أحمد الناصري
رحل شاعرنا الكبير سعدى يوسف الذى كتب أطول قصيدة بالعربية، منذ ديوانه الأول (القرصان 1952) وصولاً إلى ديوانه (خريف مكتمل) فى تجربة ثرية وزاخرة بالتجديد والاختلاف اللذين لم يتوقفا حتى آخر قصائده، إضافة إلى أعماله الأخرى: مجموعة قصص قصيرة بعنوان (نافذة على المنزل المغربي)، ورواية (مثلث الدائرة)، ورواية جرى إتلافها خوفاً من مداهمات عام 1963، حين جرى اعتقال الشاعر.
وترجمات رائدة وجديدة فى الشعر العالمى وكتب نقدية بينها (رامبو وزمن القتلة). وإزاء هذه الرحلة الطويلة والتجربة النادرة، أستعيد الظروف والوقائع التى تعرفت فيها على شعر سعدى يوسف.وهنا أسجل انطباعاتى عن تجربة الشاعر الذى رأى وتجاوز كقارئ تابعه وتعلم منه، فحين تعرفت على شعر سعدى يوسف،كان قد تكرس اسماً هاماً يقف فى الصف الأول،أسس مشروعه الشعرى ورسخ أدواته الفنية، ودأب على تجريب مستمر. وهو إذ يرحل ويمضى فى دروب فردية، دروب ما بعد الشعر والإبداع والثقافة والفكر، التى ساهم فيها بشكل حيوي، ويختتم مسيرة المواقف الوطنية الثابتة إزاء الحياة والوجود، فإنه ظل أميناً لجملته الأثيرة (أسير مع الجميع وخطوتى وحدي)، يتلمس ويكتشف غابات الشعر وغاياته وتلويناته وأشكاله المتنوعة والمتجددة، بتجاوز نادر، ، ليكتشف زهرة من جنس نادر!
قرأت سعدى يوسف فى بداية السبعينيات، وكان قد أسس مشروعه الشعرى المختلف واتضح معمار قصيدته الخاص، وكانت دواوينه الهامة قد انتشرت، خاصة ديوانه الأثير بعيداً عن السماء الأولى، ومن بعده نهايات الشمال الأفريقى ومن ثم ديوان الأخضر بن يوسف ومشاغله، والتى كتب أغلبها فى منفاه الجزائري،أى منذ أواسط الستينات، إلى جانب دواوينه الرصينة الأولى وفى مقدمتها النجم والرماد، الذى يعد التحول فى تجربته ويمثل قطيعة مع البدايات. وبعدها ديوان الليالى كلها والدواوين التى صدرت فى بغداد حتى رحلينا الإجبارى عنها أواخر عام 1978.
فى ذلك الزمان البعيد نسبياً، والذى يبتعد عنا رويداً رويداً فى مسير الحياة الطويل والمتعرج، كان سعدى يوسف يمثل عالماً شعرياً وثقافياً، ثرياً وخلاقاً، جديداً باهراً، أثر فى جيل الشباب من الشعراء والمثقفين وقراء الشعر، ليس فى العراق وحسب إنما فى الوطن العربي. وكنا نتابع وبشكل يومى جريدة طريق الشعب التى صدرت فى 16 سبتمبر عام 1973، حيث دأب سعدى يوسف على النشر المتواصل والمنتظم فيها، وقد عمل لاحقاً فى الجريدة، مسئولاً عن صفحتها الثقافية.ومن خلالها، رعى وساعد عدداً كبيراً من المثقفين والشعراء الشباب، وترك آثاره الواضحة على عموم المشهد الثقافي. فتأثر به وبأسلوبه الشعرى عدد منهم، إلى درجة التقليد والتبعية، وغياب المحاولة والتجريب الخاصين.وهذه مسألة لم يكن سعدى يوسف مسئولاً عنها بأى حال!
ولما كان سعدى يوسف الشاعر الذى يقف فى الصف الأول بين الشعراء العراقيين والعرب، كانت الفرصة متاحة للتعرف على نتاجه وشعريته وخصائصها، كما تتبعت بداياته وثقافته وصفاته ومواقفه الفكرية والإنسانية. وقد حصلت فى السبعينات على جميع دواوين الشاعر سعدى يوسف فى مدينة الناصرية، تلك المدينة المثقفة والمشاغبة والمشبعة بالشعر والتناقضات الصارخة. مدينة تقرأ كل الشعراء، من (الجاهليين) إلى رامبو وبودلير ونيرودا وادغار ألن بو!
ومثلت قصائد ودواوين سعدى يوسف لى طاقة شعرية هائلة جديدة متدفقة، وقامة شعرية عالية! وفى نهاية السبعينيات تركنا خلفنا بيوتنا وشوارعنا ومقاهينا وأحلامنا المرمدة، وحملنا خيباتنا ومراراتنا وأوجاعنا، بعد أن داهمنا طاعون الفاشية، وانتقلنا إلى الجبل، بعد تجربة سياسية بائسة وفاشلة وفجة من جميع الجوانب! وفى الجبل كان كل شيء مختلفاً: حجر لم نألفه، ووديان سحيقة لم نر أو نتبين أغوارها، وقمم تختفى وراء الغيم الهابط، ذلك الغيم الخفيض الذى لم أره من قبل، ولغة جديدة لا نعرفها، وكان سعدى يوسف حاضراً بيننا فى جلساتنا المسائية الطويلة، حيث يهبط الليل الثقيل منذ الخامسة لندخل تحت جنحى ليل سديمى لا يستطيع المرء أن يرى إصبعه من خلاله، ليل طويل، من دون كهرباء أو تلفزيون أو أى شيء ترفيهى عدا الذاكرة وقصاصات ورق متناثرة ومتباعدة تتألق على ذبالة الفوانيس، فى تلك الأيام البعيدة عنا اليوم، وفى ذلك الزمن الحجرى القاسي، كنا نقرأ قصائد (حين صافحتني) و(نحن لم نحمل على قمصاننا وجهك) و(الرايات) و(النهر) و (يا سالم المرزوق) و (كل الأغانى انتهت) و(تكوين 34) وقصيدة سيدة النهر الأثيرة وسواها من عيون أشعاره، إلى جانب ملحمة أمل دنقل لا تصالح، وهى القصيدة الوصية التى لم أزل ملتزماً بها! بعد كارثة (بشتآشان) قرأنا لسعدى يوسف إعلان سياحى لحاج عمران. وكنا نتذكر تحت جدارية فائق حسن ونبوءتها بالأيام الآتية بالدم والخذلان والفجيعة مرة أخرى جديدة!
