كتب "عمر العسرى
إذ ما أكثر النصوص القصصية، ولكن يجب التساؤل هل هى منخرطة فى وجودها بالحس الجمالى والحدس الالتقاطى الذى يمكنها من أن تتجاوز فضاءها، وتلمح إليه فى الآن ذاته؟ وهل الكتابة القصصية محصورة فى الاستجابة لحاجة سرد الحكاية وتقديم الواقع كحياة مألوفة؟ وهل السرد الآلى مقتصر على التتابع المكانى والزماني، بحيث يثير اطمئنان القارئ؟ وهل نحن فى حياة عادية وطبيعية حتى يكون التفكير السردى مهادنا؟
إننا فى جلية الأمر إزاء واقع غامض يبعث على الحيرة والتساؤل، تتجرد فيه الأشياء والعناصر والعلاقات والوقائع المألوفة دون أن تتخذ مظهرا فارقا. كما أن نظرة القاص إلى الإنسان والعالم يجب أن تستجيب لهذا التشعب المتحقق، والإرباك المهيمن ليس بنقله كما هو بحذافيره، وإنما بإعادة صياغته وفق رؤية جمالية وفنية خاصين.
وعلى هذا الأساس، فإن الكتابة المعاصرة يجب أن تسائل تغيير الممكن، وهو استعداد كتابى لمرحلة مراجعة الشاهد الواقعي، والنموذج الوجودى مراجعة كلية، تلتفت إلى المعرفة والتقنية والتجريب، إلى حدود حركة ارتداد هدم الحدود الفاصلة بين الأزمنة والأمكنة، وكذا إعلاء الإحساس بالنسق السردى العام كضرب من الترسيم الذى يتخذ له شاكلة هندسية تفتح أفق الكتابة القصصية على اللانهائى من العلوم والفنون المختلفة.
إن كل هذه التحديدات الأولية، تمنحنا الاقتناع بأن التجديد فى الكتابة القصصية منطلقه الأساسى الكتابة ذاتها، وكيفية النظر إليها ليس كقاعدة ثابتة أو بنية قارة، وإنما كمشروع مفتوح، ونص مقيم على التخوم. وقد وجدنا فى مجموعة «صانع الاختفاءات» للقاص أنيس الرافعى بعض هذه التحديدات. وهى عمل ينقل الكتابة السردية إلى فضاء الحياة المعاصرة عبر لعبة ميتا-سردية تحاكى منطق (مكعب روبيك) هندسيا ووظيفيا، وتتمثل فن الرسم الساخر. ليظل السؤال مطروحا، كيف اخترق نظام اللعب هذا الكتابة السردية؟ وكيف تعايش السرد واللعب والرسم؟ هل ثمة حركة إحلال وإزاحة بين هذه الأسناد الثلاثة المتجاورة؟
أسئلة تطرح ذاتها بالتساوق مع المجهود التجريبى الذى اضطلعت به المجموعة، وأيضا لطبيعة المبرر فى البحث عن الإطارات والمتغيرات التى كانت تطال النص القصصي، وهو يحاكى نظاما كتابيا بخلفيتين؛ مكعب روبيك، والرسم الأيقونيالساخر؟
المتعدد السردى
إن كل اختيارات أنيس الرافعى فى أضاميمه القصصية كانت تنطلق من أسناد مختلفة، تصرح بها،ثم تعمل على تجريب انصهارها فى صلب النص القصصي، وقد توقفنا عندها من خلال دراسة نقدية مونوغرافية موسعة 1. غير أن تجربة «صانع الاختفاءات» تعلى من شأن سندين أساسين لم يتطرق إليهما من قبل فى تجربته المغامرة، هما: مكعب روبيك وفن الرسم الساخر. ومن خلالهما سنتوغل فى تفاصيل اللحظة القلقة، التى تشكل نسيج الحياة فى القصة، وذلك باعتماد شخصيات فردية، وانتهاج صيغة وصفية أساسها البورتريه تستمد مشروعيتها من المحاكاة الساخرة أحيانا، ومن التعدد الوظيفى لبنيات السرد القصصي.
