وجه‭ ‬آخر‭ ‬تكشفه‭ ‬رسائله‭:‬ دوستويفسكى العاشق

دوستويفسكى
دوستويفسكى

 كتب : ممدوح‭ ‬فرّاج‭ ‬النابى‭  ‬

تمرُّ‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ (‬نوفمبر‭ / ‬تشرين‭ ‬الثانى‭ ‬2021‭) ‬الذكرى‭ ‬الثانية‭ ‬بعد‭ ‬المائة‭ ‬على‭ ‬ميلاد‭ ‬الروائى‭ ‬الروسى‭ ‬افيودور‭ ‬ميخايلوفيتش‭ ‬دوستويفسكي‭ (‬1821‭ ‬ذ‭ ‬1881‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬جعلت‭ ‬اليونسكو‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬احتفالاً‭ ‬كبيرًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬بالرجل،‭ ‬تقديرًا‭ ‬لمكانته‭ ‬الأدبيّة؛‭ ‬إذْ‭ ‬غاصَ‭ ‬بإبداعه‭ ‬فى‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬كاشفًا‭ ‬عن‭ ‬تناقضاتها،‭ ‬فصوّر‭ ‬ما‭ ‬يعتريها‭ ‬من‭ ‬ضَعْفٍ‭ ‬وهشاشةٍ‭ ‬وقوّةٍ،‭ ‬وأحلام‭ ‬وإخفاق،‭ ‬وصراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬وكذلك‭ ‬ما‭ ‬يشملها‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬متناقضة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬مثالية‭ ‬قد‭ ‬تعلو‭ ‬بالإنسان‭ (‬أبطاله‭ ‬وبطلاته‭) ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬الفضيلة‭ ‬كالأمير‭ ‬ميشكين‭ ‬فى‭ ‬االأبلهب،‭ ‬وأخرى‭ ‬تنزع‭ ‬عنه‭ (‬أى‭ ‬الإنسان‭) ‬القداسة‭ ‬ويكون‭ ‬مثالاً‭ ‬للشر‭ ‬وربيبًا‭ ‬للشيطان،‭ ‬كما‭ ‬تمثّل‭ ‬فى‭ ‬شخصيتى‭ ‬المرابية‭ ‬العجوز‭ ‬والعاهرة‭ ‬سونيا‭ ‬فى‭ ‬االجريمة‭ ‬والعقابب‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬شخوص‭ ‬تُجسّد‭ ‬الشّر‭ ‬وكأنها‭ ‬مجبولة‭ ‬عليه،‭ ‬فهم‭ ‬حسب‭ - ‬نابوكوف‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ (‬محاضرات‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬الروسي‭)‬‭ - ‬ايستمرون‭ ‬فى‭ ‬إراقة‭ ‬دم‭ ‬المسيح؛‭ ‬ليصِلوا‭ ‬إليه‭.‬‬

‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬معاناته‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬الشخصية‭ ‬بسبب‭ ‬العوامل‭ ‬التى‭ ‬تكاثرت‭ ‬عليه‭ ‬كالفاقة‭ ‬والعَوَز‭ ‬والمرض‭ ‬وقبلهم‭ ‬الحبس‭ ‬فى‭ ‬سجن‭ ‬سيبيريا‭ ‬لمدة‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬رسائله‭ (‬ترجمها‭ ‬خيرى‭ ‬الضامن‭ ‬فى‭ ‬جزأين‭ ‬صدرا‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬سؤال‭) ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬جوانب‭ ‬متعددة‭ ‬فى‭ ‬شخصية‭ ‬الرجل،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الجوانب‭ ‬المتعددة،‭ ‬سأقف‭ ‬عند‭ ‬جانب‭ ‬العاشق‭ ‬الوله‭ ‬فقط،‭ ‬فرسائله‭ ‬تفيض‭ ‬محبّةً‭ ‬وتولُّهًا‭ ‬بالمحبوب،‭ ‬بل‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬ضغيف‭ ‬أمام‭ ‬سطوة‭ ‬الحب،‭ ‬يتذلّل‭ ‬ويتضرّع‭ ‬للمحبوب‭ ‬بل‭ ‬يُهدِّد‭ ‬بالانتحار‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يقبل‭ ‬به‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني‭. ‬

وجه‭ ‬آخر‭ ‬تكشفه‭ ‬رسائله‭:‬دوستويفسكىالعاشق

 

‭ ‬وقد‭ ‬عبر‭ ‬مكسيم‭ ‬غوركى‭ ‬عن‭ ‬سطوة‭ ‬الحبّ‭ ‬عليه‭ ‬قائلاً‭: ‬اكان‭ ‬قلبُ‭ ‬الكاتب‭ ‬الروسى‭ ‬ناقوسًا‭ ‬للحبّ،‭ ‬وصوتًا‭ ‬جبّارًا‭ ‬تسمعه‭ ‬كل‭ ‬القلوب‭ ‬الحيّة‭ ‬فى‭ ‬البلادب‭. ‬ومن‭ ‬شدّة‭ ‬ما‭ ‬عاناه‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحبّ‭ ‬واستبداد‭ ‬المحبوب،‭ ‬نراه‭ ‬يصوغ‭ ‬فلسفته‭ ‬عن‭ ‬الحبّ‭ ‬هكذا‭ : ‬افرحةُ‭ ‬الحبِّ‭ ‬عظيمة،‭ ‬لكنَّ‭ ‬المُعاناة‭ ‬فظيعة،‭ ‬والأفضَل‭ ‬للإنسَان‭ ‬أن‭ ‬لاَ‭ ‬يحبّ‭ ‬أبدا‭.‬ب

‭ ‬مرّ‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬بثلاث‭ ‬تجارب‭ ‬عشق؛‭ ‬الأولى‭ ‬كانت‭ ‬مع‭ ‬اماريا‭ ‬إيساييفاب،‭ ‬وهى‭ ‬كانت‭ ‬حُبّه‭ ‬الأوّل‭ ‬الكبير،‭ ‬امرأة‭ ‬مثقفة‭ ‬والدها‭ ‬ديميترى‭ ‬كونستان‭ ‬مدير‭ ‬الجمارك‭ ‬فى‭ ‬استراخان،‭ ‬كانت‭ ‬ماريا‭ ‬متزوجة‭ ‬من‭ ‬مُعلّم‭ ‬شاب‭ ‬اسمه‭ ‬اأكسندر‭ ‬إيفانوفيتش‭ ‬عيسايفب،‭ ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬كان‭ ‬مدمنًا‭ ‬للشراب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أوقع‭ ‬العائلة‭ ‬فى‭ ‬أزمات‭ ‬مالية‭ ‬كثيرة‭. ‬وبحكم‭ ‬وظيفته‭ ‬كان‭ ‬يتنقل‭ ‬من‭ ‬مكانٍ‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬استقرَّ‭ ‬الحال‭ ‬بهما‭ (‬هو‭ ‬وزوجته‭) ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬النائية،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انعقدت‭ ‬أواصر‭ ‬الصداقة‭ ‬بين‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬والمعلّم‭ ‬الشّاب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬دوستويسفكى‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬الإعجاب‭ ‬بزوجته‭ ‬الشقيّة‭ ‬والجميلة،‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬يشعرُ‭ ‬نحوها‭ ‬بشفقةٍ‭ ‬كبيرةٍ،‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬بُدًّا‭ ‬إزاء‭ ‬حائل‭ ‬الزوج‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬احبًّا‭ ‬أخويًّاب،‭ ‬لكن‭ ‬الحبّ‭ ‬استبدّ‭ ‬به،‭ ‬وتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬هوى‭ ‬جامحٍ،‭ ‬وما‭ ‬إنْ‭ ‬انتقلَ‭ ‬الزوج‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬للعمل،‭ ‬حتى‭ ‬تمزّقَ‭ ‬قلبُ‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬للفرّاق‭. ‬فأرسل‭ ‬رسالة‭ ‬لها‭ (‬بتاريخ‭ ‬4‭ ‬يونيه‭ ‬1855‭) ‬يُخبرها‭ ‬بما‭ ‬اعتراه‭ ‬من‭ ‬وحشة‭ ‬وآلام‭ ‬بسبب‭ ‬فراقها،‭ ‬فبغيابها‭ - ‬حسب‭ ‬عبارته‭ ‬ذ‭ ‬اتَيتّمب،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬الوقت‭ - ‬دونها‭ - ‬اأشبه‭ ‬بالسّجن‭ ‬كالفترة‭ ‬التى‭ ‬اُعتقل‭ ‬فيها‭ ‬عام‭ ‬1849،‭ ‬وعزلوه‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عزيزب،‭ ‬ويسترسل‭ ‬فى‭ ‬رسالته‭ ‬ذاكرًا‭ ‬أشواقه‭ ‬وأحزانه‭ ‬لفارقها‭ ‬هكذا‭: ‬القد‭ ‬عشتُ‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬خارج‭ ‬المجتمع‭ (‬يقصد‭ ‬فترة‭ ‬السجن‭) ‬وحيدًا‭ ‬بلا‭ ‬صديق‭ ‬أُسِرُّ‭ ‬له‭ ‬شكاتي،‭ ‬ثمّ‭ ‬جئتى‭ ‬أنتِ‭ ‬فعاملتنى‭ ‬كفرد‭ ‬من‭ ‬أسرتك،‭ ‬ولكم‭ ‬آلمتك‭ ‬بطباعى‭ ‬الشّاذة،‭ ‬ولكنك‭ ‬أحببتينى‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬لقد‭ ‬أدركتُ‭ ‬ذلك‭ ‬وأحسسته،‭ ‬فلستُ‭ ‬بلا‭ ‬قلب‭ ‬يا‭ ‬عزيزتيب‭ .‬

‭ ‬الحب‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد

‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬بتاريخ‭ ‬14‭ ‬أغسطس‭ ‬1856،‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬ألكسندر‭ ‬فرانغيل،‭ ‬يخبره‭ ‬بوفاة‭ ‬زوج‭ ‬ماريا،‭ ‬ويحكى‭ ‬فيها‭ ‬عمّا‭ ‬ورده‭ ‬من‭ ‬رسالة‭ ‬ماريا،‭ ‬تشكوه‭ ‬آثار‭ ‬الوفاة‭ ‬عليها‭ ‬وعلى‭ ‬ابنها‭ ‬ابافلب،‭ ‬وتدهور‭ ‬صحتها‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬حيث‭ ‬فقدت‭ ‬طعم‭ ‬النوم‭ ‬وشهية‭ ‬الطعام،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬يُفصح‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬عمّا‭ ‬ينتابه‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬بسبب‭ ‬علاقته‭ ‬بهذه‭ ‬المرأة،‭ ‬وشعوره‭ ‬بالغيرة‭ ‬نحوها‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬هنا،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬آلامه‭ ‬أنه‭ ‬سمع‭ ‬أنها‭ ‬اوعدتْ‭ ‬شخصًا‭ ‬آخر‭ ‬فى‭ ‬كوزنيتسك‭ ‬بالزواج‭ ‬منهب‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬ويسأله‭ ‬اهل‭ ‬أبدأ‭ ‬بالكتابة‭ ‬إليها؟ب،‭ ‬كما‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يمدّ‭ ‬لها‭ ‬يد‭ ‬العون‭ ‬بأن‭ ‬يُرسل‭ ‬إليها‭ ‬مالاً‭ ‬لأنها‭ ‬فى‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دفعتها‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قبول‭ ‬الصدقة‭.‬

