ياسين النصير
لم تمر مرحلة دون أن يكون سعدى يوسف الشاعر والإنسان حاضرا فيها، بالنسبة لى اجد ذلك من ضرورات وجودي، تعرفت عليه ونحن فى مراكز شرطة البعث فى البصرة، يحققون معنا على انتماءاتنا السياسية، كان يرتدى ربطة عنق حمراء، لما ذكرته بها ونحن فى باريس عام 1995، ضحك وقال الشيوعية ترافقنا دون أن ندعى ذلك، كانت معرفة عامة مع أى معتقل، هذا كان فى سنوات التفاهة القومية عام 1963، إلا أن هذه المعرفة البسيطة والعابرة، مدتها سويعات حيث اخذ سعدى لجهة لا اعرفها كما قادونى انا لجهة لا اعرفها، وكانت المعرفة الثانية يوم اشتغلنا سوية فى جريدة الحزب الشيوعى العراقى "طريق الشعب" معرفة عميقة ويومية سبقتها لقاءات عابرة فى دوائر العمل وفى منتديات، كان يومها عائدا من الجزائر ووظف فى وزارة الثقافة قبل أن يصبح مسئولا عن القسم الثقافى فى جريدة طريق الشعب، وميزة هذه المرحلة انه قد أخذ على عاتقه قراءة انتاج شعر الشباب، وبالفعل مر من تحت يده شعراء كثيرون: هاشم شفيق وقد تأثر بسعدى إلى يومنا هذا، مخلص خليل، عواد ناصر، وآخرون ولكن المجمل مما ينشر فى الجريدة اليومية كانت إشاراته واضحة على القصيدة وعلى الشاعر، وإذا بنافذة تحرير صغيرة فى الجريدة تفتح الباب واسعا على التحاق الشعراء الشباب بالثقافة التقدمية وبخط الشعر الحديث، وكنا نحن محررى القسم الثقافى نتابع ما يحدثه سعدى فى حواراته اليومية مع الشعراء الشباب، وتعلمنا منه ما هو الشعر وما هى القصيدة،فقد يكون الشاعر شاعرا فى مقطع منها وقد لا يكون شاعرا بقصيدة طويلة أو ديوان شعر، هذا المناخ النقدى الفاعل وسع مجال القصيدة وأنزلها إلى مرابعها اليومية وحياتنا البسيطة،كان يقود الشعراء والشعر،وكان فاعلا فى الاثنين،ودورى انا كان مراقبة مايحدثه سعدى فى الجو الثقافى لأحتذى حذوه فى مجالات اشتغالى فى المسرح وكتابة النقد الصحفي. ماتزال هذه المحطة فاعلة فى مسارى النقدى فبعض ما تتعلمه يترسخ كأى ندب فى الجلد وها هو سعدى حاضرا فى كل مفاوز الطريق التى سلكتها بالرغم من اختلافى الشخصى معه .
لم يكن سعدى يوسف إلا شاعر الاختلاف، لمست ذلك فى تعامله اليومى مع القصيدة الشابة ومع ما يكتب عموما فى صحافة الحزب اليومية، الاختلاف هنا يعنى أن المبدأ المختلف عليه أكثر المواقف صحيحة مما يدور حوله، كل ما يقال إغناء، هكذا نما الشباب فى ظل هذا الجدل اليومى خاصة ان خيرة المثقفين كانوا يعملون فى الصحافة الشيوعية، جاءوا لها وما يزال تراب سجون نقرة السلمان والحلة والرمادى والبصرة والكوت عالقه فى اهداب عيونهم ، كانوا معنا، والحقيقة كانوا مع الحداثة النامية التى أرعبت البعث بعد سنتين من قيام الجبهة. ان 90% من المثقفين العراقيين كانوا يساريين، هذا شيء مرعب لسلطات تعتمد الترغيب والترهيب حتى ضاقت سبلهم فى جذب الادباء الشاب عندما لم يجدوا مثل قامة سعدى يوسف ويوسف الصائغ وألفريد سمعان ومصطفى عبود وشمران الياسرى وفخرى كريم وعبد الرزاق الصافى وفاضل ثامر وياسين النصير وزهير الجزائرى وسلوى زكو وعشرات المبدعين والفنانين. هذه المرحلة من أغنى فترات حياتى التى مازالت أبعادها وأفكارها تعيش فى ثنايا كتاباتى وقلمى ومواقفى. أشعر بامتنان كبير لدور سعدى الذى كان أحد مؤسسى هذه الثقافة ومدياتها اليومية.وكانت النتائج باهرة، عندما يضعف دور الطبقة العاملة فى المجتمع ينهض المثقفون بالدور الوطني، هكذا اخذت طريق الشعب وكادرها الثقافى مهمة التنوير الفكرى والثقافى والسياسى.
