د. سلمان كاصد
لغابات النخيل سحرها، ولسحر الليل شعريته، وللأنهار أسرارها. تلك رموز ثلاثة شكلت الوعى القولى فى حياة شاعرين بصريين، أولهما ابتدأ الشعر به، وثانيهما آخر من اختتم جيله الشعرى (فى العراق خاصة).
صنع الأول من النهر يوتوبيا (بويب) ومن الغابة عينين حالمتين (أنشودة المطر) فقلب الصورة، وفتح شباك حبيبته (وفيقة) على الليل فى (جيكور)، وأغلق الثانى شبابيك طفولته كى يغادرإلى عالم أرحب من حدود قريةٍ ضاق المدى بها فأنشد ل (سالم المرزوق) كى يأخذه بالسفينة مرتحلاً (تلك هى معضلة سعدى يوسف التى نتناولها الآن).
يقول محمد خضير فى استهلال قصته (الأرجوحة) (على جادة السكون المظللة بمراوح السعف، كان فتى حليق الرأس، يتحرك فوق دراجته الخفيفة كالنائم، بين جدول واطئ مزبد بخيوط تشبه رغوة الصابون إلى اليسار، وجدار واطئ من الطين المتهدم إلى اليمين).
ذلك هو وصف الرحلة إلى أبى الخصيب، القرية التى ولد فيها شاعران أثرا فى الشعر العربى الحديث، فخلقا منه نسقاً مغايراً ظل الثابت فيه لأكثر من عشرين قرنا مهيمناً على روح الثقافة التقليدية الكلاسيكية (قصيدة العمود) التى من الصعب زحزحتها.
فى هذه القرى ولد بدر شاكر السياب وسعدى يوسف، وهما اللذان أكملا روح التجديد فى الشعرالعربى مثلما كان أبو بحر الجاحظ قد ابتدع روح التجديد فى النثر العربى من قبل، والذى عاش على الأرض ذاتها، وفى عروش قريتهما بعينها.
لقد رسم بدر السياب غابة الشعر بينما وضع سعدى يوسف الناس البسطاء فيها (سالم المرزوق) و(حسون) و(مصطفى) و(سلمان عبدالله قمر الدواسر) فاقتنص شخوصه من حدود القرى المجاورة والممتدة من قلب أبى الخصيب وهى (حمدان قريته ، باب طويل، الدواسر، باب سليمان) وبذلك استطاع فى بدايته أن يذهب بالناس بعيداً عن عوالمهم المحصورة بأحلام أبناء القرى البسيطة باتجاه حقوقهم التى جهروا بها على لسانه.
ذهب سعدى مع سفينة سالم المرزوق بعيدا :
(يا سالم المرزوق خذنى فى السفينة. . فى السفينة
خذ مقلتى ثمناً
سأفعل ما تشاء
إلا حكايات النساء)
وكل ذلك حين وجد نفسه فى مأزق جدلى بين أن يكون مع الناس أو أن يكون مع الرومانسية المفرطة التى ذهب إليها السياب فى شعره.
لقد اكتشف سعدى يوسف ومنذ البدايات ذلك التناقض الواقعى فى حياة الناس بين الفقر والظلم، فتغنى بأمجاد بسيطة لشخوص بسطاء سحرته سيرهم.
فى قصيدة (حسون) نرى هذا التداخل والالتباس الحياتى والجدلى وهو يصف هذه الشخصية الإشكالية بكل طرافتها داخل قصيدته :
(حسون
الذى يعمل أشياء كثيرة
حسنا!
إنه يعرف كل الناس فى (باب الطويل)
من لصوص التمر حتى المخفر الرابض فى صمت النخيل
إنه يعمل أشياء كثيرة
ويبيع الطيب والخمر وأشياء كثيرة
. . . قال لى يوماً وملء الليل أزهار صغيرة
وعلى كيس من الليمون قد نامت يداه :
آه لو يحترق المخفر. . آهْ !)
عاش سعدى يوسف بين (الوعى القائم) وكان يطمح إلى (الوعى الممكن)، أراد أن يستوعب وعى طبقته كى يصبح ممثلاً لها، فأخذ يقدم رؤاها فى قصيدته غير أنه اصطدم باللا ممكن.
