواوين‭ ‬الشاعر‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬الناصرية،‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬المثقفة‭ ‬والمشاغبة‭ ‬والمشبعة‭ ‬بالشعر‭ ‬والتناقضات‭ ‬الصارخة‭. ‬مدينة‭ ‬تقرأ‭ ‬كل‭ ‬الشعراء،‭ ‬من‭ (‬الجاهليين‭) ‬إلى‭ ‬رامبو‭ ‬وبودلير‭ ‬ونيرودا‭ ‬وادغار‭ ‬ألن‭ ‬بو‭!‬

ومثلت‭ ‬قصائد‭ ‬ودواوين‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬لى‭ ‬طاقة‭ ‬شعرية‭ ‬هائلة‭ ‬جديدة‭ ‬متدفقة،‭ ‬وقامة‭ ‬شعرية‭ ‬عالية‭! ‬وفى‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينيات‭ ‬تركنا‭ ‬خلفنا‭ ‬بيوتنا‭ ‬وشوارعنا‭ ‬ومقاهينا‭ ‬وأحلامنا‭ ‬المرمدة،‭ ‬وحملنا‭ ‬خيباتنا‭ ‬ومراراتنا‭ ‬وأوجاعنا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬داهمنا‭ ‬طاعون‭ ‬الفاشية،‭ ‬وانتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬الجبل،‭ ‬بعد‭ ‬تجربة‭ ‬سياسية‭ ‬بائسة‭ ‬وفاشلة‭ ‬وفجة‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجوانب‭! ‬وفى‭ ‬الجبل‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مختلفاً‭: ‬حجر‭ ‬لم‭ ‬نألفه،‭ ‬ووديان‭ ‬سحيقة‭ ‬لم‭ ‬نر‭ ‬أو‭ ‬نتبين‭ ‬أغوارها،‭ ‬وقمم‭ ‬تختفى‭ ‬وراء‭ ‬الغيم‭ ‬الهابط،‭ ‬ذلك‭ ‬الغيم‭ ‬الخفيض‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬أره‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولغة‭ ‬جديدة‭ ‬لا‭ ‬نعرفها،‭ ‬وكان‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬حاضراً‭ ‬بيننا‭ ‬فى‭ ‬جلساتنا‭ ‬المسائية‭ ‬الطويلة،‭ ‬حيث‭ ‬يهبط‭ ‬الليل‭ ‬الثقيل‭ ‬منذ‭ ‬الخامسة‭ ‬لندخل‭ ‬تحت‭ ‬جنحى‭ ‬ليل‭ ‬سديمى‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬إصبعه‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬ليل‭ ‬طويل،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬كهرباء‭ ‬أو‭ ‬تلفزيون‭ ‬أو‭ ‬أى‭ ‬شيء‭ ‬ترفيهى‭ ‬عدا‭ ‬الذاكرة‭ ‬وقصاصات‭ ‬ورق‭ ‬متناثرة‭ ‬ومتباعدة‭ ‬تتألق‭ ‬على‭ ‬ذبالة‭ ‬الفوانيس،‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬البعيدة‭ ‬عنا‭ ‬اليوم،‭ ‬وفى‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الحجرى‭ ‬القاسي،‭ ‬كنا‭ ‬نقرأ‭ ‬قصائد‭ (‬حين‭ ‬صافحتني‭) ‬و‭(‬نحن‭ ‬لم‭ ‬نحمل‭ ‬على‭ ‬قمصاننا‭ ‬وجهك‭) ‬و‭(‬الرايات‭) ‬و‭(‬النهر‭) ‬و‭ (‬يا‭ ‬سالم‭ ‬المرزوق‭) ‬و‭ (‬كل‭ ‬الأغانى‭ ‬انتهت‭) ‬و‭(‬تكوين‭ ‬34‭) ‬وقصيدة‭ ‬سيدة‭ ‬النهر‭ ‬الأثيرة‭ ‬وسواها‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬أشعاره،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ملحمة‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬لا‭ ‬تصالح،‭ ‬وهى‭ ‬القصيدة‭ ‬الوصية‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬أزل‭ ‬ملتزماً‭ ‬بها‭! ‬بعد‭ ‬كارثة‭ (‬بشتآشان‭) ‬قرأنا‭ ‬لسعدى‭ ‬يوسف‭ ‬إعلان‭ ‬سياحى‭ ‬لحاج‭ ‬عمران‭. ‬وكنا‭ ‬نتذكر‭ ‬تحت‭ ‬جدارية‭ ‬فائق‭ ‬حسن‭ ‬ونبوءتها‭ ‬بالأيام‭ ‬الآتية‭ ‬بالدم‭ ‬والخذلان‭ ‬والفجيعة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬جديدة‭! ‬

سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬من‭ ‬القامات‭ ‬البارزة‭ ‬فى‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬ساهموا‭ ‬فى‭ ‬اكتشاف‭ ‬تقنيات‭ ‬جديدة‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬ولغتها‭ ‬وشكلها‭ ‬وبنائها‭ ‬الداخلي‭. ‬مضيفا‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬الشعر‭ ‬تركيبات‭ ‬لغوية‭ ‬جديدة،‭ ‬مجدداً‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬القصيدة،‭ ‬فهو‭ ‬ذو‭ ‬دراية‭ ‬عميقة‭ ‬بفلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬واللسانيات‭ ‬والشعر،‭ ‬وظفها‭ ‬فى‭ ‬بناء‭ ‬قصيدة‭ ‬حديثة،‭ ‬ويتميز‭ ‬بحس‭ ‬نادر‭ ‬بعلاقته‭ ‬بالمفردة‭ ‬وموقعها،‭ ‬حيث‭ ‬يضبط‭ ‬تماما‭ ‬مكانها‭ ‬ضمن‭ ‬البناء‭ ‬الدقيق‭ ‬لقصيدته‭ ‬الجديدة‭. ‬ولسعدى‭ ‬ذائقة‭ ‬موسيقية‭ ‬عالية،‭ ‬تسللت‭ ‬بقوة‭ ‬وحضرت‭ ‬فى‭ ‬موسيقاه‭ ‬الداخلية‭ ‬الفسيحة،‭ ‬فأصبحت‭ ‬إحدى‭ ‬سمات‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث،‭ ‬وهنا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تسمع‭ ‬وترى‭ ‬إيقاعاته‭ ‬المستمرة‭ ‬عبر‭ ‬تنويعات‭ ‬هارمونية‭ ‬تجمع‭ ‬شتى‭ ‬الدرجات‭ ‬الخفيضة‭ ‬أحيانا‭ ‬والضاجة‭ ‬أحيانا‭ ‬أخرى‭!‬ولشاعرنا‭ ‬أيضا‭ ‬علاقة‭ ‬قوية‭ ‬ومعروفة‭ ‬باللون‭ ‬والتشكيل،‭ ‬بدأها‭ ‬بعلاقته‭ ‬الخاصة‭ ‬بالحرف،‭ ‬مما‭ ‬منح‭ ‬حساسيته‭ ‬الشعرية‭ ‬طاقة‭ ‬اكتشافية‭ ‬هائلة،‭ ‬ولوناً‭ ‬خاصاً،‭ ‬وعلاقة‭ ‬مرنة‭ ‬بالمحيط،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬منغلقا‭ ‬أو‭ ‬قاسياً،‭ ‬إنه‭ ‬مثقف‭ ‬لونى‭ ‬يرسم‭ ‬بالشعر‭!‬

وسعدى‭ ‬يوسف‭ ‬شاعر‭ ‬البداية‭ ‬الواثقة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬عكس‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬علا‭ ‬شأنهم‭ ‬لاحقاً،‭ ‬رغم‭ ‬بداياتهم‭ ‬المتواضعة‭ ‬والتى‭ ‬لا‭ ‬تشى‭ ‬بمستقبل‭ ‬كبير‭ ‬ومبهر،‭ ‬ولا‭ ‬تنمُّ‭ ‬عن‭ ‬موهبة‭ ‬قوية‭ ‬كامنة‭. ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬بداية‭ ‬راسخة‭ ‬منذ‭ ‬دواوين،‭ ‬القرصان،‭ ‬وقصائد‭ ‬ليست‭ ‬للآخرين،‭ ‬و51‭ ‬قصيدة،‭ ‬ثم‭ ‬أحدث‭ ‬قفزته‭ ‬الهائلة‭ ‬فى‭ ‬ديوان‭ ‬النجم‭ ‬والرماد،‭ ‬الذى‭ ‬حدد‭ ‬مشروعه‭ ‬الشعرى‭ ‬وأفقه‭ ‬الواسع‭ ‬الرحب،‭ ‬القادم‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬ومن‭ ‬الشعر‭! ‬