‭ ‬ومع‭ ‬بداية‭ ‬عام‭ ‬1856‭ ‬وتحديدًا‭ ‬فى‭ (‬13-‭ ‬18‭ ‬يناير‭) ‬يُرسل‭ ‬رسالة‭ ‬لأخيه‭ ‬ميخائيل،‭ ‬ويطلعه‭ ‬على‭ ‬ترفيعه‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬ملازم‭ ‬ثان،‭ ‬وانتظاره‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الخدمة‭ ‬المدنيّة،‭ ‬لسببين‭ ‬الأول،‭ ‬يتمثّل‭ ‬فى‭ ‬رغبته‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬والنشر،‭ ‬والثانى‭ ‬لأنه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬الأشغال‭ ‬الشاقة‭ ‬توجّه‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القرية،‭ ‬وفيها‭ ‬تعرف‭ ‬على‭ ‬عائلة‭ ‬اعيسايفب،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬أخيه‭ ‬أن‭ ‬يُسدى‭ ‬له‭ ‬خدمة‭ ‬بأن‭ ‬يبحث‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭ ‬لزوج‭ ‬ماريا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬المعاش‭ ‬وليس‭ ‬لديه‭ ‬مدخرات‭ ‬أخرى،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يُعدِّدَ‭ ‬صفات‭ ‬الزوج‭ ‬حيث‭ ‬وجده‭ ‬ارجلاً‭ ‬طيبَ‭ ‬القلب‭ ‬ذا‭ ‬شخصية‭ ‬متطوِّرة‭ ‬جدًّا،‭ [‬و‭] ‬كان‭ ‬متعّلمًا‭ ‬يفقه‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬تتكلم‭ ‬معه‭ ‬عنهب،‭ ‬يُعرج‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭ ‬ماريا‭ ‬ويصفها‭ ‬بأنها‭ ‬اشابة‭ ‬فى‭ ‬الثامنة‭ ‬والعشرين،‭ ‬مليحة‭ ‬ومثقفة‭ ‬جدًّا،‭ ‬وذكية‭ ‬للغاية،‭ ‬وطيبة‭ ‬ورقيقة‭ ‬وأنيقة‭ ‬بقلب‭ ‬رائع‭ ‬كبيرب‭ ‬إلخ‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬تُعْلى‭ ‬من‭ ‬قدرها،‭ ‬وعلاوة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬فهى‭ ‬امرحة‭ ‬ولعوبب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جذبه‭ ‬إليها،‭ ‬فلم‭ ‬يغادر‭ ‬منزلهم‭ ‬تقريبًا،‭ ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬تأثره‭ ‬يُجزم‭ ‬قائلاً‭ ‬اأنا‭ ‬لم‭ ‬أصادف‭ ‬امرأة‭ ‬مثلها‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬ندرب،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يسرد‭ ‬رحلتهم‭ ‬وانتقالهم‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬عمل‭ ‬الزوج‭ ‬الجديد،‭ ‬يُطالعه‭ ‬بأمر‭ ‬وفاة‭ ‬زوجها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يستحثّه‭ - ‬هو‭ ‬الآخر‭ - ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يدخر‭ ‬جهدًا‭ ‬لمساعدتها‭. ‬لكن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الرسالة‭ ‬أنه‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬نيته‭ ‬بأنه‭ ‬اسيتزوجها‭ ‬حالما‭ ‬تتبدل‭ ‬ظروفه‭ ‬إلى‭ ‬الأحسنب‭ ‬فهو‭ ‬يحبُّها‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬بدونها‭. ‬

‭ ‬ثمّ‭ ‬يعود‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬بتاريخ‭ ‬22‭ ‬ديسمبر‭ ‬1856،‭ ‬إلى‭ ‬أخيه‭ ‬ميخائيل،‭ ‬ويُكرِّر‭ ‬له‭ ‬تفاصيل‭ ‬علاقته‭ ‬بماريا‭ ‬ومدى‭ ‬حبّه‭ ‬لها،‭ ‬ويُعلن‭ ‬صراحة‭ ‬حبّه‭ ‬ورغبته‭ ‬فى‭ ‬الزواج‭ ‬منها‭ ‬هكذا‭: ‬اإننى‭ ‬أحبُّ‭ ‬امرأة‭ ‬اسمها‭ ‬ماريا‭ ‬ديمتريفينا‭ ‬عيسايفاب،‭ ‬وفيها‭ (‬أى‭ ‬الرسالة‭) ‬يحكى‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬ظروفها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تعرَّفَ‭ ‬عليها‭ ‬وما‭ ‬شَعَرَ‭ ‬به،‭ ‬ورحيلها‭ ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬ثمّ‭ ‬وفاته،‭ ‬وما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬رعاية‭ ‬لها‭ ‬ولابنها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أوقعه‭ ‬فى‭ ‬ضائقة‭ ‬أخرى‭ ‬وديون‭ ‬تُضاف‭ ‬إلى‭ ‬ديونه،‭ ‬ثمّ‭ ‬مراسلته‭ ‬لأسرتها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتكّرر‭ ‬فى‭ ‬رسالته‭ ‬إلى‭ ‬أكسندر‭ ‬فرانغيل،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يزيد‭ ‬عليها‭ ‬ذكر‭ ‬مخاوفه‭ ‬من‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالرجل‭ ‬الذى‭ ‬تعرفت‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬كوزنيتسك،‭ ‬لكن‭ ‬مبعث‭ ‬حيرته‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬كصديق‭ ‬رأيه‭ ‬فى‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرجل،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬رسائلها‭ ‬السابقة‭ ‬كانت‭ ‬ثمة‭ ‬تأكيدات‭ ‬على‭ ‬الحب‭. ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬يأسه‭ ‬حرّر‭ ‬لها‭ ‬رسالة‭ ‬مُفعمة‭ ‬باليأس‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬اإننى‭ ‬سأموت‭ ‬إذا‭ ‬حرمت‭ ‬منهاب،‭ ‬وتارة‭ ‬ثانية‭ ‬يقول‭ ‬لصديقه‭ ‬اسأهلكُ‭ ‬إذا‭ ‬فقدتها،‭ ‬ملاكي،‭ ‬إما‭ ‬الجنون‭ ‬وإما‭ ‬إرطيشب‭ (‬ويقصد‭ ‬الغرق‭ ‬فى‭ ‬نهر‭ ‬سيبيريا‭). ‬وبعد‭ ‬تعب‭ ‬وقنوط‭ ‬يقطع‭ ‬بأنّه‭ ‬امن‭ ‬الأفضل‭ ‬للإنسان‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬أبدًا‭.‬

‭ ‬يلعب‭ ‬القدر‭ ‬لعبته،‭ ‬فيموت‭ ‬الزوج،‭ ‬ويخال‭ ‬المحبّ‭ ‬أنّ‭ ‬الفرصة‭ ‬قد‭ ‬جاءته،‭ ‬لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬بالمرصاد،‭ ‬فقد‭ ‬التقتِ‭ ‬الأرملة‭ ‬الشّابّة‭ ‬بمدرس‭ ‬وسيم‭ ‬يُدعى‭ ‬افروغونوفب‭ ‬أسلمتْهُ‭ ‬زمام‭ ‬قلبها،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬بلغ‭ ‬الخبر‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬حتى‭ ‬رحل‭ ‬للقائها،‭ ‬وظل‭ ‬يبكى‭ ‬ويتوسّل‭ ‬حتى‭ ‬نجح‭ ‬فى‭ ‬إثارة‭ ‬شفقتها،‭ ‬وانتزع‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شفتيها‭ ‬وعدًا‭ ‬بألّا‭ ‬تتزوج‭ ‬غريمه‭ ‬الوسيم‭.‬

٪‭ ‬٪‭ ‬٪‭ ‬

‭ ‬ولما‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬اسيميبالا‭ ‬تينسكب‭ ‬كتب‭ ‬لها‭ ‬خطابًا‭ ‬مُسهبًا‭ ‬يشرح‭ ‬فيه‭ ‬موقفه‭ ‬ويستجديها‭ ‬لكيلا‭ ‬تهجره‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬جاءه‭ ‬الرد‭ ‬شتائم‭ ‬بذيئة‭ ‬من‭ ‬منافسه‭ ‬افروغونوفب‭ ‬وأدرك‭ ‬عندها‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬الهزيمة،‭ ‬ويعيش‭ ‬دور‭ ‬المضحّى‭ ‬بسعادتة‭ ‬فى‭ ‬سبيل‭ ‬سعادة‭ ‬المرأة‭ ‬التى‭ ‬يعشقها،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬القدر‭ ‬لم‭ ‬يُساعده‭ ‬فى‭ ‬الفوز‭ ‬بها،‭ ‬فإنه‭ ‬يستطيع‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬ذ‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إسعادها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬بذل‭ ‬جهده‭ ‬فى‭ ‬إلحاق‭ ‬ابنها‭ ‬ابافلب‭ ‬بمدرسة‭ ‬داخلية،‭ ‬كما‭ ‬ألحّ‭ ‬على‭ ‬أصدقائه‭ ‬الأثرياء‭ ‬كى‭ ‬يرسلوا‭ ‬لها‭ ‬معونات‭ ‬مالية،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬صديقه‭ ‬افرانغلب‭ ‬الذى‭ ‬كتب‭ ‬له‭ ‬يستحثه‭ ‬على‭ ‬مساعدتها‭:‬ب‭ ... ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ... ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬وحدها‭ ‬لئلا‭ ‬يعضها‭ ‬البؤس‭ ‬بأنيابه،‭ ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬ستتزوجه،‭ ‬فلا‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬توفر‭ ‬لها‭ ‬بعض‭ ‬المال‭ ‬الضروري،‭ ‬وفروغونوف‭ ‬أصبح‭ ‬الآن‭ ‬أحب‭ ‬إلىّ‭ ‬من‭ ‬أخي،‭ ‬فلا‭ ‬ضير‭ ‬عليّ‭ ‬إذا‭ ‬طلبت‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬المالب‭. ‬وقد‭ ‬سجّل‭ ‬فى‭ ‬روايته‭ ‬امذلون‭ ‬مهانونب‭ (‬1861‭) ‬موقفه‭ ‬المساند‭ ‬لماريا‭ ‬مع‭ ‬أنّها‭ ‬خذلته‭ ‬عبر‭ ‬شخصية‭ (‬ناتاشا‭) ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬عشيقها‭ ‬األيوشاب‭ (‬ابن‭ ‬الأمير‭ ‬فالكوفسكي‭) ‬الذى‭ ‬غرّر‭ ‬بها،‭ ‬وهى‭ ‬التى‭ ‬تركت‭ ‬عائلتها‭ ‬لتعيش‭ ‬معه،‭ ‬ثم‭ ‬هجرها‭ ‬إلى‭ ‬فتاة‭ ‬أخرى‭ (‬كاترينا‭). ‬وتقرر‭ ‬ناتاشا‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬العودة‭ ‬لأسرتها‭ ‬التى‭ ‬لعنتها،‭ ‬والانسحاب‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬أليوشا‭.‬

‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬القدر‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يكافئه‭ (‬أو‭ ‬يصالحه‭) ‬على‭ ‬دوره‭ ‬المخلص‭ ‬نحوها،‭ ‬فترقّى‭ ‬عام‭ ‬1856‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬الملازم،‭ ‬وزاد‭ ‬راتبه،‭ ‬وتحسّن‭ ‬مركزه‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وفى‭ ‬المقابل‭ ‬كان‭ ‬افروغونوفب‭ ‬يسوّف‭ ‬فى‭ ‬مواعيد‭ ‬الزواج،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬عادت‭ ‬إليه‭ ‬ماريا،‭ ‬وتزوجها‭ ‬فى‭ ‬فبراير‭ ‬1857،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تحبّه،‭ ‬وقد‭ ‬زاد‭ ‬نفورها‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬نوابات‭ ‬الصرع‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تناوبه‭ ‬أثناء‭ ‬شهر‭ ‬العسل،‭ ‬فكان‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬مغشيًّا‭ ‬عليه‭ ‬يضرب‭ ‬الهواء‭ ‬بيديه،‭ ‬وقد‭ ‬شَحُب‭ ‬لونه،‭ ‬وامتلأ‭ ‬فمه‭ ‬بالزبد‭ ‬الأصفر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تراه‭ ‬الزوجة‭ ‬الشّابة‭ ‬الحادّة‭ ‬المزاج‭ ‬المغرمة‭ ‬بالمظاهر‭ ‬والترف،‭ ‬فتفزع‭ ‬ويصيبها‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬زوجها‭.‬

‭ ‬أثناء‭ ‬زواجه‭ ‬بماريا،‭ ‬تعرَّف‭ ‬على‭ ‬فتاة‭ ‬جامعيّة‭ ‬اسمها‭ ‬اباولين‭ ‬سوسلوفياب،‭ ‬ابنة‭ ‬رجل‭ ‬غنى‭ ‬صاحب‭ ‬مصنع‭ (‬وإن‭ ‬كان‭ - ‬فى‭ ‬الأصل‭ - ‬قِنًّا‭ ‬من‭ ‬أقنان‭ ‬أسرة‭ ‬تحمل‭ ‬لقب‭ ‬الكونت‭ ‬شيريميتيف‭) ‬كانت‭ ‬الفتاة‭ ‬صبيّةً‭ ‬بارعةً‭ ‬فى‭ ‬الجمال،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مُتسلّطةَ‭ ‬الطبعِ،‭ ‬شديدةَ‭ ‬الحماس،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مُلحدةً‭ ‬تعتنِقُ‭ ‬المذهب‭ ‬الفوضوي،‭ ‬والعقيدة‭ ‬العدميّة،‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الحبِّ‭ ‬الحرّ‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬تقيُّده‭ ‬قيود‭. ‬تولَّهَتْ‭ ‬بدوستويفسكى‭ ‬وأرسلتْ‭ ‬له‭ ‬رسائل‭ ‬الإعجاب‭ ‬والحبّ،‭ ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬تعاونة‭ ‬فى‭ ‬المجلة‭ ‬التى‭ ‬يصدرها‭ ‬مع‭ ‬أخيه‭ ‬ميخائيل،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬طبيعته‭ ‬مع‭ ‬طبيعتها،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يقرّرُ‭ ‬السفر‭ ‬معها،‭ ‬لكن‭ ‬لظروف‭ ‬المجلة‭ ‬يتأخّر‭ ‬عنها،‭ ‬فتسافر‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬وهناك‭ ‬لا‭ ‬تضيع‭ ‬الوقت،‭ ‬فترتبط‭ ‬بشاب‭ ‬إسبانى‭ ‬غني،‭ ‬ويفشل‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬قطع‭ ‬علاقتها‭ ‬به،‭ ‬فيعود‭ ‬حسيرًا،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬الشَاب‭ ‬يتركها،‭ ‬فتعود‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬ويسافران‭ ‬معًا‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ثم‭ ‬جنيف‭ ‬وروما‭ ‬فنابولي،‭ ‬وتستمر‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬ستة‭ ‬أسابيع،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تنطفئ‭ ‬جذوة‭ ‬الحب‭ ‬بينهما‭ ‬وتتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬كُرهٍ‭ ‬مُتبادَلٍ،‭ ‬فيهجرها‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬الغَيْرة‭  ‬قد‭ ‬استبدتْ‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬اشتداد‭ ‬المرض‭ ‬عليها‭. ‬ولم‭ ‬ينسَ‭ ‬أن‭ ‬يُسجّل‭ ‬جوانبَ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬التى‭ ‬تركت‭ ‬أثرًا‭ ‬عميقًا‭ ‬عليه،‭ ‬ففى‭ ‬روايته‭ ‬االمقامرب‭ (‬1867‭)‬جعل‭ ‬بطلتها‭ ‬باسم‭ ‬باولين،‭ ‬كما‭ ‬أضفى‭ ‬بعض‭ ‬صفات‭ ‬باولين‭ ‬التى‭ ‬أرهقته‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬بطلاته‭ ‬الأخريات‭ ‬كـ‭ ‬ادونيتشكا‭ (‬أو‭ ‬دونيا‭)‬ب‭ ‬شقيقة‭ ‬اراسكولنيكوفب‭ ‬فى‭ ‬االجريمة‭ ‬والعقابب‭ (‬1866‭)‬،‭ ‬وجعل‭ ‬منها‭ ‬فتاة‭ ‬جميلة،‭ ‬تتسم‭ ‬بالطيش‭ ‬والحماقة،‭ ‬هربت‭ ‬للزواج‭ ‬من‭ ‬لوجين‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬رفض‭ ‬طلبه‭ - ‬من‭ ‬قبل‭ - ‬راسكولنيكوف،‭ ‬وكان‭ ‬راسكولنيكوف‭ ‬يحمل‭ ‬لها‭ ‬الضغينة‭ ‬والسخيمة‭ ‬فى‭ ‬قرارة‭ ‬قلبه،‭ ‬ويحقد‭ ‬عليها‭ ‬رغم‭ ‬إرادته‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬أمه‭ ‬فى‭ ‬الرواية،‭ ‬وكذلك‭ ‬عبر‭ ‬شخصية‭ ‬اكاتريناب‭ ‬فى‭ ‬االإخوة‭ ‬كارامازوفب‭ (‬1880‭) ‬وكانت‭ ‬فتاة‭ ‬مغرورة‭ ‬ودائما‭ ‬تتصرف‭ ‬كأنها‭ ‬امرأة‭ ‬مجتمع‭ ‬غنية،‭ ‬وكانت‭ ‬خطيبة‭ ‬ديميتري،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تعلم‭ ‬بحُبِّ‭ ‬إيفان‭ ‬لها،‭ ‬ولم‭ ‬تبادله‭ ‬الحبّ‭ ‬قطّ‭.‬

‭ ‬عشق‭ ‬عاملة‭ ‬الاختزال

التجربة‭ ‬الثالثة‭ ‬كانت‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬زوجته‭ ‬ماريا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬عامل‭ ‬اختزال‭ ‬أثناء‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬االمقامرب،‭ ‬فحدث‭ ‬التعارف‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬آنّا‭ ‬جويجوريـﭬنا‭ (‬1847-‭ ‬1918‭) ‬التى‭ ‬صارت‭ ‬زوجته‭ ‬وصاحبة‭ ‬الإسهامات‭ ‬فى‭ ‬حياته‭. ‬علاقة‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬بزوجته‭ ‬الثانية‭  ‬كما‭ ‬كشفت‭ ‬رسائله‭ ‬إليها،‭ ‬ومذكراتها‭ ‬عنه؛‭ ‬علاقة‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬فريد،‭ ‬فهى‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬امساعدتى‭ ‬المخلصة‭ ‬وسلوايب‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬مجرد‭ ‬زوجة‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ - ‬بالنسبة‭ ‬له‭ - ‬اشخصية‭ ‬ضرورية‭: ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنهاب‭. ‬يعترف‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬رسائله‭ ‬بمكانتها‭ ‬وحبُّه‭ ‬المتين‭ ‬لها،‭ ‬فهو‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنها‭ ‬يشعر‭ ‬ابالكآبة‭ ‬المؤلمةب‭ ‬قائلا‭: ‬اوها‭ ‬أنا‭ ‬مقتنع‭ ‬يا‭ ‬آنيّا‭ ‬أننى‭ ‬بعد‭ ‬اثنى‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬لا‭ ‬أحبك‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬مُتيمٌ‭ ‬بك‭ ‬وأنك‭ ‬سيدتى‭ ‬الوحيدةب،‭ ‬جمعهما‭ ‬فن‭ ‬الاخترال‭ ‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬تجيده‭.‬

كما‭ ‬يدين‭ ‬لها‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭ ‬بأنها‭ ‬خلّصته‭ ‬من‭ ‬سلطان‭ ‬المقامرة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حداه‭ ‬لأن‭ ‬يعترف‭ ‬لها‭ ‬اسأظل‭ ‬ما‭ ‬حييت‭ ‬أذكر‭ ‬لك‭ ‬هذا،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬سوف‭ ‬أدعو‭ ‬لكِ‭ ‬يا‭ ‬ملاكى‭ ‬بالتوفيق،‭ ‬كلا‭ ‬أنا‭ ‬الآن‭ ‬لكِ‭ ‬كليةً،‭ ‬لك‭ ‬تمامًا،أما‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬فكان‭ ‬نصفى‭ ‬ملكًا‭ ‬لهذا‭ ‬الوهم‭ ‬الملعونب‭.‬

٪‭ ‬٪‭ ‬٪‭ ‬

أما‭ ‬هى‭ ‬عند‭ ‬وفاته،‭ ‬فرفضت‭ ‬التسليم‭ ‬بموته،‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬رسائلها‭ ‬كانت‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬صعوبة‭ ‬تصديق‭ ‬فكرة‭ ‬الغياب‭ ‬فتقول‭ ‬لصديقتها‭ ‬صوفيا‭ ‬أفيركييفا‭ ‬اأعود‭ ‬بذكرياتى‭ ‬إلى‭ ‬السنوات‭ ‬السعيدة‭ ‬التى‭ ‬مضت،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أصدق‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تعود‭ ‬ثانية،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أسلّم‭ ‬بفكرة‭ ‬أننى‭ ‬لن‭ ‬آراه،‭ ‬ولن‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬صوته‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭...‬ب

بدأت‭ ‬علاقتها‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬حدث‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬بينهما‭ - ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬قرأت‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬أعماله‭ ‬كمذكرات‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬الأموات‭ ‬ذ‭ ‬قبل‭ ‬اللقاء‭ ‬الفعلى‭ ‬الذى‭ ‬حدث‭ ‬عندما‭ ‬تمّ‭ ‬ترشيحها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أستاذها‭ ‬أولخين‭ (‬مدرس‭ ‬الاختزال‭) ‬لتعمل‭ ‬معه‭ ‬كمساعدة‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬إحدى‭ ‬رواياته،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬حدث‭ ‬اللقاء‭  (‬فى‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬1866‭) ‬حتى‭ ‬تمّ‭ ‬التّقارُّب‭ ‬بينهما،‭ ‬وقد‭ ‬أثار‭ ‬إعجابها‭ ‬الشديد،‭ ‬الودّ‭ ‬الذى‭ ‬سَرى‭ ‬بينهما‭ ‬جعله‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬اصورة‭ ‬حزينة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬حياتهب‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬بدأت‭ ‬العمل‭ ‬معه،‭ ‬حتى‭ ‬شعرت‭ ‬بالحزن‭ ‬الثقيل،‭ ‬لمــّا‭ ‬رأت‭ ‬عليه‭ ‬الأديب‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬اإنسانٍ‭ ‬تعيسٍ‭ ‬هجرَهُ‭ ‬الجميعب‭ ‬وهذا‭ ‬الشعور‭ ‬كان‭ ‬بداية‭ ‬التعاطف‭ ‬العميق‭ ‬والأسى‭ ‬البالغ‭ ‬عليه‭. ‬

تسرد‭ ‬آنّا‭ ‬عن‭ ‬بداية‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما،‭ ‬وعن‭ ‬حيلته‭ ‬للارتباط‭ ‬بها،‭ ‬وعن‭ ‬الصّراحة‭ ‬التى‭ ‬أبداها‭ ‬فى‭ ‬الحديث‭ ‬معها،‭ ‬بتفاصيل‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬الشَّخصيّة‭ ‬وعن‭ ‬سجنه‭ ‬فى‭ ‬قلعة‭ ‬بتروبافلوسك،‭ ‬وعن‭ ‬خطبته‭ ‬للكاتبة‭ ‬آنَّا‭ ‬فاسيلفينا‭ ‬كورفين‭ - ‬كروكوفسكايا،‭ ‬وتراجعه‭ ‬عن‭ ‬الاستمرار‭ ‬فى‭ ‬الخطبة‭ ‬بسبب‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬أفكارهما‭. ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬عملها،‭ ‬طلبها‭ ‬للزواج،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬حفيظة‭ ‬أقاربه‭ (‬وأقاربها‭ ‬بسبب‭ ‬فارق‭ ‬السن‭ ‬بينهما‭) ‬وخصوصًا‭ ‬زوجة‭ ‬أخيه‭ ‬ميخائيل‭ ‬اميليناب،‭ ‬وابن‭ ‬زوجته‭ ‬الأولى‭ ‬ابافلب،‭ ‬فقد‭ ‬عاملاها‭ ‬بعداء‭ ‬شديد‭ ‬وكأنها‭ ‬عَدوّة‭ .‬

وقد‭ ‬اعترف‭ ‬الكثيرون‭ ‬من‭ ‬معاصرى‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬بالدور‭ ‬الذى‭ ‬لعبته‭ ‬آنّا‭ ‬فى‭ ‬حياته،‭ ‬وكيف‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬المخلِّص‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬وعذابات‭ ‬المرض،‭ ‬فـ‭ ‬م‭. ‬إلكسندروف‭ ‬وهو‭ ‬صديق‭ ‬لهما‭ ‬كان‭ ‬كثيرَ‭ ‬التردّد‭ ‬على‭ ‬بيتهما،‭ ‬يقول‭: ‬ااستطاعت‭ ‬آنّا‭ ‬جريجوريفنا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬أن‭ ‬تحيط‭ ‬صِحّة‭ ‬زوجها‭ ‬المعتلة‭ ‬بالرّعاية‭ ‬التّامةب،‭ ‬وأن‭ ‬تضعه‭ ‬حسب‭ ‬تعبيره‭ ‬اعلى‭ ‬أكف‭ ‬الرّاحة‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬طفلاًب،‭ ‬كما‭ ‬أظهرتْ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬اللّين‭ ‬والتساهل‭ ‬فى‭ ‬معاملتها‭ ‬إيّاه‭ ‬ممزوجًا‭ ‬باللباقة‭ ‬المهذبة،‭ ‬وأَستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭ ‬إن‭ ‬فيودور‭ ‬ميخايلوفيتش‭ ‬وأسرته،‭ ‬وعلى‭ ‬نفس‭ ‬الدرجة‭ ‬أيضًا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المعجبين‭ ‬به،‭ ‬مدينون‭ ‬جميعًا‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬عمره‭ ‬لهاب

