حديث الأسبوع

فيروس غير مرئى يهدد بضياع جيل كامل

عبدالله البقالي نقيب الصحفيين المغاربة
عبدالله البقالي نقيب الصحفيين المغاربة

بقلم - عبدالله البقالي

لم تقتصر تداعيات جائحة كورونا، التى قلبت الموازين والمفاهيم على حد سواء فى العالم، على التكاليف المالية والاقتصادية فقط، ولا حتى على إحداث هزة عنيفة فى المفاهيم المتعلقة بالمبادئ التى استند إليها النظام العالمى الذى ساد طوال حقب طويلة من الزمان، بل إن إصرار هذا الفيروس الصغير غير المرئى بالعين المجردة على الوجود فى تفاصيل الحياة اليومية البشرية بأسرها، يواصل الكشف عن أشكال حديثة من التداعيات، وعن أجيال جديدة من الاشكاليات المستعصية، التى سيكون لها ما بعدها فى المستقبل البشرى القريب والمتوسط.

فى هذا الصدد أمامنا وثيقتان فى غاية الأهمية، تكشفان عن قضية من القضايا المستجدة التى تبرز حجم وخطورة ظاهرة لا يمكن لأى جهة، ولا لأى شخص، أن ينكر خطورتها، ولا أن يدعى توفره على إجابة صريحة ومقنعة لها.

الوثيقة الأولى تتمثل فيما يشبه عملية رصد قامت بها خمس من أكبر وسائل الإعلام الغربية وهىعممتها فى شكل دراسة رصدت ما نشره الآلاف من الشباب الأوروبى، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و25 سنة على شبكات التواصل الاجتماعى. وحاولت الدراسة تفسير وصول هؤلاء الشباب إلى سن الرشد فى ظل جائحة كورونا، وتحليل التداعيات السياسية والمجتمعية على هذه الفئة، التى تعتبر القوة الرئيسية للقارة الأوروبية خلال السنوات القادمة. وتكشف الخلاصات المتحصل عليها أن هؤلاء الشباب بلغوا سن الرشد فى ظل ظروف غير عادية، وليست مسبوقة، وأنهم سيحتفظون بآثار هذه الجائحة لأمد طويل. وأن التداعيات على هذه الفئة ستكون أقوى مقارنة مع الفئات المجتمعية الأخرى، بالنظر إلى أن هذه الفئة تتميز بحساسية مفرطة تجاه ما يجرى ويقع ويحدث فى محيطها، وأن هذه التأثيرات تزامنت مع أهم مرحلة فى حياة هؤلاء، باعتبارها مرحلة انتقالية دقيقة، وتؤكد هذه الخلاصات أن تأثيرات انتشار الوباء حدت من قدرات هؤلاء الشباب، فيما يتعلق باختياراتهم الدراسية، وأجبرت كثيرا منهم على إلغاء مشاريعهم، وأن التعليم عن بعد لم يكن فاعلا بالنسبة إليهم، كما حرمتهم من حرية التجول والتنقل، ناهيك عن مواجهتهم لصعوبة كبيرة فيما يتعلق بالعثور على شغل مناسب. وتسجل الخلاصات أن هذه الفئة واجهت ما سمته "أزمة قلق".

الوثيقة الثانية تتعلق بتقرير حديث لمنظمة "اليونسيف" الأممية يحذر مما سماه "إمكانية ظهور جيل ضائع" بسبب تداعيات كوفيد 19. ويكشف التقرير أن استمرار جائحة كورونا يتسبب فى الإضرار بتعليم الأطفال وبتغذيتهم وصحتهم، ويهدد بإمكانية بروز جيل جديد مختلف عن الأجيال السابقة والحالية من البشرية. وتستدل المنظمة الأممية المختصة برعاية الطفولة فى العالم بانزلاق 150 مليون طفل إلى الفقر متعدد الأبعاد. وتوقف التقرير عند انخفاض فى تغطية الخدمات الصحية فى 140 دولة شملها مسح المنظمة، وترجع سبب ذلك إلى التدابير المتخذة لكبح انتشار الوباء والذى تم على حساب جودة وتعميم الخدمات الصحية. وفى هذا الصدد صرحت المديرة التنفيذية لهذه المنظمة السيدة "هنريتافور" فى بيان صحافى بالقول "إن الاضطرابات فى الخدمات الصحية والاجتماعية الرئيسية، وارتفاع معدلات الفقر تشكل أكبر تهديد للصغار، وأنه كلما طالت مدة الأزمة، كان تأثيرها أعمق على تعليم الأطفال وصحتهم وتغذيتهم ورفاهيتهم " موضحة فى هذا الصدد بأن " مستقبل جيل كامل فى خطر ".