تتوزع المجموعة على امتداد حيزين مهمين، الأول بصرى متمثل فى الأيقونات البصرية الساخرة التى أبدعها الرسام العراقى برهان المفتي. والثانى نصيّ مكون من ثمانى قصص مجزأة إلى مجموعتين بينهما علامة شارحة موسومة ب (وقت مستقطع). موقعهما التأليفى مسبوق بثلاثة نصوص هي:(دليل اللعبة، تشغيل اللعبة، نظام اللعبة). وقد ذيلت المجموعة بطرس رابع معنون ب (ملاحق اللعبة).
إن كل هذه المكونات الداخلة فى صلب معمارية المجموعة تحيل على الحس التأليفى الذى ارتضاه الكاتب، وذلك بفتح الكتابة القصصية على متعدد سردي، لا يكتفى بحكى الأحداث فحسب، وإنما باعتماد السند البصري، والمقصدية الكتابية التوزيعية للنصوص. ولعل العلاقات البنائية التى تنشئها المجموعة بين مكوناتها من أشخاص وأحداث وأمكنة لا يمكن أن ينطبق عليها التفكير وفق القوانين العادية والمألوفة للكتابة القصصية. بل هى متوترة إلى حد التعدد الذى أبانت عليه، والمنطلق الذى أرسته بخلفية معرفية تعمق الوعى بالموضوع والفكر القصصين.
هكذا نتوقف عند كتابةمتشعبة فى سبيكة واحدة، ويمكن تحديدها من خلال:
سرد الرسم الساخر.
سرد النص الشارح،
محكى القصة.
السرد الأول هو قراءة بصرية للنصوص القصصية، وقد عمد الكاتب والرسامالعراقى برهان المفتيإلى تمثل شخصية أبطال القصص، وقدارتهن السرد بشخصية واحدة يجسد ملامحها الرسم المرفق على نحو ساخر، متوقفا عند خصوصياتها ووظيفتها الحياتية التى ارتضاها السرد. وجاءت على شكل قراءة كلية لعنوان كل قصة. (رجل العلبة، رجل الأكياس، رجل البانتوميم، رجل الأعداد، رجل الأوركسترا، رجل الفنار، سيدة المكواة، رجل العصافير). لنسجل كون النصوص أسبق من الرسم أو الأيقونة الساخرة.
السرد الثانى وقد تمثل فى النصوص الموازية الشارحة لمنطق اللعبة السردية المستوحاة من (مكعب روبيك) الشهير. مع العلم أن الكتاب بنى بشكل تقابلى وتناظرى بين كتلتين، كل واحدة منهما مكونة من أربعة نصوص، قبلهما (دليل ونظام تشغيل اللعبة)، وبينهما (وقت مستقطع)، وفى النهاية ملحق عبارة عن نص (مرشد بعدي).
المحكى الثالث هو ما ترجمته النصوص، التى اعتمدت رسم بورتريهات لشخصيات غريبة مستوحاة من حياة أشّر عليها السرد وتدخلات الكاتب فى مرجعيتها الواقعية، سواء بذكر أمكنة محددة، أو استدعاء أسماء شخصيات من صميم الحياة الصاخبة، التى تعيشها أشهر ساحة شعبية فى مدينة الدار البيضاء. حتى وإن كانت هذه الساحة وقد تحولت إلى فضاء متخيل فى المجموعة.
لقد تكون لدينا الاقتناع بأن كل القلق، ومحاولة التجريب كان الكاتب يعنى بها مباشرة، وهو يستدعى معارف غير سردية مقترنة بلعبة (مكعب روبيك)، وبأساسيات الرسم الكارتونى الساخر. سنادان أسْهما فى خلق تعددية سردية لا تعلى من شأن السرد القصصي، وإنما تواريه بإعلاء الخطاب الواصف والمعارف الغزيرة المرتبطة بالتشكيل، والسينما، والأدب، والمسرح، والفكر، وغيرها.