‭ ‬الموضوع‭ ‬الأساسى‭ ‬لمذكرات‭ ‬آنّا‭ ‬جريجوريفنا‭ ‬امذكرات‭ ‬زوجة‭ ‬دوستويفسكيب‭ (‬ترجمها‭ ‬أنور‭ ‬محمد‭ ‬إبراهيم،‭ ‬المشروع‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة‭ ‬القاهرة،‭ ‬2015‭) ‬ليس‭ ‬الزوجة‭ ‬وإنما‭ ‬الزوج،‭ ‬فهى‭ ‬تأتى‭ ‬فى‭ ‬المرتبة‭ ‬الثانية‭ ‬بعد‭ ‬ارب‭ ‬الأسرة‭ ‬والزوج‭ ‬الذى‭ ‬يهيم‭ ‬عشقًا‭ ‬برفيقة‭ ‬عمره‭ ‬والأب‭ ‬الرؤومب،‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬الظل‭ ‬تقوم‭ ‬بدور‭ ‬الزوجة‭ ‬المتواضعة‭ ‬كاتبة‭ ‬السيرة،‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬أحزانه‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬أحزانها‭. ‬

أصل‭ ‬هذه‭ ‬المذكرات‭ ‬هو‭ ‬اليوميات‭ ‬الغامضة‭ ‬ذ‭ ‬والتى‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬نفسه‭ ‬ذ‭ ‬اأدفع‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬عندى‭ ‬لأعرف‭ ‬يا‭ ‬أنيتشكا‭ (‬لقبها‭ ‬عنده‭) ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬تعنيه‭ ‬بصنانيرك‭ ‬هذه‭ ‬التى‭ ‬تخطينها‭: ‬لعلك‭ ‬تشتميننيب،‭ ‬وأحاديث‭ ‬آنّا‭ ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬يومياتها‭ ‬إلى‭ ‬المذكرات،‭ ‬وإنما‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬الانتقاء،‭ ‬إزاحة‭ ‬ما‭ ‬رأته‭ ‬تافهًا،حافظت‭ ‬آنّا‭ ‬فى‭ ‬مذكراتها‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬مشاعرها،‭ ‬وما‭ ‬تُكنّه‭ ‬من‭ ‬حُبٍّ‭ ‬ونفور‭ ‬لبعض‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وهذا‭ ‬واضح‭ ‬فى‭ ‬عَلاقتها‭ ‬بابن‭ ‬زوجة‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬السابقة‭. ‬كما‭ ‬تسرد‭ ‬الكاتبة‭ ‬عن‭ ‬رحلاته،‭ ‬وعلاقاته‭ ‬بأصدقائه‭ ‬ومراسلاتهم،‭ ‬وعن‭ ‬اللّقاء‭ ‬الذى‭ ‬ظَلّ‭ ‬مرتقبًا‭ ‬بين‭ ‬تولستوى‭ ‬ودستويفسكي‭.‬

كانت‭ ‬آنّا‭ ‬رفيقة‭ ‬لدوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬مجده‭ ‬الأدبي،‭ ‬وأيضًا‭ ‬فى‭ ‬أزماته‭ ‬المالية‭ ‬وبؤسه‭ ‬بسبب‭ ‬إدمانه‭ ‬للقمار،‭ ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭ ‬المزريّة‭ ‬التى‭ ‬وصل‭ ‬إليها،‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬صمودها‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬بل‭ ‬ومؤازرتها‭ ‬له،‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬لأحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬قال‭ ‬فيها‭: ‬افقط‭ ‬لو‭ ‬استطعت‭ ‬يا‭ ‬صديقى‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬نعيش؟‭ ‬إن‭ ‬زوجتى‭ ‬تقوم‭ ‬برعاية‭ ‬الطفل‭... ‬وأنا‭ ‬معدم‭ ‬تمامًا‭. ‬فكيف‭ ‬بالله‭ ‬عليك‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬جوع‭ ‬مستمر،‭ ‬حتى‭ ‬لقد‭ ‬اضطررت‭ ‬إلى‭ ‬رهن‭ ‬سروالي‭... ‬الجوع‭ ‬والشيطان‭ ‬هما‭ ‬رفيقاى‭ ‬الدائمان‭... ‬أمّا‭ ‬زوجتى‭ ‬فهى‭ ‬ترعى‭ ‬رضيعها،‭ ‬ثمّ‭ ‬تضطر‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬لترهن‭ ‬معطفها‭ ‬الوحيد‭... ‬ولو‭ ‬أمكنك‭ ‬أن‭ ‬تُدرك‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬أعانيه‭ ‬لعرفت‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬أستطيع‭ ‬الكتابة‭ ‬فى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظروفب

عشق‭ ‬بلا‭ ‬حدود

يخصُّ‭ ‬دوستويفسكى‭ - ‬فى‭ ‬الرسائل‭ ‬التى‭ ‬جاءت‭ ‬فى‭ ‬جزأين‭ (‬وقد‭ ‬ترجمها‭ ‬خيرى‭ ‬الضامن،‭ ‬دار‭ ‬سؤال،‭ ‬2017‭) -‬آنّا‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الرسائل،‭ ‬ويخاطبها‭ ‬دومًا‭ ‬بعزيزتى‭ ‬وصديقتى‭ ‬المـُخلصة،‭ ‬وتارة‭ ‬بعزيزتى‭ ‬آنيتشكا،‭ ‬يرد‭ ‬أوّل‭ ‬مرة‭ ‬اسم‭ ‬آنّا‭ ‬جويجوريفنا‭ ‬فى‭ ‬رسائل‭ ‬دوستويفسكي،‭ ‬تحديدًا‭ ‬فى‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬نيكولاى‭ ‬لوبيموف،‭ ‬المحرّر‭ ‬التنفيذى‭ ‬لمجلة‭ ‬االبشير‭ ‬الروسيب،‭ ‬فى‭ ‬ملحوظة‭ ‬عقب‭ ‬الرسالة،‭ ‬حيث‭ ‬يخبره‭ ‬بأنه‭ ‬استأجر‭ ‬كاتبة‭ ‬اختزال‭ (‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُحدّد‭ ‬اسمها‭)‬،‭ ‬ثمّ‭ ‬ترد‭ ‬باسم‭ ‬اآنا‭ ‬سنيتكيناب‭ ‬قبل‭ ‬الزواج‭. ‬

محور‭ ‬الرسالة‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الثّقة‭ ‬التى‭ ‬أولاها‭ ‬لها،‭ ‬فيتحدث‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬خلافاته‭ ‬مع‭ ‬مجلة‭ ‬البشير‭ ‬الروسي،‭ ‬وكيف‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬توليف‭ ‬أوضاعه،‭ ‬ثمّ‭ ‬يعدها‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬الرسالة‭ ‬بما‭ ‬ينتظرهما‭ ‬من‭ ‬مصير‭ ‬فـبالنقود‭ ‬متوفرة،‭ ‬وسنعقد‭ ‬القران‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يمكنب‭ ‬وبعدها‭ ‬يخبرها‭ ‬بأنه‭ ‬سيلتحق‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬بطرسبورج،‭ ‬وينهى‭ ‬رسالته‭ ‬بتمنى‭ ‬أن‭ ‬يُعَانِقَهَا‭ ‬ويُقبِّلَهَا‭ ‬فكما‭ ‬يقول‭: ‬اأقبِّلُ‭ ‬يديك‭ ‬الرقيقتين‭ ‬وقدميك‭ ‬اللتين‭ ‬لا‭ ‬تسمحين‭ ‬لى‭ ‬بتقبيلهماب‭. ‬

‭ ‬ويقول‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬توقيعه‭ ‬الرسالة‭ ‬بالمخلص‭ ‬زوجك‭ ‬السّعيد‭: ‬ايستحيل‭ ‬أنْ‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الرّجل‭ ‬سعيدًا‭ ‬مع‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الزوجة‭! ‬أحبينى‭ ‬يا‭ ‬آنّا‭ ‬وأنا‭ ‬أحبك‭ ‬إلى‭ ‬الأبدب،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يوقّع‭ ‬بالمخلص‭ ‬لكِ‭ ‬بكل‭ ‬شغاف‭ ‬الفؤاد‭. ‬ومرات‭ ‬كثيرة‭ ‬يردد‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬التى‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬مُحبٍ‭ ‬وَلِهٍ،‭ ‬هكذا‭: ‬اأقبِّلُكِ‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬ذرة،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬قدميك‭ ‬الرائعتين‭. ‬أنتِ‭ ‬سيدتى‭ ‬الآمرة‭ ‬النّاهية،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أستحِقُكِ،‭ ‬لكنّنى‭ ‬أؤله‭ ‬زوجتى‭ ‬الحبيبة،‭ ‬ولن‭ ‬أتنازلَ‭ ‬عنها‭ ‬لأحد،‭ ‬ومع‭ ‬إننى‭ ‬لا‭ ‬أستحقهاب‭.‬

ثمّ‭ ‬تبدأ‭ ‬الرسائل‭ ‬اللاحقة‭ ‬فى‭ ‬إظهار‭ ‬الحميمية‭ ‬بينهما‭ ‬فيخاطبها‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬هامبروج‭ ‬بتاريخ‭ ‬5‭ ‬مايو‭ ‬1867ـ‭ ‬هكذا‭ :‬بمرحبًا‭ ‬يا‭ ‬ملاكى‭ ‬الحبيب،‭ ‬أعانِقُكِ‭ ‬وأُقَبِّلُك‭ ‬بحرارةٍ،‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬كنتُ‭ ‬أفكِّرُ‭ ‬فيكِب،‭ ‬ويكتب‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬وصوله‭ ‬مباشرة،‭ ‬مظهرًا‭ ‬افتقاده‭ ‬لها،‭ ‬وندمه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬تركها‭ ‬وحيدة‭. ‬ومن‭ ‬شدّة‭ ‬إظهار‭ ‬ولعه‭ ‬بها‭ ‬يقول‭: ‬اأدركتُ‭ ‬أنّنى‭ ‬لا‭ ‬أستحقُّ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الملاك‭ ‬المكتمل‭ ‬الشّفاف،‭ ‬الهادئ‭ ‬الوادع‭ ‬الرائع‭ ‬العفيف‭ ‬الذى‭ ‬يثق‭ ‬بيب،‭ ‬ويعتبرها‭ ‬عطيّة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬كى‭ ‬يُكفِّر‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬خطاياه‭ ‬الشّنيعة‭.‬

يتابعُ‭ ‬رسائله‭ ‬إليها‭ ‬واصفًا‭ ‬متاعبَ‭ ‬الرحلة‭ ‬والبرد‭ ‬الذى‭ ‬تعرّض‭ ‬له،‭ ‬ووحشته‭ ‬وافتقاده‭ ‬إليها‭. ‬كما‭ ‬يحكى‭ ‬لها‭ ‬مقامراته،‭ ‬وخسارته‭ ‬لبعض‭ ‬النقود،‭ ‬وفى‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ ‬بتاريخ‭ ‬9‭ ‬مايو‭ ‬يصف‭ ‬لها‭ ‬حزنه‭ ‬الشديد‭ ‬عندما‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬البريد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬رسالتها‭. ‬يقول‭ ‬له‭ ‬صراحة‭: ‬ا‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أتعذب‭ ‬يومًا،‭ ‬أبدًا،‭ ‬لهذا‭ ‬الحدّ‭ (‬يقصد‭ ‬عدم‭ ‬عثوره‭ ‬على‭ ‬رسالتها‭ ‬فى‭ ‬مكتب‭ ‬البريد‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬أرتعب‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬لى‭ ‬يوم‭ ‬أمسب‭. ‬ويطلب‭ ‬منها‭ ‬بعدما‭ ‬خَسِرَ‭ ‬نقوده‭ ‬فى‭ ‬المقامرة،‭ ‬أن‭ ‬تُرسل‭ ‬له‭ ‬النقود‭ ‬كى‭ ‬يعجّل‭ ‬بالرحيل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬كما‭ ‬أوصاها‭ ‬بألا‭ ‬تُطلع‭ ‬أحدًا‭ ‬على‭ ‬رسالته‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬المزرية‭ ‬عنه‭. ‬وفى‭ ‬نهاية‭ ‬الرسالة‭ ‬يعتذر‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬جرّاء‭ ‬تعذيبه‭ ‬لها،‭ ‬ويشرح‭ ‬لها‭ ‬معاناته‭ ‬مع‭ ‬عادة‭ ‬لعب‭ ‬الروليت،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬يجاهد‭ ‬كثيرًا‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬طاولة‭ ‬الروليت،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬مقاومته‭ ‬تنهار،‭ ‬ويفقد‭ ‬ما‭ ‬لديه‭.‬