سعدى يوسف من القامات البارزة فى الشعرية العربية الحديثة، وهو من الذين ساهموا فى اكتشاف تقنيات جديدة فى شكل القصيدة الحديثة ولغتها وشكلها وبنائها الداخلي. مضيفا إلى لغة الشعر تركيبات لغوية جديدة، مجدداً فى شكل القصيدة، فهو ذو دراية عميقة بفلسفة اللغة واللسانيات والشعر، وظفها فى بناء قصيدة حديثة، ويتميز بحس نادر بعلاقته بالمفردة وموقعها، حيث يضبط تماما مكانها ضمن البناء الدقيق لقصيدته الجديدة. ولسعدى ذائقة موسيقية عالية، تسللت بقوة وحضرت فى موسيقاه الداخلية الفسيحة، فأصبحت إحدى سمات الشعر الحديث، وهنا تستطيع أن تسمع وترى إيقاعاته المستمرة عبر تنويعات هارمونية تجمع شتى الدرجات الخفيضة أحيانا والضاجة أحيانا أخرى!ولشاعرنا أيضا علاقة قوية ومعروفة باللون والتشكيل، بدأها بعلاقته الخاصة بالحرف، مما منح حساسيته الشعرية طاقة اكتشافية هائلة، ولوناً خاصاً، وعلاقة مرنة بالمحيط، مهما كان منغلقا أو قاسياً، إنه مثقف لونى يرسم بالشعر!
وسعدى يوسف شاعر البداية الواثقة والكبيرة، عكس الكثير من الشعراء الذين علا شأنهم لاحقاً، رغم بداياتهم المتواضعة والتى لا تشى بمستقبل كبير ومبهر، ولا تنمُّ عن موهبة قوية كامنة. فقد بدأ سعدى يوسف بداية راسخة منذ دواوين، القرصان، وقصائد ليست للآخرين، و51 قصيدة، ثم أحدث قفزته الهائلة فى ديوان النجم والرماد، الذى حدد مشروعه الشعرى وأفقه الواسع الرحب، القادم مع الشعر ومن الشعر!
ورغم أنه ظهر بعد جيل الرواد مباشرة، بل كان لصيقهم تقريباً، فقد حقق جدارة الإنجاز الخاص والتجاوز، والبناء الجديد على ما بدأه الرواد. وما أنجزه سعدى يمثل إضافة إلى صميم التحديث والإبداع الشعري، ووجوده إلى جانب الأسماء الكبيرة التى سبقته لم يجعله مقلداً أو مكرراً، أو ربما محبطا، وهو ما يحصل عادة فى مجالات الأدب والفن، حين يستعصى التجاوز.
استفاد شاعرنا من ثقافته الموسوعية العربية والعالمية، كما استفاد من سفره وترحاله الدائم ومن منفاه الطويل وثقافة تعدد الأمكنة، وعرف عنه بأنه قارئ مثابر ودؤوب. فكان مشروعه لا يعرف الركود والمحدودية، إنما هو مشروع إبداعى مفتوح ومتجدد، لأنه مشروع مرتبط بالحياة وباللغة والفكر! وعلاقته بأشكال الكتابة والفنون الأخرى لافتة ومميزة، إذ جرب كتابة الرواية منذ بداية الستينات، وربما فقد نصاً روائياً بعد أحداث 1963 الدامية، وأصدر فى السنوات الأخيرة رواية مثلث الدائرة، وظل ديوان النجم والرماد (بالنسبة لى على الأقل) علامة بارزة فى عمارة سعدى يوسف الشعرية الشاهقة، وهو علامة فارقة وصلة وصل بين دواوينه السابقة ودواوينه اللاحقة، وهو أنموذج معيارى على نوع وطبيعة ما سيأتى وعلى عموم تجربته الشعرية الباهرة!
أعتقد أن سعدى يوسف حقق مفهوم المثقف العضوي، عبر تطوره فى مجاله الشعرى وإنجازه لمشروعه المتقدم، إضافة لانشغاله بهموم الناس الاجتماعية والتاريخية والسياسية، والتى كرسها فى موقفه الثابت من الأحداث فى الوطن. فقد ظل إلى جانب الناس، رغم كل الانهيارات والتراجعات المرة، والهرولة نحو موائد الكسب الرخيص، والتحول من موقع إلى موقع آخر مضاد!
طريق سعدى يوسف، دربٌ شقَّه لنفسه وبدأه قبل أكثر من ستة عقود طويلة ومتقلبة وعاصفة. رأى وساهم بكل هذا الكم الهائل من الأحداث الإبداعية والثقافية والسياسية والشخصية، وترك بصمة خاصة فى الثقافة العراقية والعربية، وعاش طيلة حياته كبيراً ومتجاوزاً، ورحل نقى السريرة والتجربة.