من المؤكد أن مجموعة «صانع الاختفاءات» تحاكى لعبة (مكعب روبيك)، وهى لعبة أحجية ملونة عبارة عن مكعب رياضى ذهني. غير أن الكاتب قد سعى إلى محاكاتها بحس تغيير مفاصلها، واعتماد نظام موجه يسمح بقراءة النصوص من كل الجهات، كما هو الشأن فى نظام (مكعب روبيك). فالرؤية تتحقق من جميع الزوايا، وقد تختلف الألوان بحسب جهة النظر. يقول الكاتب فى مفتتح كتابه: « إن هذا (الكتاب/العمل) قصة قصيرة واحدة يفترض فى نظامها البنائى الجامع أن تقرأ على ثمانية وجوه، أو حلقة قصص قصيرة يمكن قراءتها فى جميع الاتجاهات: من البداية، أو النهاية، أو كيفما اتفقت المصادفة وسياحة الذائقة »2.
وهو النظام ذاته، الذى يحاكى الكتب النظرية للألعاب الذهنية الرياضية، وذلك اقتصاره على ثمانية نصوصمنتسبة إلى المربع الثمانى الأوجه أو الأضلع. والغاية متمثلة فى تبدل منظور السارد، لأن بناء اللعبة السردية يقتضى تغير الحركة والمنظور. وهو ما تبدى من خلال النصوص الثمانية التى احتفت بشخصيات مسحوقة تنتمى إلى أهل القاع.
وبالتزامن مع حركة السرد التى كانت تقتصر على الوصف فى أبعد مداه، فإن الكاتب ارتأى أن يحاكى المكعب اللونى بتخصيص كل قصة بلون يميزها، ويتم اعتماده واستنبات دلالته الموجهة. نذكر أن قصة «رجل اللعبة» اقترنت باللون أخضر. «وكذا معطفه الصوفى الرث أخضر اللون، الشبيه بمعطف جندى طيار ميت منذ حرب قديمة»3، كما أن قصة «رجل الأكياس» اقترنت باللون الأبيض. « يرى باستمرار لا متسرولا، مدمدما، مدليا للسانه، مسيلا الزبد الأبيض على جانبى فمه الريق المدرار على ذقنه، حاكا جسمه كله بقوة كأنه يبغى أن يقتلع منه شيئا ما ليس بإمكان أى كان إدراك ماهيته»4.
هكذا تخلق القصة ارتباطها اللونى بالمكعب الثمانى الأضلع والأوجه. وهو ارتباط تقصّده الكاتب من باب فتح القصة على إمكانين؛ هما الإمكان القرائى الذى لا مسار محدد له، بمعنى غياب التراتبية والتعاقبية بين النصوص، والإمكان الثانى يتلخص فى ممارسة نشاط بصرى أساسه قابلية تدوير المكعب القصصى والتحكم فى موقعه اللوني.
إن هذا المسار السردى الذى عكسته نصوص «صانع الاختفاءات» تبتغى إبراز حدود التأثير الكبير عن العمق التجاورى غير الاعتباطى بين القصص، وكأنها تبدى مرونة معينة أثناء السرد وتحقق لذاتها ما يسمى بالتفسير التطورى الممكن لنظرية الألعاب التوازنية عند ناش5. ورغم كون كين بينمور تحدث عن العمليات التوافقية التى تتحكم فى نظام الألعاب، فإن عملية التوافق التى ترتكز عليها المجموعة تميل إلى استبعاد منطق التوازن الرياضى إلى الفوضى اللونية، التى وجدت لها امتداد فى الأيقونات الساخرة التى افتتحت بها النصوص.
قد تحقق السرد ولكن ارتبط باللعب كمؤشر تقنى وأمر أساسى للنشاط الاجتماعى الذى اضطلعت به الشخصيات الموصوفة. ولذلك تماشت النصوص مع مفاصل مكعب روبيك ليس من زاوية هندسته فحسب، وإنما أيضا بمحاكاة لونية تروم تخصيص كل ضلع سردى بميسم لونى يمزه. ومع ذلك فإن درجة معينة من الاختيار والتخلص من قيود لعبة مكعب روبيك كانت حاضرة على نحو اعتماد الكاتب المجموعة كدليل تشغيل المكعب السردي، واعتماد مؤشرات فى حالة القصص البدئية، والوسطية والنهائية.
كما يقوم التنظيم الأيقونى للنصوص على إكسابها امتدادا بصريا، وشحنة رمزية، فلا يمكن قراءة القصة دون الإمعان فى عتبتها البصرية الساخرة، وهذ جانب آخر اعتمده الكاتب لخلق مفارقة تأليفية، وتوليفة كتابية تستنبت البصرى فى المكتوب وتقرنهما معا.
كل هذه المحاولة الباهرة لتوفير رؤية مباشرة وشاملة عن اللعب من كنه القصة قد لا تفى بالغرض، بحسب المعطيات التى يحفل بها الكتاب القصصي، وإنما تحاول أن تتلبس اللعب وتعالجه باعتبار أنه نشاط له صفة جوهرية عامة، كما أن له خصائص تميزه عن سائر الأنشطة الأخرى. والواقع أن التجاور المتحقق قد أربك المسار القرائى للنصوص بخلق جغرافية جديدة لللتلقى والتأويل، بحيث يمكن قراءة النصوص من كل الجهات كما صرح الكاتب نفسه.
إن الأدب فى حقيقته « لعبة سامية وعظيمة مثلما فعل هويتزنغا على سبيل المثال من أجل الابتعاد عن المشاريع العظيمة ومن أجل الاكتشاف المسبق للأفق الذى تلتقى فيه أسئلتنا حول الأدب واللعب، يبدو واضحا أنه يتعين علينا تحديد مدى تأثير هذه الإشكالية الواسعة جدا. وهكذا فإن سؤالنا سيقتصر على مشكلة محددة: وهى دور فكرة اللعب فى داخل تيارين كبيرين فى عصرنا هذا، وخاصة نظرية التأويل والتفكيك »6.
يبدو أن الإشكالية فى الأدب تتعلق بخلفية الحضور الموازى لأنطولوجية اللعب، وهو حضور ليس جديدا، وإنما الرؤية المتحققة هى التى تفرض النظر إلى وضعية السرد ومقصدية الكاتب، الذى ينظم الأحداث وفقا لخطة سببية ووصفية، بل تفسيرية عندما تكشف الأحداث على ضوء الأحجية اللعبية. ويمنحنا هذا شمولية تمثيلة فى تحريك دفة السرد وتقليب إيحائيته.
العتبة الساخرة
يمثل الرسم الساخر لقصص المجموعة أبعادا رمزية كثيرة، ولا مناص من استدعاء أسبقية النص عن الأيقونة الساخرة، وهذا الجانب عمق الدلالة الإيحائية فى الرسم والنص معا. ولذلك قد نقرأ الرسم من خلال تفكيك القصة وردها إلى منابتها اللغوية حتى نقف على ممكنات قراءة العتبة البصرية.
وبالعودة إلى قصة «رجل الأكياس» فإن الرسام برهان المفتى قدم رسمة ساخرة تحاكى التشكيل الكارتونيوتمثل: رجلا كهلا أصلع الرأس، أزرق البشرة، يحمل أكياسا.. إلخ. بهذه الصفات والملامح التى تمثلها الخطاب البصرى الذى لم يخرج عن حدود المرجع النصى القصصي. وقد جاء فى ذاتالقصة قول السارد: « كان كهلا يدبر دون عود إلى حتف عقده الخامس، أو بالأحرى كان يعسر تخمين عمره الحقيقى المتراوح بين ما بعد الكهولة والأبدية.. عرف عنه دائما بأنه منبتّ لا ظهر له أبقى ولا أرضا تحمل أصله قطع كما يقول المثل.. غامق السحنة، أزرق البشرة، أصلع الرأس، عتيد البنية، مترهل البطن مستكرشه، لديه هالات سوداء تحت جفنيه من قلة النوم، وفوق الجفنين كان ميال الحدقة إلى اللحاظ منحرف سواد العينين إلى جهة الصدغ. القسم العلوى من أسنانه ناقص، فى حين تقاربت أضراس القسم السفلى حتى لا تلحظ بينها فرجة، ومن صدره يندفع بلا توقف سعال بئر واكحة»7.