‭ ‬يتكرّر‭ ‬الاعتذار‭ ‬والأسف،‭ ‬بل‭ ‬وطلب‭ ‬السّماح‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬االعذابات‭ ‬والانفعالات‭ ‬التى‭ ‬سبّبها‭ ‬لهاب،‭ ‬ثم‭ ‬كالعادة‭ ‬يذكر‭ ‬لها‭ ‬ندمه‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬أخذها‭ ‬معه،‭ ‬ويخبرها‭ ‬بأنه‭ ‬يخشى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬لأنه‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬مجهول،‭ ‬ويعوّل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬االرب‭ ‬سينقذنا‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬حالب‭. ‬كما‭ ‬تكشف‭ ‬الرسائل‭ ‬حالة‭ ‬الضعف‭ ‬التى‭ ‬يبدو‭ ‬عليها‭ ‬دوستويفسكي،‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬إدمانه‭ ‬للقمار،‭ ‬ورغبته‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬مقاومتها‭ ‬للعب،‭ ‬مع‭ ‬معرفته‭ ‬بالخسارة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬بسبب‭ ‬ضعفه‭ ‬أمام‭ ‬ناشريه،‭ ‬واستكانته‭ ‬لابتزازاتهم‭ ‬له،‭ ‬والأهم‭ ‬ضعفه‭ ‬أمام‭ ‬نفسه‭ ‬وخشيته‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين‭ ‬بمظهر‭ ‬السَّفيه‭ ‬الدنئ،‭ ‬لذا‭ ‬يُشدّد‭ ‬عليها‭ ‬بألا‭ ‬تطلع‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬أقاربها‭ ‬على‭ ‬رسائلهما‭. ‬وفى‭ ‬الرسائل‭ ‬يشتكى‭  ‬لنيكولاى‭ ‬ستراخوف‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الكتابة‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬الموعد،‭ ‬لذا‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حرًّا‭ ‬مثل‭ ‬اتولستوى‭ ‬وتورغينيف‭ ‬وغونتشاروفب‭ ‬غير‭ ‬مُقيّد‭ ‬بموعد‭ ‬مفروض‭ ‬عليه‭.‬

وعندما‭ ‬يعلم‭ ‬بمرضها‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬بروسا،‭ ‬يعتريه‭ ‬الحزن،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬يؤنِّبُها،‭ ‬ويشاطرها‭ ‬ألمها‭ ‬قائلاً‭: ‬افؤادى‭ ‬يتألم‭ ‬لك،‭ ‬فكّرتُ‭ ‬هنا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬معاناتك‭ ‬فى‭ ‬عملك‭...‬ب‭ ‬وفى‭ ‬غمرة‭ ‬هذا‭ ‬الحزن‭ ‬وذاك‭ ‬الألم،‭ ‬يعترف‭ ‬بحبّه‭ ‬لها‭ ‬قائلاً‭: ‬القد‭ ‬وقعتُ‭ ‬فى‭ ‬غرامك،‭ ‬يا‭ ‬آنيّا،‭ ‬لدرجة‭ ‬لم‭ ‬تبق‭ ‬فى‭ ‬ذهنى‭ ‬أية‭ ‬فكرة‭ ‬سواكب‭.‬

وفى‭ ‬رسالته‭ ‬إلى‭ ‬صوفيا‭ ‬إيفانوفا‭ ‬يأتى‭ ‬ذكر‭ ‬آنّا،‭ ‬وحياتهما‭ ‬معًا‭ ‬فيقول‭ ‬اأنا‭ ‬مع‭ ‬آنّا‭ ‬جريجوريفنا‭ ‬فى‭ ‬عزلة‭ ‬رهيبة‭ . ‬تظهر‭ ‬الرسائل‭ ‬ثقة‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬زوجته‭ ‬بل‭ ‬يعتبرها‭ ‬موضع‭ ‬ثقة‭ ‬مطلقة؛‭ ‬فيحكى‭ ‬لها‭ ‬تفاصيل‭ ‬كتاباته‭ ‬وعلاقاته‭ ‬بالناشرين،‭ ‬وأيضًا‭ ‬شعفه‭ ‬أمام‭ ‬المقامرة،‭ ‬وهروبه‭ ‬من‭ ‬الدائنين،‭ ‬وفى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬يظهر‭ ‬خوفه‭ ‬عليهم‭ (‬هى‭ ‬وأبناؤه‭) ‬وسعيه‭ ‬لتأمين‭ ‬حياة‭ ‬سعيدة‭ ‬قدر‭ ‬استطاعته‭ ‬لهم‭.‬

‭ ‬تغدو‭ ‬الرسائل‭ ‬إليها‭ ‬بمثابة‭ ‬يوميات‭ ‬له،‭ ‬يصف‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يصادفه‭ ‬فى‭ ‬يومه،‭ ‬فيرسل‭ ‬لها‭ ‬رسالة‭ ‬عندما‭ ‬يصل‭ ‬مدينة‭ ‬إيمس‭ ‬فى‭ ‬برلين،‭ ‬يبثها‭ ‬شعوره‭ ‬بالملل‭ ‬الذى‭ ‬تسرَّب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬المدينة،‭ ‬كما‭ ‬يعدها‭ ‬بأنه‭ ‬سوف‭ ‬يحكى‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬الطريفة‭ ‬التى‭ ‬حدثت‭ ‬فى‭ ‬الطريق،‭ ‬ويُقدّم‭ ‬لآنّا‭ ‬تقريرًا‭ ‬إنثروبولوجيا‭ ‬عن‭ ‬ألمانيا‭ ‬والألمان‭ ‬فهم‭: ‬يتميزون‭ ‬بالخشونة‭ ‬وقلة‭ ‬الأدب،‭ ‬والشوارع‭ ‬يوم‭ ‬الأحد‭ ‬تمتلئ‭ ‬بهم‭ ‬وهم‭ ‬فى‭ ‬ثياب‭ ‬العطل‭ ‬والأعياد،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬وصف‭ ‬لمشاهداته‭ ‬فى‭ ‬المدينة‭ ‬وجولاته،‭ ‬وزياراته‭ ‬المختلفة‭ ‬إلى‭ ‬المتاحف‭ ‬والمسارح‭. ‬والتغيّرات‭ ‬التى‭ ‬حلّت‭ ‬على‭ ‬سكانها‭ ‬بعدما‭ ‬صارت‭ ‬المدينة‭ ‬قبلة‭ ‬للأوروبيين،‭ ‬إذْ‭ ‬تمّ‭ ‬تحويل‭ ‬منازلهم‭ ‬إلى‭ ‬فنادق،‭ ‬دومًا‭ ‬يطلب‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬ختام‭ ‬رسائله‭ ‬بأن‭ ‬تهتم‭ ‬بنفسها،‭ ‬وتحافظ‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬المرض‭.‬

٪‭ ‬٪‭ ‬٪‭ ‬

هكذا‭ ‬عرضتِ‭ ‬الرّسائل‭ ‬لجانب‭ ‬آخر‭ ‬لدوستويفسكي؛‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬مُحبِّة،‭ ‬عطوفة،‭ ‬مُخلصة،‭ ‬يرى‭ ‬فى‭ ‬محبوبته‭ ‬خلاصه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأذى‭ ‬الذى‭ ‬لحق‭ ‬به،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ (‬أى‭ ‬الرسائل‭) ‬بمثابة‭ ‬يوميات‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬اجترّ‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يعانيه‭ ‬من‭ ‬مشاغل‭ ‬حياتية‭ ‬وإبداعيّة،‭ ‬وما‭ ‬يؤرّقه‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬المرض،‭ ‬وثِقَل‭ ‬الدّيون‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬ارتباطات‭ ‬مُجحفة‭ ‬مُتعلّقة‭ ‬بالنشر‭ ‬والكتابة،‭ ‬كما‭ ‬ألمحَتْ‭ ‬ذ‭ ‬فى‭ ‬جانبٍ‭ ‬مُهمٍّ‭ ‬منها‭ - ‬عمّا‭ ‬يتحلّى‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مسؤولية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬علاقاته‭ ‬بالآخرين،‭ ‬ومحاولته‭ ‬إسباغ‭ ‬الحَدْبِ‭ ‬والعطف‭ ‬عليهم،‭ ‬ومشاركتهم‭ ‬آلامهم،‭ ‬وظروفهم،‭ ‬وأيضًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬مسؤولياته‭ ‬ككاتب‭ ‬ملتزم‭ ‬أمام‭ ‬نفسه‭ ‬أولاً‭ ‬بالتعبير‭ ‬عن‭ ‬هموم‭ ‬الضعفاء‭ / ‬الفقراء‭ ‬منذ‭ ‬رائعته‭ ‬االفقراءب‭ (‬1946‭)‬،‭ ‬وثانيا‭ ‬أمام‭ ‬الناشرين‭ ‬بالوفاء‭ ‬بعهوده‭ ‬التى‭ ‬قطعها‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ - ‬مُجْبرًا‭ ‬بِسبب‭ ‬الفاقه‭ ‬والعوز‭ - ‬معهم،‭ ‬مهما‭ ‬كلّفه‭ ‬الأمر‭ ‬جَهدًا‭ ‬مضاعفًا‭ ‬يوصل‭ ‬فيه‭ ‬الليل‭ ‬بالنهار،‭ ‬أو‭ ‬كتابته‭ ‬لعمليْن‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬يعتبر‭ ‬ذ‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ - ‬ادون‭ ‬كيخوتهب‭ ‬أعظمَ‭ ‬كتابٍ‭ ‬بعد‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدّس‭. ‬فإنه‭ -‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الروائى‭ ‬عزت‭ ‬القمحاوى‭ (‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬دراويشه‭) - ‬وبعد‭ ‬هذه‭ ‬المسافة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬باطمئنان‭ ‬إن‭ ‬مائة‭ ‬وأربعين‭ ‬عامًا‭ ‬تفصلنا‭ ‬عن‭ ‬رحيله‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬مولد‭ ‬كاتب‭ ‬بحجمهب‭.‬وقد‭ ‬يبدو‭ ‬الجواب‭ ‬ماثلاً‭ ‬فى‭ ‬اعتقاد‭ ‬باختين‭ ‬أن‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬مثل‭ ‬بروميثيوس‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ ‬غوته‭ ‬الم‭ ‬يخلق‭ ‬عبدًا‭ ‬بلا‭ ‬صوت،‭ ‬بل‭ ‬أشخاصًا‭ ‬أحرارًا،‭ ‬يستطيعون‭ ‬أخذ‭ ‬مكان‭ ‬بجانب‭ ‬خالقهم،‭ ‬ومجادلته،‭ ‬بل‭ ‬والثورة‭ ‬عليه‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬عبر‭ ‬مكسيم‭ ‬غوركى‭ ‬عن‭ ‬سطوة‭ ‬الحبّ‭ ‬عليه‭ ‬قائلاً‭: ‬اكان‭ ‬قلبُ‭ ‬الكاتب‭ ‬الروسى‭ ‬ناقوسًا‭ ‬للحبّ،‭ ‬وصوتًا‭ ‬جبّارًا‭ ‬تسمعه‭ ‬كل‭ ‬القلوب‭ ‬الحيّة‭ ‬فى‭ ‬البلادب‭. ‬ومن‭ ‬شدّة‭ ‬ما‭ ‬عاناه‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحبّ‭ ‬واستبداد‭ ‬المحبوب،‭ ‬نراه‭ ‬يصوغ‭ ‬فلسفته‭ ‬عن‭ ‬الحبّ‭ ‬هكذا‭ : ‬افرحةُ‭ ‬الحبِّ‭ ‬عظيمة،‭ ‬لكنَّ‭ ‬المُعاناة‭ ‬فظيعة،‭ ‬والأفضَل‭ ‬للإنسَان‭ ‬أن‭ ‬لاَ‭ ‬يحبّ‭ ‬أبدا‭.‬