لقد ابتدأ سعدى يوسف بأولئك الذين عاش حلمه معهم، ولم يتحقق الحلم هذا فخرج إلى بلدان الدنيا، شاتماً، وباكياً وضاحكاً من تلك الأيام التى كتب فيها (سالم المرزوق) و (حسون) و (فتى الدواسر).
كان يعرف جيداً أن حلم المدينة الفاضلة لم ولن يتحقق، غير أنه انتبه فجأة. . انتبه إلى أن الحلم أقرب إليه من مداده، بل كان يلازمه، ويلتصق به ونعنى بذلك التجديد فى القصيدة. . .
هنا فى هذه اللحظة اكتشف سعدى يوسف روح التغيير الذى يتجسد فى البحث عن (مدينة الشعر الفاضلة) ولا يتأتى ذلك إلا بالتجديد المبهر وكسر القواعد، ومزج ما هو شعبى بما هو نمطى (سيابي)، وإدخال روح الناس (قولهم الشعبي) فى القصيدة.
لقد بنى سعدى يوسف عمارة قولية مختلفة ومتجددة، تخالك وأنت تتفحصها متعددة الوجوه، نقية، وبذلك قدم تحولات شعرية فى خارطة القصيدة العراقية والعربية، ولا أغالى إذا قلت إنه آخر السلالة الشعرية التى نحت منحى المتغيرات الأولى، بعيداً عن حداثة القول الشعرى الجديدة.
من جنوب البصرة.. جنوب جنوب العراق، حتى الشمال الأفريقى وحتى أيضاً الرياح الباريسية العنيفة، وأخيراً الوحدة اللندنية القاسية، كانت رحلة هذا الفتى الذى قرأ يوماً ما عذابات الناس وأمراضها فى قريته البعيدة ز أبى الخصيب ز..
عندما نتحدث عن سعدى يوسف لابد أن نعود إلى فتنته الأولى، أرجوحته الشعرية التى مسح من خلالها شعريته القديمة، وكتب من خلالها أيضاً الجديد فى تحولاته فى ز نهايات الشمال الأفريقى ز والأخضر بن يوسف ومشاغلهس وس تحت جدارية فائق حسن ز والليالى كلها ز.
قلت : إن سعدى يوسف فقد ذلك العالم الذى أثثه فى القرصان (١٩٥٢) و (اغنيات ليست للآخرين (١٩٥٥) و (٥١ قصيدة ١٩٥٩) و(النجم والرماد ١٩٦٠).
من خلال هذا الفقدان الذى ارتبط عضوياً بالحركة الوطنية العراقية (الشيوعيين بخاصة) وجد سعدى نفسه مرتحلاً بلا سفينة (سالم المرزوق) فكان وحده ذاهباً إلى مدن عديدة لم يجد المسرة فيها، كان مكابراً حين تغنى بالشمال الأفريقى التى رجع فيها إلى حضن بغداد التى لم تفارقه لحظة غير أنه كان يمس ز القرية حمدان ز مساً طفيفاً فى هذه المرحلة وكأنه انتبه إلى أنه صار يبحث عن مدينة جديدة ز لامرئية ز تقبع فى بنية القصيدة العميقة وهى ز التجديد ز.
صار سعدى يؤثت مدينته / قصيدته بماهو مغاير، يرسم ملامحها الغريبة ويتوسم فيها الجمال الأخاذ فتعددت مغامراته على مستوى الشكل والموضوع، حيث بدأ ينقر على طبول القوافى المنقرضة ليبعث فيها نمطاً جديداً ونسقاً مغايراً نشعر من خلال هذا اللعب الفنى أن سعدى بدأ ينسج غطاءً لمدينته الشعرية التى لاتشابه المدن الأخرى.
قلت : لقد أسس السياب قرى الجنوب ورسم عوالمها وجزئياتها وتغنى بها ونسى برومانسيته أن يتناول حيواتها، شخوصها، عذاباتهم، صراعاتهم، حتى جاء سعدى فأدخل شخوصاً خصيبيين بوصفهم نماذج بشرية إشكالية مناضلة شكلت جزءاً مهماً من مشاهداته فى عالم القرية.