الحاصل أن الرسم يمتص من النصوص معطياته اللغوية التى تمثل خطابا ساخرا لشخصية رجل الأكياس، ولعل الصفات ذاتها كانت ممتدة فى الرسم بخلفية نصية. وكامنة فى موقف السارد الساخر من قضية وجودية لا يمكن أن نفهم سخريته إلا بالمراوحة بين النص وعتباته؛ أى بين الداخل والخارج.
وأيضا كون التعالق بين النص والرسم قد أرسى مقصدية سخرية كلية، لأنها تهاجم أساسا مجموع أبنية الأثر الوجودى لبطل القصة. والشيء نفسه نجده فى نص «رجل العصافير»، يقول السارد: « بيد أنه بالمقابل رأى بضوح بارز عبر واجهة المقهى، قدوم مرشحه المفضل الملقب ب «رجل العصافير»، ذاك الذى تخيره بعد فترة رصد ومراقبة طويلة نسبيا عن «البروتوكول» الزمنى المألوف، موقنا أشد اليقين بأن الوقت قد حان كى يهجر حياته السابقة، ثم يبدأ حياة غيرها، ملؤها الحبور والجمال، وخلو البال، والنسيان الدائم، والنعيم المقيم، بوصفها الطبائع المجبولة الأصلية للكائن الآدمي، قبل أن تتمسح روحه أمام مرايا المدينة الحديثة المحرفة للتصاوير والسرائر»8.
يبدو أن الكاتب لا يقدم بورتريها ساخرا لرجل العصافير فحسب، ولكن يسخر حتى من طريقة الكتابة القصصية التى لا نجد لها امتدادا سرديا لأحداثها، وإنما السرد يتحايل على مساره وموضوعه وفكرته بأسلوب أكروباتى غير مستقر. القصة نفسها تخلق نقط ارتقائها من معارف وأسماء وأشياء تبدو غريبة جدا على نحو (الوكالة الوطنية للمساعدة على الاختفاء الطوعي). وكأن الكاتب يسخر من الواقع بمفاهيمه، وينتقده بكل ما أوتى من قريحة وصفية ورؤيوية.
نجد فى المجموعة ككل انشغالا متقدما بالعتبة البصرية الساخرة وهى تحاكى المخيال الكارتوني، وتتمثل البعد الكتابى للقصة، وأيضا فيما تفتحه من كوات لا ترهن القصة بحدث، وإنما تخلق مفارقتها من التباس الأصوات والأحداث حول بطل مستأصل من واقع ومن مرجع فضائى (ساحة السراغنة). فالكاتب ينازع واقعه ويعترض عليه بهذه الشخصيات، ويعلن ساخرا من كل شيء.
النواة الاستعارية
اشتغلت الاستعارة فى مجموعة «صانع الاختفاءات» على نحو نسقي، انسجاما مع وضعية السارد والفضاء المرجعي، والشخصيات المستدعاة والموضوع الذى تغيّت القصة بناء هوية له. وقد تبدت عناصر هذا النسق فى اعتماد أسماء المقاهى التى ترددت عليها الشخصيات بما فيهم عين السارد الملم والمتحول. وأيضا فى انفتاح القصة على الإحالة المكانية التى ترسخ التداخل بين القصة والأشياء المستعارة من الواقع المعيش.
ولم تنفصل الدلالة التى بنتها نصوص المجموعة عن هذا النسق الذى كان جوهر الكتابة عند الكاتب فى مختلف كتاباته. فالتجريب لم يكن تنصلا من واقعه، وإنما كان استعارة كبرى تروم زرع نتوءات تجريدية ولكنها لا تنفك عن وجودها. وهذا ما تجلى من خلال هذه البورتريهات لشخصيات مروا أو تزامن تواجدهم مع السارد الملتبس.
وانسجاما مع هذا كله، أدمج القاص رؤيته فى بناء دلالة تتهدم فيها العلاقات المألوفة بين الإنسان ومحيطه، على نحو سمح بتحول النظرة إلى المكان نفسه. فأبطال القصة يرمزون إلى طبقة مسحوقة علاقتهم بمحيطهم متشابكة وفارقة. والقصة برغم تجريبيتها فإنها تسائل الواقع باستعارة مفاصله التى تبدت كمؤشرات مكانية.
لقد قدم أنيس الرافعى هذه النواة الاستعارية فى نسقية متحكمة فى بناء دلالة الواقع كما السيمولاكر أو ظل الواقع، وفى اشتغال الضمير بين المتكلم والمخاطب والمعجم الواصف والدال اعتمادا على أحكام عليها قامت مقاطع النصوص فى سياق لا يخضع لنمو آلي، وإنما يتأثر بالهوية الملتبسة لأبطال المجموعة. يقول السارد فى قصة «رجل البانتوميم»: « كان ذلك آخر جضور معلوم لرجل البانتوميم، الذى لم يترك من خلفه سوى قناعه البلاستيكى المزدوج، الذى اكتشف فيما بعد بأن داخله مطابق لخارجه وكلاهما يحملان نفس الوجه.. علاوة عن بذلته المنحوسة، التى كانت ملطخة جهة البطن ببقعة حمراء متخثرة، وملقاة على قارعة الطريق يتحاشاها كل من يمر بمحاذاتها.. وبجانب البذلة مرآة صغيرة مهشمة، يبدو أنها وضعت هناك عن سابق تصميم على سبيل التضليل، كان كل من يجرؤ على النظر إليها، يرى ملامحه محطمة إلى مئات الكسرات»9.
يحيل المقطع على إرادة الكاتب إعادة ترتيب العلاقة بين البطل رجل البانتوميم، وواقعه من جهة خلق بنية مشابهاتية تستعير التحول الطارئ والمصير المحتوم بين حيزين الأول واقعي، والثانى أدائى سردى وصفي. وقد هيأ هذا لتشغيل آلية نقط الرسوخ على نحو سمح بتراجع واقعية الحدث والموقف، وبتقديم البطل عبر متخيل يراهن على الاستعارة باحتمالاتها الأسلوبية والتخييلية، التى تتجاوز أحيانا ما هو فيزيولوجي.
إن السمة الأولى لهذا التوظيف الاستعارى تمكين الشخصيات، داخل القصة، فى قيامها على ضرب من التناقض الوجودى الداخلي، فهى مقهورة لا تتوقف عن الحلم والتعبير عن رغباتها الدفينة، تحدس مصائرها غير أنها تسير إليها دون توقف، تتراوح بين القرب من مرجعها الواقعى بأسمائها وصفاتها ووظائفها، إلا أنها تندمج فى عوالم خرافية أسطورية مفارقة، إنها مبنية على هذا التلازم بين البعدين، بل جوهرها الذى يحدد وجودها فى قصة أنيس الرافعي.
فى ضوء ما تقدم سالفا، إن الحديث عن اللعب الميتا – سردي، هو شكل من أشكال التجريب الذى يتمثل إواليات نظرية اللعب وسيكولوجيته بغاية خلق عالم سردى تتلاقى فيه المتناقضات على غرار الحياة المعاصرة. وإن مجموعة «صانع الاختفاءات» لأنيس الرافعى أولت أهمية قصوى للعلامة البصرية فى شكل رسم كارتونى ساخر، وقد أقامت علاقة جوار وتماس مع مرجعها النصي، وأبدت قابلية للانخراط فى قالب سردى جامع مانع.
عمر العسري، القصة والتجريب، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر – القاهرة، ط/1، 2019.
أنيس الرافعي، صانع الاختفاءات– متوالية قصصية تطبيقية على نظرية الألعاب، مؤسسة بتانة الثقافية – القاهرة، ط/1، 2021.ص. 9.
نفسه، ص.17.
نفسه، ص. 31.
كين بينمور، نظرية الألعاب، ترجمة: نجوى عبد المطلب، مؤسسة هنداوى للتعليم والثقافة – القاهرة، ط/1، 2016، ص. 24.
فارغا سلطان، الألعاب فى النظرية الأدبية، ترجمة: عثمان الجبالي، كتاب المجلة العربية - الرياض، العدد 401، يونيو 2010، ص. 25.
صانع الاختفاءات، ص. 30.
نفسه، ص. 104.
نفسه، ص.50.