‭ ‬مرّ‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬بثلاث‭ ‬تجارب‭ ‬عشق؛‭ ‬الأولى‭ ‬كانت‭ ‬مع‭ ‬اماريا‭ ‬إيساييفاب،‭ ‬وهى‭ ‬كانت‭ ‬حُبّه‭ ‬الأوّل‭ ‬الكبير،‭ ‬امرأة‭ ‬مثقفة‭ ‬والدها‭ ‬ديميترى‭ ‬كونستان‭ ‬مدير‭ ‬الجمارك‭ ‬فى‭ ‬استراخان،‭ ‬كانت‭ ‬ماريا‭ ‬متزوجة‭ ‬من‭ ‬مُعلّم‭ ‬شاب‭ ‬اسمه‭ ‬اأكسندر‭ ‬إيفانوفيتش‭ ‬عيسايفب،‭ ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬كان‭ ‬مدمنًا‭ ‬للشراب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أوقع‭ ‬العائلة‭ ‬فى‭ ‬أزمات‭ ‬مالية‭ ‬كثيرة‭. ‬وبحكم‭ ‬وظيفته‭ ‬كان‭ ‬يتنقل‭ ‬من‭ ‬مكانٍ‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬استقرَّ‭ ‬الحال‭ ‬بهما‭ (‬هو‭ ‬وزوجته‭) ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬النائية،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬انعقدت‭ ‬أواصر‭ ‬الصداقة‭ ‬بين‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬والمعلّم‭ ‬الشّاب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬دوستويسفكى‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬الإعجاب‭ ‬بزوجته‭ ‬الشقيّة‭ ‬والجميلة،‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬يشعرُ‭ ‬نحوها‭ ‬بشفقةٍ‭ ‬كبيرةٍ،‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬بُدًّا‭ ‬إزاء‭ ‬حائل‭ ‬الزوج‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬احبًّا‭ ‬أخويًّاب،‭ ‬لكن‭ ‬الحبّ‭ ‬استبدّ‭ ‬به،‭ ‬وتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬هوى‭ ‬جامحٍ،‭ ‬وما‭ ‬إنْ‭ ‬انتقلَ‭ ‬الزوج‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬للعمل،‭ ‬حتى‭ ‬تمزّقَ‭ ‬قلبُ‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬للفرّاق‭. ‬فأرسل‭ ‬رسالة‭ ‬لها‭ (‬بتاريخ‭ ‬4‭ ‬يونيه‭ ‬1855‭) ‬يُخبرها‭ ‬بما‭ ‬اعتراه‭ ‬من‭ ‬وحشة‭ ‬وآلام‭ ‬بسبب‭ ‬فراقها،‭ ‬فبغيابها‭ - ‬حسب‭ ‬عبارته‭ ‬ذ‭ ‬اتَيتّمب،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬الوقت‭ - ‬دونها‭ - ‬اأشبه‭ ‬بالسّجن‭ ‬كالفترة‭ ‬التى‭ ‬اُعتقل‭ ‬فيها‭ ‬عام‭ ‬1849،‭ ‬وعزلوه‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عزيزب،‭ ‬ويسترسل‭ ‬فى‭ ‬رسالته‭ ‬ذاكرًا‭ ‬أشواقه‭ ‬وأحزانه‭ ‬لفارقها‭ ‬هكذا‭: ‬القد‭ ‬عشتُ‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬خارج‭ ‬المجتمع‭ (‬يقصد‭ ‬فترة‭ ‬السجن‭) ‬وحيدًا‭ ‬بلا‭ ‬صديق‭ ‬أُسِرُّ‭ ‬له‭ ‬شكاتي،‭ ‬ثمّ‭ ‬جئتى‭ ‬أنتِ‭ ‬فعاملتنى‭ ‬كفرد‭ ‬من‭ ‬أسرتك،‭ ‬ولكم‭ ‬آلمتك‭ ‬بطباعى‭ ‬الشّاذة،‭ ‬ولكنك‭ ‬أحببتينى‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬لقد‭ ‬أدركتُ‭ ‬ذلك‭ ‬وأحسسته،‭ ‬فلستُ‭ ‬بلا‭ ‬قلب‭ ‬يا‭ ‬عزيزتيب‭ .‬

‭ ‬الحب‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد

‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬بتاريخ‭ ‬14‭ ‬أغسطس‭ ‬1856،‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬ألكسندر‭ ‬فرانغيل،‭ ‬يخبره‭ ‬بوفاة‭ ‬زوج‭ ‬ماريا،‭ ‬ويحكى‭ ‬فيها‭ ‬عمّا‭ ‬ورده‭ ‬من‭ ‬رسالة‭ ‬ماريا،‭ ‬تشكوه‭ ‬آثار‭ ‬الوفاة‭ ‬عليها‭ ‬وعلى‭ ‬ابنها‭ ‬ابافلب،‭ ‬وتدهور‭ ‬صحتها‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬حيث‭ ‬فقدت‭ ‬طعم‭ ‬النوم‭ ‬وشهية‭ ‬الطعام،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬يُفصح‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬عمّا‭ ‬ينتابه‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬بسبب‭ ‬علاقته‭ ‬بهذه‭ ‬المرأة،‭ ‬وشعوره‭ ‬بالغيرة‭ ‬نحوها‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬هنا،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬آلامه‭ ‬أنه‭ ‬سمع‭ ‬أنها‭ ‬اوعدتْ‭ ‬شخصًا‭ ‬آخر‭ ‬فى‭ ‬كوزنيتسك‭ ‬بالزواج‭ ‬منهب‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬ويسأله‭ ‬اهل‭ ‬أبدأ‭ ‬بالكتابة‭ ‬إليها؟ب،‭ ‬كما‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يمدّ‭ ‬لها‭ ‬يد‭ ‬العون‭ ‬بأن‭ ‬يُرسل‭ ‬إليها‭ ‬مالاً‭ ‬لأنها‭ ‬فى‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دفعتها‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قبول‭ ‬الصدقة‭.‬

‭ ‬ومع‭ ‬بداية‭ ‬عام‭ ‬1856‭ ‬وتحديدًا‭ ‬فى‭ (‬13-‭ ‬18‭ ‬يناير‭) ‬يُرسل‭ ‬رسالة‭ ‬لأخيه‭ ‬ميخائيل،‭ ‬ويطلعه‭ ‬على‭ ‬ترفيعه‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬ملازم‭ ‬ثان،‭ ‬وانتظاره‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الخدمة‭ ‬المدنيّة،‭ ‬لسببين‭ ‬الأول،‭ ‬يتمثّل‭ ‬فى‭ ‬رغبته‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬والنشر،‭ ‬والثانى‭ ‬لأنه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬الأشغال‭ ‬الشاقة‭ ‬توجّه‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القرية،‭ ‬وفيها‭ ‬تعرف‭ ‬على‭ ‬عائلة‭ ‬اعيسايفب،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬أخيه‭ ‬أن‭ ‬يُسدى‭ ‬له‭ ‬خدمة‭ ‬بأن‭ ‬يبحث‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭ ‬لزوج‭ ‬ماريا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬المعاش‭ ‬وليس‭ ‬لديه‭ ‬مدخرات‭ ‬أخرى،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يُعدِّدَ‭ ‬صفات‭ ‬الزوج‭ ‬حيث‭ ‬وجده‭ ‬ارجلاً‭ ‬طيبَ‭ ‬القلب‭ ‬ذا‭ ‬شخصية‭ ‬متطوِّرة‭ ‬جدًّا،‭ [‬و‭] ‬كان‭ ‬متعّلمًا‭ ‬يفقه‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬تتكلم‭ ‬معه‭ ‬عنهب،‭ ‬يُعرج‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭ ‬ماريا‭ ‬ويصفها‭ ‬بأنها‭ ‬اشابة‭ ‬فى‭ ‬الثامنة‭ ‬والعشرين،‭ ‬مليحة‭ ‬ومثقفة‭ ‬جدًّا،‭ ‬وذكية‭ ‬للغاية،‭ ‬وطيبة‭ ‬ورقيقة‭ ‬وأنيقة‭ ‬بقلب‭ ‬رائع‭ ‬كبيرب‭ ‬إلخ‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬تُعْلى‭ ‬من‭ ‬قدرها،‭ ‬وعلاوة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬فهى‭ ‬امرحة‭ ‬ولعوبب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جذبه‭ ‬إليها،‭ ‬فلم‭ ‬يغادر‭ ‬منزلهم‭ ‬تقريبًا،‭ ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬تأثره‭ ‬يُجزم‭ ‬قائلاً‭ ‬اأنا‭ ‬لم‭ ‬أصادف‭ ‬امرأة‭ ‬مثلها‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬ندرب،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يسرد‭ ‬رحلتهم‭ ‬وانتقالهم‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬عمل‭ ‬الزوج‭ ‬الجديد،‭ ‬يُطالعه‭ ‬بأمر‭ ‬وفاة‭ ‬زوجها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يستحثّه‭ - ‬هو‭ ‬الآخر‭ - ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يدخر‭ ‬جهدًا‭ ‬لمساعدتها‭. ‬لكن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬الرسالة‭ ‬أنه‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬نيته‭ ‬بأنه‭ ‬اسيتزوجها‭ ‬حالما‭ ‬تتبدل‭ ‬ظروفه‭ ‬إلى‭ ‬الأحسنب‭ ‬فهو‭ ‬يحبُّها‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬بدونها‭. ‬

‭ ‬ثمّ‭ ‬يعود‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬بتاريخ‭ ‬22‭ ‬ديسمبر‭ ‬1856،‭ ‬إلى‭ ‬أخيه‭ ‬ميخائيل،‭ ‬ويُكرِّر‭ ‬له‭ ‬تفاصيل‭ ‬علاقته‭ ‬بماريا‭ ‬ومدى‭ ‬حبّه‭ ‬لها،‭ ‬ويُعلن‭ ‬صراحة‭ ‬حبّه‭ ‬ورغبته‭ ‬فى‭ ‬الزواج‭ ‬منها‭ ‬هكذا‭: ‬اإننى‭ ‬أحبُّ‭ ‬امرأة‭ ‬اسمها‭ ‬ماريا‭ ‬ديمتريفينا‭ ‬عيسايفاب،‭ ‬وفيها‭ (‬أى‭ ‬الرسالة‭) ‬يحكى‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬ظروفها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تعرَّفَ‭ ‬عليها‭ ‬وما‭ ‬شَعَرَ‭ ‬به،‭ ‬ورحيلها‭ ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬ثمّ‭ ‬وفاته،‭ ‬وما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬رعاية‭ ‬لها‭ ‬ولابنها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أوقعه‭ ‬فى‭ ‬ضائقة‭ ‬أخرى‭ ‬وديون‭ ‬تُضاف‭ ‬إلى‭ ‬ديونه،‭ ‬ثمّ‭ ‬مراسلته‭ ‬لأسرتها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتكّرر‭ ‬فى‭ ‬رسالته‭ ‬إلى‭ ‬أكسندر‭ ‬فرانغيل،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يزيد‭ ‬عليها‭ ‬ذكر‭ ‬مخاوفه‭ ‬من‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالرجل‭ ‬الذى‭ ‬تعرفت‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬كوزنيتسك،‭ ‬لكن‭ ‬مبعث‭ ‬حيرته‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬كصديق‭ ‬رأيه‭ ‬فى‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرجل،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬رسائلها‭ ‬السابقة‭ ‬كانت‭ ‬ثمة‭ ‬تأكيدات‭ ‬على‭ ‬الحب‭. ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬يأسه‭ ‬حرّر‭ ‬لها‭ ‬رسالة‭ ‬مُفعمة‭ ‬باليأس‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬اإننى‭ ‬سأموت‭ ‬إذا‭ ‬حرمت‭ ‬منهاب،‭ ‬وتارة‭ ‬ثانية‭ ‬يقول‭ ‬لصديقه‭ ‬اسأهلكُ‭ ‬إذا‭ ‬فقدتها،‭ ‬ملاكي،‭ ‬إما‭ ‬الجنون‭ ‬وإما‭ ‬إرطيشب‭ (‬ويقصد‭ ‬الغرق‭ ‬فى‭ ‬نهر‭ ‬سيبيريا‭). ‬وبعد‭ ‬تعب‭ ‬وقنوط‭ ‬يقطع‭ ‬بأنّه‭ ‬امن‭ ‬الأفضل‭ ‬للإنسان‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬أبدًا‭.‬

‭ ‬يلعب‭ ‬القدر‭ ‬لعبته،‭ ‬فيموت‭ ‬الزوج،‭ ‬ويخال‭ ‬المحبّ‭ ‬أنّ‭ ‬الفرصة‭ ‬قد‭ ‬جاءته،‭ ‬لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬بالمرصاد،‭ ‬فقد‭ ‬التقتِ‭ ‬الأرملة‭ ‬الشّابّة‭ ‬بمدرس‭ ‬وسيم‭ ‬يُدعى‭ ‬افروغونوفب‭ ‬أسلمتْهُ‭ ‬زمام‭ ‬قلبها،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬بلغ‭ ‬الخبر‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬حتى‭ ‬رحل‭ ‬للقائها،‭ ‬وظل‭ ‬يبكى‭ ‬ويتوسّل‭ ‬حتى‭ ‬نجح‭ ‬فى‭ ‬إثارة‭ ‬شفقتها،‭ ‬وانتزع‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شفتيها‭ ‬وعدًا‭ ‬بألّا‭ ‬تتزوج‭ ‬غريمه‭ ‬الوسيم‭.‬