كان ا سلمان عبد اللهب الشخصية النموذجية الأقرب لأفكار سعدى/ البدايات والتى عشقها الناس فى شعره يوم كتب ز ياقمر الدواسر ز حيث يقول فيها :
(سلمان عبد الله ياقمر الدواسر. . يتبعونك
ببنادق متأرجحات
أبداً وراءك يركضون
فعيونهم تخشى عيونك
لكنهم قد يقتلونك
لن يذكروا ياطفل عبد الله، أغنية سخية
كنا نغنيها معاً ز للناصرية
تعطش وشربك ماي. . للناصريةس ١٩٥٥
هذا هو سعدى فى خمسينيات القرن الماضى التى كانت بداياته واضحة الانتماء، بسيطة الرؤيا، عميقة الإحساس، سردية التشكل حتى أنه كان ز شعبياً بالمفهوم التوظيفى لشعبية السرد فى القصيدة، وخير مثال هذا النغم الحزين فى قصيدة ز مصطفى ز :
(يا حلو يا مصطفى
يازينة البصرة
نوم الهنا، مصطفى. . .
ما أضيق الحفرة
وكأن سعدى كان ينشد الأغنيات فى القصيدة، وبذلك نقول: إنه تعلم من السياب كيف يستخدم الموروث الشعبى مثلما فعل السياب من قبل :
(مطر. . مطر. . حلبى
عبر بنات الجلبي
مطر. . مطر. . شاشا
عبر بنات الباشا)
حيث الترداد الشعبى الذى انتبه له سعدى يوسف مقتفياً إثر شاعره الرائد السياب.
كان سعدى يعرف تماماً أن مرحلة زأبى الخصيبس قد انتهت من حياته وشعره، وكان يعرف أنه سيدخل معتركاً معقداً، ملتبساً فى صراع الايديولوجيا والشعر، بالرغم من أنه لم يطلع على رؤيا ماركس الذى لخصه تيرى ايغلتن فيما بعد من أن ماركس يرى أن هناك نقيضاً بين الايديولوجيا والشعر والفن بشكل أعم.
يقول سعدى فى بدء مرحلة مابعد البدايات :
(بعدنا عن النخل
ها هى شمس القرى تمنح النخل غاباً من الريش أحمر
هاهى أكواخنا
غير أن المنازل مثل الطباشير تمحى
من الأرض تمحى
من الماء تمحى
وها نحن بين المدى والسماء وحيدين)
لقد بعدت حمدان ز واقعا ورؤيا فى شعر سعدي، وجاءت مدن كبيرة لترسم ملامحها فى شعره اللا مؤدلج، بينما كانت حمدان موصوفة لديه بأعذب ماقال :
(نحن لانسمع فى حمدان إلا ما نقول
ليلنا والنخل والحلفاء والنهر القديم
حيث أوراق من الليمون فى الماء تعوم)
ويقول فى أجمل وصف لليل الناس فى القرى:
(إننا فى ليل حمدان نقول:
نم، إذا نام النخيل
عندما تشرق فى قرية حمدان النجوم
تطفأ الأكواخ والمسجد والبيت القديم
إنه النوم الطويل
تحت همس السعف الشاحب : للموت الطويل)
ذلك هو سعدى يوسف الذى تخلص من كل عذاباته التى تشده إلى ز أبى الخصيبس وإلى شخوصه لأنه خرج بقناعة أن ز الوعى الممكن ز لايتحقق أبداً، ولن يصبح ضمير طبقته، كما صنف غيره من الشعراء الكبار فى العالم، فكان نكوصه فى مرحلته اللاحقة قطيعة معرفية بينه وبين جنوبه الذى كان عشقه الطبقى وكما حصل لحمدان حصل للبصرة من قطيعة فرضت عليهأ وفرضها على نفسه ولنتأمل هذه القصيدة التى أهداها لعبد الوهاب البياتى:
(والبصرة الخضراء ياعبد الوهاب
لو زرتها يوماً لغنيت المدينة
والبحر والعمال والنار الدفينة
لرأيت أعماق الجنوب. .)
تلك هى عوالم البدايات فى شعر سعدى يوسف والتى لم تتكرر ثانية.