نعم، تداعيات الوباء لم تميز بين الشاب والكهل، ولا بين رجل وامرأة، ولا أخذت فى الاعتبار ديانة الفرد أو عرقه أو انتماءه الجغرافى، بل حازت ما يلزمها من منسوب الثقة فى الانتشار، ويمكن القول إن قوة وشراسة الانتشار والإصابة سجلت فى الدول العظمى قبل الضعيفة والمتوسطة منها، لكن الواضح والأكيد هو أن تكاليف هذا الانتشار، وهذه التداعيات، ستتباين من قطر إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى ارتباطا بالإمكانيات المالية اللوجيستيكية والعلمية المتوفرة، وبمستوى الوعى والتفاعل مع السياسات المعتمدة، والامتثال للتدابير والاجراءات التى سعت إلى محاصرة الوباء والقضاء عليه. لكن كل هذه الجهود المسخرة لم تكن قادرة على إلغاء تداعيات أخرى، يمكن أن نقول إنها غير مباشرة، همت عمق المجتمعات وهوياتها وقيمها، ووصلت حد بناء وتكوين الفرد المواطن.

وهكذا يمكن القول إن وتيرة تداعيات الجائحة تزداد سرعة فى الانتشار والتغلغل فى عمق المجتمعات. وحينما يجرى الحديث عن التداعيات النفسية والاجتماعية على الفئات العمرية من أطفال وشباب، فإن المقصود بذلك يتمثل فى المستقبل الذى ينتظر البشرية جمعاء، لأن هذه التداعيات لن تكون نتائجها آنية وعاجلة، إنها تدفن فى عمق الحياة البشرية، ولن تتجلى تأثيراتها الكاملة إلا فى المستقبل المتوسط والبعيد، إن الأمر يشبه إلى حد بعيد قنبلة موقوتة لا يدرى أحد موعد انفجارها. ذلكم أن الأزمة الصحية الطارئة بالعالم لم تبق فى حدود أزمة صحية محدودة يمكن التصدى لها بأشكال التطبيب والاستشفاء التقليدية، بل كانت، ولاتزال، أزمة اجتماعية واقتصادية مركبة ومستعصية على التفكيك، وحينما يقع التذكير بأن تداعياتها على الناشئة من الأطفال والشباب ستكون أقوى وأعنف، لأن الأمر يتعلق بفئة عمرية بصدد بناء الشخصية والتحول فى السلوك الفردى والجماعى، فئة فى مرحلة تحقيق الاستقلال الذاتى عن المؤسسات الاجتماعية من أسرة ومدرسة وغيرهما، ومن المفروض أن تتاح لأفراد هذه الفئة ظروف ميسرة وإيجابية تمكنهم من حسن الاختيار، ومن اتخاذ القرارات المناسبة والملائمة بعيدا عن جميع مظاهر الضغط والإكراه، وهذا ما لم يتحقق للأطفال والشباب، الذين تزامنت مرحلة بلوغ سن المراهقة بالنسبة للفئة الأولى، والنضج والرشد بالنسبة للفئة الثانية، مع انتشار أزمة صحية واجتماعية ونفسية فى العالم، بشكلٍ يكاد يكون غير مسبوق، مما يفتح المجال لأسئلة الغموض والقلق على مصير ومستقبل الشعوب والأمم بجيل حرمته الجائحة من الاستفادة من حقوقه الطبيعية فى الصحة والتعليم والتنقل والتفكير باستقلالية، وحرمته أيضا من امتلاك القدرات المناسبة والكفيلة بالحسم فى العديد من الاختيارات التى ترتبط بمصيره ومستقبله.

لذلك يحق القول إن كورونا خلفت لنا جيلا جديدا من أجيال البشرية يختلف عن الأجيال السابقة من حيث ظروف العيش، وقد يكون الأمر يتعلق فعلا بجيل الضياع.