٪‭ ‬٪‭ ‬٪‭ ‬

‭ ‬ولما‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬اسيميبالا‭ ‬تينسكب‭ ‬كتب‭ ‬لها‭ ‬خطابًا‭ ‬مُسهبًا‭ ‬يشرح‭ ‬فيه‭ ‬موقفه‭ ‬ويستجديها‭ ‬لكيلا‭ ‬تهجره‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬جاءه‭ ‬الرد‭ ‬شتائم‭ ‬بذيئة‭ ‬من‭ ‬منافسه‭ ‬افروغونوفب‭ ‬وأدرك‭ ‬عندها‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬الهزيمة،‭ ‬ويعيش‭ ‬دور‭ ‬المضحّى‭ ‬بسعادتة‭ ‬فى‭ ‬سبيل‭ ‬سعادة‭ ‬المرأة‭ ‬التى‭ ‬يعشقها،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬القدر‭ ‬لم‭ ‬يُساعده‭ ‬فى‭ ‬الفوز‭ ‬بها،‭ ‬فإنه‭ ‬يستطيع‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬ذ‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إسعادها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬بذل‭ ‬جهده‭ ‬فى‭ ‬إلحاق‭ ‬ابنها‭ ‬ابافلب‭ ‬بمدرسة‭ ‬داخلية،‭ ‬كما‭ ‬ألحّ‭ ‬على‭ ‬أصدقائه‭ ‬الأثرياء‭ ‬كى‭ ‬يرسلوا‭ ‬لها‭ ‬معونات‭ ‬مالية،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬صديقه‭ ‬افرانغلب‭ ‬الذى‭ ‬كتب‭ ‬له‭ ‬يستحثه‭ ‬على‭ ‬مساعدتها‭:‬ب‭ ... ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ... ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬وحدها‭ ‬لئلا‭ ‬يعضها‭ ‬البؤس‭ ‬بأنيابه،‭ ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬ستتزوجه،‭ ‬فلا‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬توفر‭ ‬لها‭ ‬بعض‭ ‬المال‭ ‬الضروري،‭ ‬وفروغونوف‭ ‬أصبح‭ ‬الآن‭ ‬أحب‭ ‬إلىّ‭ ‬من‭ ‬أخي،‭ ‬فلا‭ ‬ضير‭ ‬عليّ‭ ‬إذا‭ ‬طلبت‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬المالب‭. ‬وقد‭ ‬سجّل‭ ‬فى‭ ‬روايته‭ ‬امذلون‭ ‬مهانونب‭ (‬1861‭) ‬موقفه‭ ‬المساند‭ ‬لماريا‭ ‬مع‭ ‬أنّها‭ ‬خذلته‭ ‬عبر‭ ‬شخصية‭ (‬ناتاشا‭) ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬عشيقها‭ ‬األيوشاب‭ (‬ابن‭ ‬الأمير‭ ‬فالكوفسكي‭) ‬الذى‭ ‬غرّر‭ ‬بها،‭ ‬وهى‭ ‬التى‭ ‬تركت‭ ‬عائلتها‭ ‬لتعيش‭ ‬معه،‭ ‬ثم‭ ‬هجرها‭ ‬إلى‭ ‬فتاة‭ ‬أخرى‭ (‬كاترينا‭). ‬وتقرر‭ ‬ناتاشا‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬العودة‭ ‬لأسرتها‭ ‬التى‭ ‬لعنتها،‭ ‬والانسحاب‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬أليوشا‭.‬

‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬القدر‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يكافئه‭ (‬أو‭ ‬يصالحه‭) ‬على‭ ‬دوره‭ ‬المخلص‭ ‬نحوها،‭ ‬فترقّى‭ ‬عام‭ ‬1856‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬الملازم،‭ ‬وزاد‭ ‬راتبه،‭ ‬وتحسّن‭ ‬مركزه‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وفى‭ ‬المقابل‭ ‬كان‭ ‬افروغونوفب‭ ‬يسوّف‭ ‬فى‭ ‬مواعيد‭ ‬الزواج،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬عادت‭ ‬إليه‭ ‬ماريا،‭ ‬وتزوجها‭ ‬فى‭ ‬فبراير‭ ‬1857،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تحبّه،‭ ‬وقد‭ ‬زاد‭ ‬نفورها‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬نوابات‭ ‬الصرع‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تناوبه‭ ‬أثناء‭ ‬شهر‭ ‬العسل،‭ ‬فكان‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬مغشيًّا‭ ‬عليه‭ ‬يضرب‭ ‬الهواء‭ ‬بيديه،‭ ‬وقد‭ ‬شَحُب‭ ‬لونه،‭ ‬وامتلأ‭ ‬فمه‭ ‬بالزبد‭ ‬الأصفر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تراه‭ ‬الزوجة‭ ‬الشّابة‭ ‬الحادّة‭ ‬المزاج‭ ‬المغرمة‭ ‬بالمظاهر‭ ‬والترف،‭ ‬فتفزع‭ ‬ويصيبها‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬زوجها‭.‬

‭ ‬أثناء‭ ‬زواجه‭ ‬بماريا،‭ ‬تعرَّف‭ ‬على‭ ‬فتاة‭ ‬جامعيّة‭ ‬اسمها‭ ‬اباولين‭ ‬سوسلوفياب،‭ ‬ابنة‭ ‬رجل‭ ‬غنى‭ ‬صاحب‭ ‬مصنع‭ (‬وإن‭ ‬كان‭ - ‬فى‭ ‬الأصل‭ - ‬قِنًّا‭ ‬من‭ ‬أقنان‭ ‬أسرة‭ ‬تحمل‭ ‬لقب‭ ‬الكونت‭ ‬شيريميتيف‭) ‬كانت‭ ‬الفتاة‭ ‬صبيّةً‭ ‬بارعةً‭ ‬فى‭ ‬الجمال،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مُتسلّطةَ‭ ‬الطبعِ،‭ ‬شديدةَ‭ ‬الحماس،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مُلحدةً‭ ‬تعتنِقُ‭ ‬المذهب‭ ‬الفوضوي،‭ ‬والعقيدة‭ ‬العدميّة،‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الحبِّ‭ ‬الحرّ‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬تقيُّده‭ ‬قيود‭. ‬تولَّهَتْ‭ ‬بدوستويفسكى‭ ‬وأرسلتْ‭ ‬له‭ ‬رسائل‭ ‬الإعجاب‭ ‬والحبّ،‭ ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬تعاونة‭ ‬فى‭ ‬المجلة‭ ‬التى‭ ‬يصدرها‭ ‬مع‭ ‬أخيه‭ ‬ميخائيل،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬طبيعته‭ ‬مع‭ ‬طبيعتها،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يقرّرُ‭ ‬السفر‭ ‬معها،‭ ‬لكن‭ ‬لظروف‭ ‬المجلة‭ ‬يتأخّر‭ ‬عنها،‭ ‬فتسافر‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬وهناك‭ ‬لا‭ ‬تضيع‭ ‬الوقت،‭ ‬فترتبط‭ ‬بشاب‭ ‬إسبانى‭ ‬غني،‭ ‬ويفشل‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬قطع‭ ‬علاقتها‭ ‬به،‭ ‬فيعود‭ ‬حسيرًا،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬الشَاب‭ ‬يتركها،‭ ‬فتعود‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬ويسافران‭ ‬معًا‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ثم‭ ‬جنيف‭ ‬وروما‭ ‬فنابولي،‭ ‬وتستمر‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬ستة‭ ‬أسابيع،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تنطفئ‭ ‬جذوة‭ ‬الحب‭ ‬بينهما‭ ‬وتتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬كُرهٍ‭ ‬مُتبادَلٍ،‭ ‬فيهجرها‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬الغَيْرة‭  ‬قد‭ ‬استبدتْ‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬اشتداد‭ ‬المرض‭ ‬عليها‭. ‬ولم‭ ‬ينسَ‭ ‬أن‭ ‬يُسجّل‭ ‬جوانبَ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬التى‭ ‬تركت‭ ‬أثرًا‭ ‬عميقًا‭ ‬عليه،‭ ‬ففى‭ ‬روايته‭ ‬االمقامرب‭ (‬1867‭)‬جعل‭ ‬بطلتها‭ ‬باسم‭ ‬باولين،‭ ‬كما‭ ‬أضفى‭ ‬بعض‭ ‬صفات‭ ‬باولين‭ ‬التى‭ ‬أرهقته‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬بطلاته‭ ‬الأخريات‭ ‬كـ‭ ‬ادونيتشكا‭ (‬أو‭ ‬دونيا‭)‬ب‭ ‬شقيقة‭ ‬اراسكولنيكوفب‭ ‬فى‭ ‬االجريمة‭ ‬والعقابب‭ (‬1866‭)‬،‭ ‬وجعل‭ ‬منها‭ ‬فتاة‭ ‬جميلة،‭ ‬تتسم‭ ‬بالطيش‭ ‬والحماقة،‭ ‬هربت‭ ‬للزواج‭ ‬من‭ ‬لوجين‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬رفض‭ ‬طلبه‭ - ‬من‭ ‬قبل‭ - ‬راسكولنيكوف،‭ ‬وكان‭ ‬راسكولنيكوف‭ ‬يحمل‭ ‬لها‭ ‬الضغينة‭ ‬والسخيمة‭ ‬فى‭ ‬قرارة‭ ‬قلبه،‭ ‬ويحقد‭ ‬عليها‭ ‬رغم‭ ‬إرادته‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬أمه‭ ‬فى‭ ‬الرواية،‭ ‬وكذلك‭ ‬عبر‭ ‬شخصية‭ ‬اكاتريناب‭ ‬فى‭ ‬االإخوة‭ ‬كارامازوفب‭ (‬1880‭) ‬وكانت‭ ‬فتاة‭ ‬مغرورة‭ ‬ودائما‭ ‬تتصرف‭ ‬كأنها‭ ‬امرأة‭ ‬مجتمع‭ ‬غنية،‭ ‬وكانت‭ ‬خطيبة‭ ‬ديميتري،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تعلم‭ ‬بحُبِّ‭ ‬إيفان‭ ‬لها،‭ ‬ولم‭ ‬تبادله‭ ‬الحبّ‭ ‬قطّ‭.‬

‭ ‬عشق‭ ‬عاملة‭ ‬الاختزال

التجربة‭ ‬الثالثة‭ ‬كانت‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬زوجته‭ ‬ماريا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬عامل‭ ‬اختزال‭ ‬أثناء‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬االمقامرب،‭ ‬فحدث‭ ‬التعارف‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬آنّا‭ ‬جويجوريـﭬنا‭ (‬1847-‭ ‬1918‭) ‬التى‭ ‬صارت‭ ‬زوجته‭ ‬وصاحبة‭ ‬الإسهامات‭ ‬فى‭ ‬حياته‭. ‬علاقة‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬بزوجته‭ ‬الثانية‭  ‬كما‭ ‬كشفت‭ ‬رسائله‭ ‬إليها،‭ ‬ومذكراتها‭ ‬عنه؛‭ ‬علاقة‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬فريد،‭ ‬فهى‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬امساعدتى‭ ‬المخلصة‭ ‬وسلوايب‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬مجرد‭ ‬زوجة‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ - ‬بالنسبة‭ ‬له‭ - ‬اشخصية‭ ‬ضرورية‭: ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنهاب‭. ‬يعترف‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬رسائله‭ ‬بمكانتها‭ ‬وحبُّه‭ ‬المتين‭ ‬لها،‭ ‬فهو‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنها‭ ‬يشعر‭ ‬ابالكآبة‭ ‬المؤلمةب‭ ‬قائلا‭: ‬اوها‭ ‬أنا‭ ‬مقتنع‭ ‬يا‭ ‬آنيّا‭ ‬أننى‭ ‬بعد‭ ‬اثنى‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬لا‭ ‬أحبك‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬مُتيمٌ‭ ‬بك‭ ‬وأنك‭ ‬سيدتى‭ ‬الوحيدةب،‭ ‬جمعهما‭ ‬فن‭ ‬الاخترال‭ ‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬تجيده‭.‬

كما‭ ‬يدين‭ ‬لها‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭ ‬بأنها‭ ‬خلّصته‭ ‬من‭ ‬سلطان‭ ‬المقامرة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حداه‭ ‬لأن‭ ‬يعترف‭ ‬لها‭ ‬اسأظل‭ ‬ما‭ ‬حييت‭ ‬أذكر‭ ‬لك‭ ‬هذا،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬سوف‭ ‬أدعو‭ ‬لكِ‭ ‬يا‭ ‬ملاكى‭ ‬بالتوفيق،‭ ‬كلا‭ ‬أنا‭ ‬الآن‭ ‬لكِ‭ ‬كليةً،‭ ‬لك‭ ‬تمامًا،أما‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬فكان‭ ‬نصفى‭ ‬ملكًا‭ ‬لهذا‭ ‬الوهم‭ ‬الملعونب‭.‬