ليست طريق الشعب وحدها هى الميدان الفاعل، كان سعدى وبحميته الشبابية وروحه اليقظة لايكتب قصيدة دون ان يمررها على عدد من القراء، شهدت ذلك ونحن نعمل سوية فى دار المدى بدمشق يوم كتب قصائده الايروتيكا، وفى عمان يوم كتب روايته االدائرةب وبالرغم مما حدث بينى وبينه فى دمشق واضطررت لمغادرة دمشق والعودة إلى عمان أكن لسعدى مودة ليس لانه بصرى شربنا معا ماء البصرة العذب والمالح،ولا لأننا كنا منتمين لحزب مناضل، إنما للطاقة الروحية التى يبثها سعدى عندما يكتب قصيدة او يترجم كتابا او يكتب فصلا من رواية، أو يتحدث عن الشعر، فقد كنت حاضرا فى الكثير من هذه التشعبات اليومية ونحن فى عمان ودمشق وباريس ولندن وهولندا، كنا عندما نركن لأيامنا وما حملته من ذكريات مشتتة ومتعبة، نبتسم لأن ما حدث فيها شيء من مجانية المواقف. كم انت كبير ياسعدى وكم انت ذاتى بحيث تضيّع مواقفك المهمة فى شطحات ذاتية خسرت فيها الكثير من حضورك بيننا.
الذين يعرفون سعدى يوسف لن يكتبوا الآن شيئا ضده، هذا الطفل الكبير المشاكس، والذين لايعرفونه سيكتبون عن خيباتهم عندما كانوا يراهنون على ضعف قصيدته ويعتبرونها قمة فى الشعر، المواقف السلبية لا تنتج شعرا، خاصة فى مواقفه الأخيرة وهو يقف فيها مواقف لا يحسد عليها، لذلك صمت محبوه بينما نطق هتافوه ، وهذه ظاهرة صاحبت الشاعر بدرشاكر السياب، الذين لايعرفونه إلا من خلال نثره الضعيف وعدوه قمة فى الإبداع لأنه ضد الشيوعيين، هكذا راهنوا على قصائد ونثريات سعدى الضعيفة وعدوها قمة الإبداع، فكتبوا يمجدونه ضد مواقفه، ومن عرف السياب وسعدى تأمل فى الكتابة ولم يكتب، إلا نقدا معتبرا، شأن المبدعين فى العراق شأن الوضع الاجتماعى القلق.
فى لاهاى ونحن نحتفل بالذكرى السبعين لميلاد الحزب الشيوعى وكان هو ضيف الحفل جاء من لندن، قال ولدت يوم ولد الحزب الشيوعى عام 1934، ولكن ولادتى معه كمعايشة أبو هريرة لعلى بن ابى طالب. بالرغم من أنهما عاشا الفترة نفسها إلا أنهما لايتفقان فى مواقفهما من قضايا محورية مثل قضايا العراق. وكانت تجربة الجبهة مع البعثيين شاهدة. مرة أخرى الاختلاف يعنى ثبات المحور الذى يدور عليه الحوار، وهو الوطنية. وتبقى آراء المحاورين عرضة للتغيير.
هناك من يرى فى سعدى يوسف صورة للمثقف الذى تغيره الظروف فينساق إليها، ثم يندمج فيها، وفى جلسات كثيرة يتنصل عما قاله فى تحولاته، شتم من مد يد العون له فى محنه وسفرات عمره وتحولاته من بلدإلى بلد،ومدح بعض الجلادين، كل هذه المواقف المضطربة تمحوها شاعريته وشعريته الوطنية،فقد كان مدرية للحداثة وطاقة لنهوض قصيدة غير المألوف فى اليومى والمألوف. نم قرير العين يا أبا حيدر، لقد تركت إرثا ثقيلا على الثقافة أن تمتحن اتجاهاتها بما تركته.
تكون المواقف فى الثقافة العراقية، حادة، سواء مع الأصدقاء او مع غيرهم، وموقف سعدى الذى أخذ عليه حين ينتقده جزءاً من سايكولوجيا عراقية تتسم بالحدة والمباشرة، وقد عشت مع سعدى سنوات عديدة لم أجده يوما رحيما بشاعر او كاتب او سياسي، خلق ليكون معارضا بالرغم من انه يعمل ضمن فصيل القوى التقدمية، فى المنافى كان يقود الثقافة ويعارضها ايضا، كان يكتب ليلا ويمحو نهارا، يراجع مواقفه ولايقول إلا ما يؤمن به، لا اصدقاء حميمين له، كل صداقاته مواقف قابلة للإلغاء، حياته متأرجحة بين قصيدته ومواقفه، لم يحصل أن ضمن قصيدة له موقفا شخصيا دون إسناد بحادثة أو تاريخ، فهو موثق تجاربه ومواقفه، بعض شحنات قصائده يوميات، ومذكرات ومواقف، لذلك كان يحشر نفسه فى الشخصيات وفى اللغة الشعرية وفى المواقف، ولم لا فسعدى مؤسسة ثقافية ما إن يحل فى مكان حتى يعشوشب المكان بالأخضربن يوسف. ما عشته معه فى عملنا المشترك فى المدى يمكنه ان يلقى الضوء على بعض سلوكه اليومي، وكان الاستاذ فخرى كريم لا يناقش سعدى فى امر، كان يقول لنا سعدى هو مجلة المدى، وسعدى هو مسئول مجلة النهج وسعدى لايناقش فى أمر يخص النشر، لا أعتقد أن مسئولا منح سعدى هذه الحرية غير الاستاذ فخري.
فى أول إصدارات المدى الأدبية وكانت أربعة كتب احتفلنا فى المدى بهذه الاضمامة من المنشورات، أربعة كتب وأربع شخصيات: فتحى كريم وسعدى يوسف وانا والمصممة السورية. شربنا نخب البداية، وطربنا للإنجاز وتلكم المسئول عن المستقبل، كان سعدى فى الصدارة التى يتولى بها قيادة الثقافة العربية فى المنفى.