ورغم‭ ‬أنه‭ ‬ظهر‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬الرواد‭ ‬مباشرة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬لصيقهم‭ ‬تقريباً،‭ ‬فقد‭ ‬حقق‭ ‬جدارة‭ ‬الإنجاز‭ ‬الخاص‭ ‬والتجاوز،‭ ‬والبناء‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬الرواد‭. ‬وما‭ ‬أنجزه‭ ‬سعدى‭ ‬يمثل‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬صميم‭ ‬التحديث‭ ‬والإبداع‭ ‬الشعري،‭ ‬ووجوده‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأسماء‭ ‬الكبيرة‭ ‬التى‭ ‬سبقته‭ ‬لم‭ ‬يجعله‭ ‬مقلداً‭ ‬أو‭ ‬مكرراً،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬محبطا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬عادة‭ ‬فى‭ ‬مجالات‭ ‬الأدب‭ ‬والفن،‭ ‬حين‭ ‬يستعصى‭ ‬التجاوز‭.‬

استفاد‭ ‬شاعرنا‭ ‬من‭ ‬ثقافته‭ ‬الموسوعية‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية،‭ ‬كما‭ ‬استفاد‭ ‬من‭ ‬سفره‭ ‬وترحاله‭ ‬الدائم‭ ‬ومن‭ ‬منفاه‭ ‬الطويل‭ ‬وثقافة‭ ‬تعدد‭ ‬الأمكنة،‭ ‬وعرف‭ ‬عنه‭ ‬بأنه‭ ‬قارئ‭ ‬مثابر‭ ‬ودؤوب‭. ‬فكان‭ ‬مشروعه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الركود‭ ‬والمحدودية،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬مشروع‭ ‬إبداعى‭ ‬مفتوح‭ ‬ومتجدد،‭ ‬لأنه‭ ‬مشروع‭ ‬مرتبط‭ ‬بالحياة‭ ‬وباللغة‭ ‬والفكر‭! ‬وعلاقته‭ ‬بأشكال‭ ‬الكتابة‭ ‬والفنون‭ ‬الأخرى‭ ‬لافتة‭ ‬ومميزة،‭ ‬إذ‭ ‬جرب‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الستينات،‭ ‬وربما‭ ‬فقد‭ ‬نصاً‭ ‬روائياً‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬1963‭ ‬الدامية،‭ ‬وأصدر‭ ‬فى‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬رواية‭ ‬مثلث‭ ‬الدائرة،‭ ‬وظل‭ ‬ديوان‭ ‬النجم‭ ‬والرماد‭ (‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬على‭ ‬الأقل‭) ‬علامة‭ ‬بارزة‭ ‬فى‭ ‬عمارة‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬الشعرية‭ ‬الشاهقة،‭ ‬وهو‭ ‬علامة‭ ‬فارقة‭ ‬وصلة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬دواوينه‭ ‬السابقة‭ ‬ودواوينه‭ ‬اللاحقة،‭ ‬وهو‭ ‬أنموذج‭ ‬معيارى‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬وطبيعة‭ ‬ما‭ ‬سيأتى‭ ‬وعلى‭ ‬عموم‭ ‬تجربته‭ ‬الشعرية‭ ‬الباهرة‭!‬

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬حقق‭ ‬مفهوم‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي،‭ ‬عبر‭ ‬تطوره‭ ‬فى‭ ‬مجاله‭ ‬الشعرى‭ ‬وإنجازه‭ ‬لمشروعه‭ ‬المتقدم،‭ ‬إضافة‭ ‬لانشغاله‭ ‬بهموم‭ ‬الناس‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتاريخية‭ ‬والسياسية،‭ ‬والتى‭ ‬كرسها‭ ‬فى‭ ‬موقفه‭ ‬الثابت‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬فى‭ ‬الوطن‭. ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الناس،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الانهيارات‭ ‬والتراجعات‭ ‬المرة،‭ ‬والهرولة‭ ‬نحو‭ ‬موائد‭ ‬الكسب‭ ‬الرخيص،‭ ‬والتحول‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬آخر‭ ‬مضاد‭!‬

‭ ‬طريق‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف،‭ ‬دربٌ‭ ‬شقَّه‭ ‬لنفسه‭ ‬وبدأه‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬عقود‭ ‬طويلة‭ ‬ومتقلبة‭ ‬وعاصفة‭. ‬رأى‭ ‬وساهم‭ ‬بكل‭ ‬هذا‭ ‬الكم‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬الإبداعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬والشخصية،‭ ‬وترك‭ ‬بصمة‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية،‭ ‬وعاش‭ ‬طيلة‭ ‬حياته‭ ‬كبيراً‭ ‬ومتجاوزاً،‭ ‬ورحل‭ ‬نقى‭ ‬السريرة‭ ‬والتجربة‭.‬

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا