البستان

في رثاء الشاعر الأخير .. البدايات أولاً

سعدى‭ ‬
سعدى‭ ‬

د‭. ‬سلمان‭ ‬كاصد

لغابات‭ ‬النخيل‭ ‬سحرها،‭ ‬ولسحر‭ ‬الليل‭ ‬شعريته،‭ ‬وللأنهار‭ ‬أسرارها‭. ‬تلك‭ ‬رموز‭ ‬ثلاثة‭ ‬شكلت‭ ‬الوعى‭ ‬القولى‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬شاعرين‭ ‬بصريين،‭ ‬أولهما‭ ‬ابتدأ‭ ‬الشعر‭ ‬به،‭ ‬وثانيهما‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬اختتم‭ ‬جيله‭ ‬الشعرى‭ ‬‭(‬فى‭ ‬العراق‭ ‬خاصة‭). ‬

‭ ‬صنع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬يوتوبيا‭ (‬بويب‭) ‬ومن‭ ‬الغابة‭ ‬عينين‭ ‬حالمتين‭ (‬أنشودة‭ ‬المطر‭) ‬فقلب‭ ‬الصورة،‭ ‬وفتح‭ ‬شباك‭ ‬حبيبته‭ (‬وفيقة‭) ‬على‭ ‬الليل‭ ‬فى‭ (‬جيكور‭)‬،‭ ‬وأغلق‭ ‬الثانى‭ ‬شبابيك‭ ‬طفولته‭ ‬كى‭ ‬يغادرإلى‭ ‬عالم‭ ‬أرحب‭ ‬من‭ ‬حدود‭ ‬قريةٍ‭ ‬ضاق‭ ‬المدى‭ ‬بها‭ ‬فأنشد‭ ‬ل‭ (‬سالم‭ ‬المرزوق‭) ‬كى‭ ‬يأخذه‭ ‬بالسفينة‭ ‬مرتحلاً‭ (‬تلك‭ ‬هى‭ ‬معضلة‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬التى‭ ‬نتناولها‭ ‬الآن‭). ‬

‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬خضير‭ ‬فى‭ ‬استهلال‭ ‬قصته‭ (‬الأرجوحة‭) (‬على‭ ‬جادة‭ ‬السكون‭ ‬المظللة‭ ‬بمراوح‭ ‬السعف،‭ ‬كان‭ ‬فتى‭ ‬حليق‭ ‬الرأس،‭ ‬يتحرك‭ ‬فوق‭ ‬دراجته‭ ‬الخفيفة‭ ‬كالنائم،‭ ‬بين‭ ‬جدول‭ ‬واطئ‭ ‬مزبد‭ ‬بخيوط‭ ‬تشبه‭ ‬رغوة‭ ‬الصابون‭ ‬إلى‭ ‬اليسار،‭ ‬وجدار‭ ‬واطئ‭ ‬من‭ ‬الطين‭ ‬المتهدم‭ ‬إلى‭ ‬اليمين‭). ‬

‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬وصف‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬أبى‭ ‬الخصيب،‭ ‬القرية‭ ‬التى‭ ‬ولد‭ ‬فيها‭ ‬شاعران‭ ‬أثرا‭ ‬فى‭ ‬الشعر‭ ‬العربى‭ ‬الحديث،‭ ‬فخلقا‭ ‬منه‭ ‬نسقاً‭ ‬مغايراً‭ ‬ظل‭ ‬الثابت‭ ‬فيه‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬قرنا‭ ‬مهيمناً‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬الثقافة‭ ‬التقليدية‭ ‬الكلاسيكية‭ (‬قصيدة‭ ‬العمود‭) ‬التى‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬زحزحتها‭. ‬

‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬القرى‭ ‬ولد‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬وسعدى‭ ‬يوسف،‭ ‬وهما‭ ‬اللذان‭ ‬أكملا‭ ‬روح‭ ‬التجديد‭ ‬فى‭ ‬الشعرالعربى‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬بحر‭ ‬الجاحظ‭ ‬قد‭ ‬ابتدع‭ ‬روح‭ ‬التجديد‭ ‬فى‭ ‬النثر‭ ‬العربى‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬والذى‭ ‬عاش‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬ذاتها،‭ ‬وفى‭ ‬عروش‭ ‬قريتهما‭ ‬بعينها‭. ‬

‭ ‬لقد‭ ‬رسم‭ ‬بدر‭ ‬السياب‭ ‬غابة‭ ‬الشعر‭ ‬بينما‭ ‬وضع‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء‭ ‬فيها‭ (‬سالم‭ ‬المرزوق‭) ‬و‭(‬حسون‭) ‬و‭(‬مصطفى‭) ‬و‭(‬سلمان‭ ‬عبدالله‭ ‬قمر‭ ‬الدواسر‭) ‬فاقتنص‭ ‬شخوصه‭ ‬من‭ ‬حدود‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة‭ ‬والممتدة‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬أبى‭ ‬الخصيب‭ ‬وهى‭ (‬حمدان‭ ‬قريته‭ ‬،‭ ‬باب‭ ‬طويل،‭ ‬الدواسر،‭ ‬باب‭ ‬سليمان‭) ‬وبذلك‭ ‬استطاع‭ ‬فى‭ ‬بدايته‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬بالناس‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬عوالمهم‭ ‬المحصورة‭ ‬بأحلام‭ ‬أبناء‭ ‬القرى‭ ‬البسيطة‭ ‬باتجاه‭ ‬حقوقهم‭ ‬التى‭ ‬جهروا‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬لسانه‭. ‬

‭ ‬ذهب‭ ‬سعدى‭ ‬مع‭ ‬سفينة‭ ‬سالم‭ ‬المرزوق‭ ‬بعيدا‭ :‬

‭(‬يا‭ ‬سالم‭ ‬المرزوق‭ ‬خذنى‭ ‬فى‭ ‬السفينة‭. . ‬فى‭ ‬السفينة

خذ‭ ‬مقلتى‭ ‬ثمناً

سأفعل‭ ‬ما‭ ‬تشاء

إلا‭ ‬حكايات‭ ‬النساء‭)‬

‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬حين‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬مأزق‭ ‬جدلى‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مع‭ ‬الرومانسية‭ ‬المفرطة‭ ‬التى‭ ‬ذهب‭ ‬إليها‭ ‬السياب‭ ‬فى‭ ‬شعره‭. ‬

‭ ‬لقد‭ ‬اكتشف‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬ومنذ‭ ‬البدايات‭ ‬ذلك‭ ‬التناقض‭ ‬الواقعى‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬بين‭ ‬الفقر‭ ‬والظلم،‭ ‬فتغنى‭ ‬بأمجاد‭ ‬بسيطة‭ ‬لشخوص‭ ‬بسطاء‭ ‬سحرته‭ ‬سيرهم‭. ‬

‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ (‬حسون‭) ‬نرى‭ ‬هذا‭ ‬التداخل‭ ‬والالتباس‭ ‬الحياتى‭ ‬والجدلى‭ ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬الإشكالية‭ ‬بكل‭ ‬طرافتها‭ ‬داخل‭ ‬قصيدته‭ :‬

‭ (‬حسون‭ ‬

الذى‭ ‬يعمل‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة

حسنا‭!‬

‭ ‬إنه‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ (‬باب‭ ‬الطويل‭)‬

‭ ‬من‭ ‬لصوص‭ ‬التمر‭ ‬حتى‭ ‬المخفر‭ ‬الرابض‭ ‬فى‭ ‬صمت‭ ‬النخيل

‭ ‬إنه‭ ‬يعمل‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة

‭ ‬ويبيع‭ ‬الطيب‭ ‬والخمر‭ ‬وأشياء‭ ‬كثيرة

‭. . . ‬قال‭ ‬لى‭ ‬يوماً‭ ‬وملء‭ ‬الليل‭ ‬أزهار‭ ‬صغيرة

‭ ‬وعلى‭ ‬كيس‭ ‬من‭ ‬الليمون‭ ‬قد‭ ‬نامت‭ ‬يداه‭ :‬

‭ ‬آه‭ ‬لو‭ ‬يحترق‭ ‬المخفر‭. . ‬آهْ‭ !)‬

‭  ‬عاش‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬بين‭ (‬الوعى‭ ‬القائم‭) ‬وكان‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ (‬الوعى‭ ‬الممكن‭)‬،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يستوعب‭ ‬وعى‭ ‬طبقته‭ ‬كى‭ ‬يصبح‭ ‬ممثلاً‭ ‬لها،‭ ‬فأخذ‭ ‬يقدم‭ ‬رؤاها‭ ‬فى‭ ‬قصيدته‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬اصطدم‭ ‬باللا‭ ‬ممكن‭.‬

لقد‭ ‬ابتدأ‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬بأولئك‭ ‬الذين‭ ‬عاش‭ ‬حلمه‭ ‬معهم،‭ ‬ولم‭ ‬يتحقق‭ ‬الحلم‭ ‬هذا‭ ‬فخرج‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬الدنيا،‭ ‬شاتماً،‭ ‬وباكياً‭ ‬وضاحكاً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬التى‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ (‬سالم‭ ‬المرزوق‭) ‬و‭ (‬حسون‭) ‬و‭ (‬فتى‭ ‬الدواسر‭). ‬

كان‭ ‬يعرف‭ ‬جيداً‭ ‬أن‭ ‬حلم‭ ‬المدينة‭ ‬الفاضلة‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬يتحقق،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬انتبه‭ ‬فجأة‭. . ‬انتبه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحلم‭ ‬أقرب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬مداده،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يلازمه،‭ ‬ويلتصق‭ ‬به‭ ‬ونعنى‭ ‬بذلك‭ ‬التجديد‭ ‬فى‭ ‬القصيدة‭. . . ‬

‭ ‬هنا‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬اكتشف‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬روح‭ ‬التغيير‭ ‬الذى‭ ‬يتجسد‭ ‬فى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ (‬مدينة‭ ‬الشعر‭ ‬الفاضلة‭) ‬ولا‭ ‬يتأتى‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بالتجديد‭ ‬المبهر‭ ‬وكسر‭ ‬القواعد،‭ ‬ومزج‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شعبى‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬نمطى‭ (‬سيابي‭)‬،‭ ‬وإدخال‭ ‬روح‭ ‬الناس‭ (‬قولهم‭ ‬الشعبي‭) ‬فى‭ ‬القصيدة‭. ‬

‭ ‬لقد‭ ‬بنى‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬عمارة‭ ‬قولية‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتجددة،‭ ‬تخالك‭ ‬وأنت‭ ‬تتفحصها‭ ‬متعددة‭ ‬الوجوه،‭ ‬نقية،‭ ‬وبذلك‭ ‬قدم‭ ‬تحولات‭ ‬شعرية‭ ‬فى‭ ‬خارطة‭ ‬القصيدة‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية،‭ ‬ولا‭ ‬أغالى‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬إنه‭ ‬آخر‭ ‬السلالة‭ ‬الشعرية‭ ‬التى‭ ‬نحت‭ ‬منحى‭ ‬المتغيرات‭ ‬الأولى،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬حداثة‭ ‬القول‭ ‬الشعرى‭ ‬الجديدة‭. ‬

‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬البصرة‭.. ‬جنوب‭ ‬جنوب‭ ‬العراق،‭ ‬حتى‭ ‬الشمال‭ ‬الأفريقى‭ ‬وحتى‭ ‬أيضاً‭ ‬الرياح‭ ‬الباريسية‭ ‬العنيفة،‭ ‬وأخيراً‭ ‬الوحدة‭ ‬اللندنية‭ ‬القاسية،‭ ‬كانت‭ ‬رحلة‭ ‬هذا‭ ‬الفتى‭ ‬الذى‭ ‬قرأ‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬عذابات‭ ‬الناس‭ ‬وأمراضها‭ ‬فى‭ ‬قريته‭ ‬البعيدة‭ ‬ز‭ ‬أبى‭ ‬الخصيب‭ ‬ز‭.. ‬

عندما‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬فتنته‭ ‬الأولى،‭ ‬أرجوحته‭ ‬الشعرية‭ ‬التى‭ ‬مسح‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬شعريته‭ ‬القديمة،‭ ‬وكتب‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أيضاً‭ ‬الجديد‭ ‬فى‭ ‬تحولاته‭ ‬فى‭ ‬ز‭ ‬نهايات‭ ‬الشمال‭ ‬الأفريقى‭ ‬ز‭ ‬والأخضر‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬ومشاغلهس‭ ‬وس‭ ‬تحت‭ ‬جدارية‭ ‬فائق‭ ‬حسن‭ ‬ز‭ ‬والليالى‭ ‬كلها‭ ‬ز‭. ‬

قلت‭ : ‬إن‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬فقد‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الذى‭ ‬أثثه‭ ‬فى‭ ‬القرصان‭ (‬١٩٥٢‭) ‬و‭ (‬اغنيات‭ ‬ليست‭ ‬للآخرين‭ (‬١٩٥٥‭) ‬و‭ (‬٥١‭ ‬قصيدة‭ ‬١٩٥٩‭) ‬و‭(‬النجم‭ ‬والرماد‭ ‬١٩٦٠‭). ‬

من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الفقدان‭ ‬الذى‭ ‬ارتبط‭ ‬عضوياً‭ ‬بالحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬العراقية‭ (‬الشيوعيين‭ ‬بخاصة‭) ‬وجد‭ ‬سعدى‭ ‬نفسه‭ ‬مرتحلاً‭ ‬بلا‭ ‬سفينة‭ (‬سالم‭ ‬المرزوق‭) ‬فكان‭ ‬وحده‭ ‬ذاهباً‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬عديدة‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬المسرة‭ ‬فيها،‭ ‬كان‭ ‬مكابراً‭ ‬حين‭ ‬تغنى‭ ‬بالشمال‭ ‬الأفريقى‭ ‬التى‭ ‬رجع‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬حضن‭ ‬بغداد‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تفارقه‭ ‬لحظة‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يمس‭ ‬ز‭ ‬القرية‭ ‬حمدان‭ ‬ز‭ ‬مساً‭ ‬طفيفاً‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬وكأنه‭ ‬انتبه‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬جديدة‭ ‬ز‭ ‬لامرئية‭ ‬ز‭ ‬تقبع‭ ‬فى‭ ‬بنية‭ ‬القصيدة‭ ‬العميقة‭ ‬وهى‭ ‬ز‭ ‬التجديد‭ ‬ز‭. ‬

صار‭ ‬سعدى‭ ‬يؤثت‭ ‬مدينته‭ / ‬قصيدته‭ ‬بماهو‭ ‬مغاير،‭ ‬يرسم‭ ‬ملامحها‭ ‬الغريبة‭ ‬ويتوسم‭ ‬فيها‭ ‬الجمال‭ ‬الأخاذ‭ ‬فتعددت‭ ‬مغامراته‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الشكل‭ ‬والموضوع،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬ينقر‭ ‬على‭ ‬طبول‭ ‬القوافى‭ ‬المنقرضة‭ ‬ليبعث‭ ‬فيها‭ ‬نمطاً‭ ‬جديداً‭ ‬ونسقاً‭ ‬مغايراً‭ ‬نشعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬اللعب‭ ‬الفنى‭ ‬أن‭ ‬سعدى‭ ‬بدأ‭ ‬ينسج‭ ‬غطاءً‭ ‬لمدينته‭ ‬الشعرية‭ ‬التى‭ ‬لاتشابه‭ ‬المدن‭ ‬الأخرى‭. ‬

قلت‭ : ‬لقد‭ ‬أسس‭ ‬السياب‭ ‬قرى‭ ‬الجنوب‭ ‬ورسم‭ ‬عوالمها‭ ‬وجزئياتها‭ ‬وتغنى‭ ‬بها‭ ‬ونسى‭ ‬برومانسيته‭ ‬أن‭ ‬يتناول‭ ‬حيواتها،‭ ‬شخوصها،‭ ‬عذاباتهم،‭ ‬صراعاتهم،‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬سعدى‭ ‬فأدخل‭ ‬شخوصاً‭ ‬خصيبيين‭ ‬بوصفهم‭ ‬نماذج‭ ‬بشرية‭ ‬إشكالية‭ ‬مناضلة‭ ‬شكلت‭ ‬جزءاً‭ ‬مهماً‭ ‬من‭ ‬مشاهداته‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬القرية‭. ‬

كان‭ ‬ا‭ ‬سلمان‭ ‬عبد‭ ‬اللهب‭ ‬الشخصية‭ ‬النموذجية‭ ‬الأقرب‭ ‬لأفكار‭ ‬سعدى‭/ ‬البدايات‭ ‬والتى‭ ‬عشقها‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ ‬شعره‭ ‬يوم‭ ‬كتب‭ ‬ز‭ ‬ياقمر‭ ‬الدواسر‭ ‬ز‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ : ‬

‭(‬سلمان‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ياقمر‭ ‬الدواسر‭. . ‬يتبعونك‭ ‬

ببنادق‭ ‬متأرجحات

أبداً‭ ‬وراءك‭ ‬يركضون

فعيونهم‭ ‬تخشى‭ ‬عيونك

لكنهم‭ ‬قد‭ ‬يقتلونك

لن‭ ‬يذكروا‭ ‬ياطفل‭ ‬عبد‭ ‬الله،‭ ‬أغنية‭ ‬سخية

كنا‭ ‬نغنيها‭ ‬معاً‭ ‬ز‭ ‬للناصرية

تعطش‭ ‬وشربك‭ ‬ماي‭. . ‬للناصريةس‭ ‬١٩٥٥

هذا‭ ‬هو‭ ‬سعدى‭ ‬فى‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضى‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬بداياته‭ ‬واضحة‭ ‬الانتماء،‭ ‬بسيطة‭ ‬الرؤيا،‭ ‬عميقة‭ ‬الإحساس،‭ ‬سردية‭ ‬التشكل‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ز‭ ‬شعبياً‭ ‬بالمفهوم‭ ‬التوظيفى‭ ‬لشعبية‭ ‬السرد‭ ‬فى‭ ‬القصيدة،‭ ‬وخير‭ ‬مثال‭ ‬هذا‭ ‬النغم‭ ‬الحزين‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ ‬ز‭ ‬مصطفى‭ ‬ز‭ : ‬

‭(‬يا‭ ‬حلو‭ ‬يا‭ ‬مصطفى

يازينة‭ ‬البصرة

نوم‭ ‬الهنا،‭ ‬مصطفى‭. . . ‬

ما‭ ‬أضيق‭ ‬الحفرة

وكأن‭ ‬سعدى‭ ‬كان‭ ‬ينشد‭ ‬الأغنيات‭ ‬فى‭ ‬القصيدة،‭ ‬وبذلك‭ ‬نقول‭: ‬إنه‭ ‬تعلم‭ ‬من‭ ‬السياب‭ ‬كيف‭ ‬يستخدم‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبى‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬السياب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ :‬

‭(‬مطر‭. . ‬مطر‭. . ‬حلبى

عبر‭ ‬بنات‭ ‬الجلبي

مطر‭. . ‬مطر‭. . ‬شاشا

عبر‭ ‬بنات‭ ‬الباشا‭)‬

حيث‭ ‬الترداد‭ ‬الشعبى‭ ‬الذى‭ ‬انتبه‭ ‬له‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬مقتفياً‭ ‬إثر‭ ‬شاعره‭ ‬الرائد‭ ‬السياب‭. ‬

كان‭ ‬سعدى‭ ‬يعرف‭ ‬تماماً‭ ‬أن‭ ‬مرحلة‭ ‬زأبى‭ ‬الخصيبس‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬وشعره،‭ ‬وكان‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬سيدخل‭ ‬معتركاً‭ ‬معقداً،‭ ‬ملتبساً‭ ‬فى‭ ‬صراع‭ ‬الايديولوجيا‭ ‬والشعر،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يطلع‭ ‬على‭ ‬رؤيا‭ ‬ماركس‭ ‬الذى‭ ‬لخصه‭ ‬تيرى‭ ‬ايغلتن‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ماركس‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬نقيضاً‭ ‬بين‭ ‬الايديولوجيا‭ ‬والشعر‭ ‬والفن‭ ‬بشكل‭ ‬أعم‭. ‬

يقول‭ ‬سعدى‭ ‬فى‭ ‬بدء‭ ‬مرحلة‭ ‬مابعد‭ ‬البدايات‭ :‬

‭(‬بعدنا‭ ‬عن‭ ‬النخل

ها‭ ‬هى‭ ‬شمس‭ ‬القرى‭ ‬تمنح‭ ‬النخل‭ ‬غاباً‭ ‬من‭ ‬الريش‭ ‬أحمر

هاهى‭ ‬أكواخنا

غير‭ ‬أن‭ ‬المنازل‭ ‬مثل‭ ‬الطباشير‭ ‬تمحى

من‭ ‬الأرض‭ ‬تمحى

من‭ ‬الماء‭ ‬تمحى

وها‭ ‬نحن‭ ‬بين‭ ‬المدى‭ ‬والسماء‭ ‬وحيدين‭)‬

لقد‭ ‬بعدت‭ ‬حمدان‭ ‬ز‭ ‬واقعا‭ ‬ورؤيا‭ ‬فى‭ ‬شعر‭ ‬سعدي،‭ ‬وجاءت‭ ‬مدن‭ ‬كبيرة‭ ‬لترسم‭ ‬ملامحها‭ ‬فى‭ ‬شعره‭ ‬اللا‭ ‬مؤدلج،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬حمدان‭ ‬موصوفة‭ ‬لديه‭ ‬بأعذب‭ ‬ماقال‭ :‬

‭(‬نحن‭ ‬لانسمع‭ ‬فى‭ ‬حمدان‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬نقول

ليلنا‭ ‬والنخل‭ ‬والحلفاء‭ ‬والنهر‭ ‬القديم‭ ‬

حيث‭ ‬أوراق‭ ‬من‭ ‬الليمون‭ ‬فى‭ ‬الماء‭ ‬تعوم‭)‬

ويقول‭ ‬فى‭ ‬أجمل‭ ‬وصف‭ ‬لليل‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ ‬القرى‭:‬

‭(‬إننا‭ ‬فى‭ ‬ليل‭ ‬حمدان‭ ‬نقول‭:‬

نم،‭ ‬إذا‭ ‬نام‭ ‬النخيل

عندما‭ ‬تشرق‭ ‬فى‭ ‬قرية‭ ‬حمدان‭ ‬النجوم

تطفأ‭ ‬الأكواخ‭ ‬والمسجد‭ ‬والبيت‭ ‬القديم‭ ‬

إنه‭ ‬النوم‭ ‬الطويل

تحت‭ ‬همس‭ ‬السعف‭ ‬الشاحب‭ : ‬للموت‭ ‬الطويل‭)‬

ذلك‭ ‬هو‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬الذى‭ ‬تخلص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عذاباته‭ ‬التى‭ ‬تشده‭ ‬إلى‭ ‬ز‭ ‬أبى‭ ‬الخصيبس‭ ‬وإلى‭ ‬شخوصه‭ ‬لأنه‭ ‬خرج‭ ‬بقناعة‭ ‬أن‭ ‬ز‭ ‬الوعى‭ ‬الممكن‭ ‬ز‭ ‬لايتحقق‭ ‬أبداً،‭ ‬ولن‭ ‬يصبح‭ ‬ضمير‭ ‬طبقته،‭ ‬كما‭ ‬صنف‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الكبار‭ ‬فى‭ ‬العالم،‭ ‬فكان‭ ‬نكوصه‭ ‬فى‭ ‬مرحلته‭ ‬اللاحقة‭ ‬قطيعة‭ ‬معرفية‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬جنوبه‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬عشقه‭ ‬الطبقى‭ ‬وكما‭ ‬حصل‭ ‬لحمدان‭ ‬حصل‭ ‬للبصرة‭ ‬من‭ ‬قطيعة‭ ‬فرضت‭ ‬عليهأ‭ ‬وفرضها‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬ولنتأمل‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التى‭ ‬أهداها‭ ‬لعبد‭ ‬الوهاب‭ ‬البياتى‭:‬

‭(‬والبصرة‭ ‬الخضراء‭ ‬ياعبد‭ ‬الوهاب

لو‭ ‬زرتها‭ ‬يوماً‭ ‬لغنيت‭ ‬المدينة‭ ‬

والبحر‭ ‬والعمال‭ ‬والنار‭ ‬الدفينة

لرأيت‭ ‬أعماق‭ ‬الجنوب‭. .)‬

تلك‭ ‬هى‭ ‬عوالم‭ ‬البدايات‭ ‬فى‭ ‬شعر‭ ‬سعدى‭ ‬يوسف‭ ‬والتى‭ ‬لم‭ ‬تتكرر‭ ‬ثانية‭. ‬