٪‭ ‬٪‭ ‬٪‭ ‬

أما‭ ‬هى‭ ‬عند‭ ‬وفاته،‭ ‬فرفضت‭ ‬التسليم‭ ‬بموته،‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬رسائلها‭ ‬كانت‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬صعوبة‭ ‬تصديق‭ ‬فكرة‭ ‬الغياب‭ ‬فتقول‭ ‬لصديقتها‭ ‬صوفيا‭ ‬أفيركييفا‭ ‬اأعود‭ ‬بذكرياتى‭ ‬إلى‭ ‬السنوات‭ ‬السعيدة‭ ‬التى‭ ‬مضت،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أصدق‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تعود‭ ‬ثانية،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أسلّم‭ ‬بفكرة‭ ‬أننى‭ ‬لن‭ ‬آراه،‭ ‬ولن‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬صوته‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭...‬ب

بدأت‭ ‬علاقتها‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬حدث‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬بينهما‭ - ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬قرأت‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬أعماله‭ ‬كمذكرات‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬الأموات‭ ‬ذ‭ ‬قبل‭ ‬اللقاء‭ ‬الفعلى‭ ‬الذى‭ ‬حدث‭ ‬عندما‭ ‬تمّ‭ ‬ترشيحها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أستاذها‭ ‬أولخين‭ (‬مدرس‭ ‬الاختزال‭) ‬لتعمل‭ ‬معه‭ ‬كمساعدة‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬إحدى‭ ‬رواياته،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬حدث‭ ‬اللقاء‭  (‬فى‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬1866‭) ‬حتى‭ ‬تمّ‭ ‬التّقارُّب‭ ‬بينهما،‭ ‬وقد‭ ‬أثار‭ ‬إعجابها‭ ‬الشديد،‭ ‬الودّ‭ ‬الذى‭ ‬سَرى‭ ‬بينهما‭ ‬جعله‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬اصورة‭ ‬حزينة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬حياتهب‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬بدأت‭ ‬العمل‭ ‬معه،‭ ‬حتى‭ ‬شعرت‭ ‬بالحزن‭ ‬الثقيل،‭ ‬لمــّا‭ ‬رأت‭ ‬عليه‭ ‬الأديب‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬اإنسانٍ‭ ‬تعيسٍ‭ ‬هجرَهُ‭ ‬الجميعب‭ ‬وهذا‭ ‬الشعور‭ ‬كان‭ ‬بداية‭ ‬التعاطف‭ ‬العميق‭ ‬والأسى‭ ‬البالغ‭ ‬عليه‭. ‬

تسرد‭ ‬آنّا‭ ‬عن‭ ‬بداية‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما،‭ ‬وعن‭ ‬حيلته‭ ‬للارتباط‭ ‬بها،‭ ‬وعن‭ ‬الصّراحة‭ ‬التى‭ ‬أبداها‭ ‬فى‭ ‬الحديث‭ ‬معها،‭ ‬بتفاصيل‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬الشَّخصيّة‭ ‬وعن‭ ‬سجنه‭ ‬فى‭ ‬قلعة‭ ‬بتروبافلوسك،‭ ‬وعن‭ ‬خطبته‭ ‬للكاتبة‭ ‬آنَّا‭ ‬فاسيلفينا‭ ‬كورفين‭ - ‬كروكوفسكايا،‭ ‬وتراجعه‭ ‬عن‭ ‬الاستمرار‭ ‬فى‭ ‬الخطبة‭ ‬بسبب‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬أفكارهما‭. ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬عملها،‭ ‬طلبها‭ ‬للزواج،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬حفيظة‭ ‬أقاربه‭ (‬وأقاربها‭ ‬بسبب‭ ‬فارق‭ ‬السن‭ ‬بينهما‭) ‬وخصوصًا‭ ‬زوجة‭ ‬أخيه‭ ‬ميخائيل‭ ‬اميليناب،‭ ‬وابن‭ ‬زوجته‭ ‬الأولى‭ ‬ابافلب،‭ ‬فقد‭ ‬عاملاها‭ ‬بعداء‭ ‬شديد‭ ‬وكأنها‭ ‬عَدوّة‭ .‬

وقد‭ ‬اعترف‭ ‬الكثيرون‭ ‬من‭ ‬معاصرى‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬بالدور‭ ‬الذى‭ ‬لعبته‭ ‬آنّا‭ ‬فى‭ ‬حياته،‭ ‬وكيف‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬المخلِّص‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬وعذابات‭ ‬المرض،‭ ‬فـ‭ ‬م‭. ‬إلكسندروف‭ ‬وهو‭ ‬صديق‭ ‬لهما‭ ‬كان‭ ‬كثيرَ‭ ‬التردّد‭ ‬على‭ ‬بيتهما،‭ ‬يقول‭: ‬ااستطاعت‭ ‬آنّا‭ ‬جريجوريفنا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬أن‭ ‬تحيط‭ ‬صِحّة‭ ‬زوجها‭ ‬المعتلة‭ ‬بالرّعاية‭ ‬التّامةب،‭ ‬وأن‭ ‬تضعه‭ ‬حسب‭ ‬تعبيره‭ ‬اعلى‭ ‬أكف‭ ‬الرّاحة‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬طفلاًب،‭ ‬كما‭ ‬أظهرتْ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬اللّين‭ ‬والتساهل‭ ‬فى‭ ‬معاملتها‭ ‬إيّاه‭ ‬ممزوجًا‭ ‬باللباقة‭ ‬المهذبة،‭ ‬وأَستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭ ‬إن‭ ‬فيودور‭ ‬ميخايلوفيتش‭ ‬وأسرته،‭ ‬وعلى‭ ‬نفس‭ ‬الدرجة‭ ‬أيضًا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المعجبين‭ ‬به،‭ ‬مدينون‭ ‬جميعًا‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬عمره‭ ‬لهاب

‭ ‬الموضوع‭ ‬الأساسى‭ ‬لمذكرات‭ ‬آنّا‭ ‬جريجوريفنا‭ ‬امذكرات‭ ‬زوجة‭ ‬دوستويفسكيب‭ (‬ترجمها‭ ‬أنور‭ ‬محمد‭ ‬إبراهيم،‭ ‬المشروع‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة‭ ‬القاهرة،‭ ‬2015‭) ‬ليس‭ ‬الزوجة‭ ‬وإنما‭ ‬الزوج،‭ ‬فهى‭ ‬تأتى‭ ‬فى‭ ‬المرتبة‭ ‬الثانية‭ ‬بعد‭ ‬ارب‭ ‬الأسرة‭ ‬والزوج‭ ‬الذى‭ ‬يهيم‭ ‬عشقًا‭ ‬برفيقة‭ ‬عمره‭ ‬والأب‭ ‬الرؤومب،‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬الظل‭ ‬تقوم‭ ‬بدور‭ ‬الزوجة‭ ‬المتواضعة‭ ‬كاتبة‭ ‬السيرة،‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬أحزانه‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬أحزانها‭. ‬

أصل‭ ‬هذه‭ ‬المذكرات‭ ‬هو‭ ‬اليوميات‭ ‬الغامضة‭ ‬ذ‭ ‬والتى‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬نفسه‭ ‬ذ‭ ‬اأدفع‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬عندى‭ ‬لأعرف‭ ‬يا‭ ‬أنيتشكا‭ (‬لقبها‭ ‬عنده‭) ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬تعنيه‭ ‬بصنانيرك‭ ‬هذه‭ ‬التى‭ ‬تخطينها‭: ‬لعلك‭ ‬تشتميننيب،‭ ‬وأحاديث‭ ‬آنّا‭ ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬يومياتها‭ ‬إلى‭ ‬المذكرات،‭ ‬وإنما‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬الانتقاء،‭ ‬إزاحة‭ ‬ما‭ ‬رأته‭ ‬تافهًا،حافظت‭ ‬آنّا‭ ‬فى‭ ‬مذكراتها‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬مشاعرها،‭ ‬وما‭ ‬تُكنّه‭ ‬من‭ ‬حُبٍّ‭ ‬ونفور‭ ‬لبعض‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وهذا‭ ‬واضح‭ ‬فى‭ ‬عَلاقتها‭ ‬بابن‭ ‬زوجة‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬السابقة‭. ‬كما‭ ‬تسرد‭ ‬الكاتبة‭ ‬عن‭ ‬رحلاته،‭ ‬وعلاقاته‭ ‬بأصدقائه‭ ‬ومراسلاتهم،‭ ‬وعن‭ ‬اللّقاء‭ ‬الذى‭ ‬ظَلّ‭ ‬مرتقبًا‭ ‬بين‭ ‬تولستوى‭ ‬ودستويفسكي‭.‬

كانت‭ ‬آنّا‭ ‬رفيقة‭ ‬لدوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬مجده‭ ‬الأدبي،‭ ‬وأيضًا‭ ‬فى‭ ‬أزماته‭ ‬المالية‭ ‬وبؤسه‭ ‬بسبب‭ ‬إدمانه‭ ‬للقمار،‭ ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭ ‬المزريّة‭ ‬التى‭ ‬وصل‭ ‬إليها،‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬صمودها‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬بل‭ ‬ومؤازرتها‭ ‬له،‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬لأحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬قال‭ ‬فيها‭: ‬افقط‭ ‬لو‭ ‬استطعت‭ ‬يا‭ ‬صديقى‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬نعيش؟‭ ‬إن‭ ‬زوجتى‭ ‬تقوم‭ ‬برعاية‭ ‬الطفل‭... ‬وأنا‭ ‬معدم‭ ‬تمامًا‭. ‬فكيف‭ ‬بالله‭ ‬عليك‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬جوع‭ ‬مستمر،‭ ‬حتى‭ ‬لقد‭ ‬اضطررت‭ ‬إلى‭ ‬رهن‭ ‬سروالي‭... ‬الجوع‭ ‬والشيطان‭ ‬هما‭ ‬رفيقاى‭ ‬الدائمان‭... ‬أمّا‭ ‬زوجتى‭ ‬فهى‭ ‬ترعى‭ ‬رضيعها،‭ ‬ثمّ‭ ‬تضطر‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬لترهن‭ ‬معطفها‭ ‬الوحيد‭... ‬ولو‭ ‬أمكنك‭ ‬أن‭ ‬تُدرك‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬أعانيه‭ ‬لعرفت‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬أستطيع‭ ‬الكتابة‭ ‬فى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظروفب

عشق‭ ‬بلا‭ ‬حدود

يخصُّ‭ ‬دوستويفسكى‭ - ‬فى‭ ‬الرسائل‭ ‬التى‭ ‬جاءت‭ ‬فى‭ ‬جزأين‭ (‬وقد‭ ‬ترجمها‭ ‬خيرى‭ ‬الضامن،‭ ‬دار‭ ‬سؤال،‭ ‬2017‭) -‬آنّا‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الرسائل،‭ ‬ويخاطبها‭ ‬دومًا‭ ‬بعزيزتى‭ ‬وصديقتى‭ ‬المـُخلصة،‭ ‬وتارة‭ ‬بعزيزتى‭ ‬آنيتشكا،‭ ‬يرد‭ ‬أوّل‭ ‬مرة‭ ‬اسم‭ ‬آنّا‭ ‬جويجوريفنا‭ ‬فى‭ ‬رسائل‭ ‬دوستويفسكي،‭ ‬تحديدًا‭ ‬فى‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬نيكولاى‭ ‬لوبيموف،‭ ‬المحرّر‭ ‬التنفيذى‭ ‬لمجلة‭ ‬االبشير‭ ‬الروسيب،‭ ‬فى‭ ‬ملحوظة‭ ‬عقب‭ ‬الرسالة،‭ ‬حيث‭ ‬يخبره‭ ‬بأنه‭ ‬استأجر‭ ‬كاتبة‭ ‬اختزال‭ (‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُحدّد‭ ‬اسمها‭)‬،‭ ‬ثمّ‭ ‬ترد‭ ‬باسم‭ ‬اآنا‭ ‬سنيتكيناب‭ ‬قبل‭ ‬الزواج‭. ‬

محور‭ ‬الرسالة‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الثّقة‭ ‬التى‭ ‬أولاها‭ ‬لها،‭ ‬فيتحدث‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬خلافاته‭ ‬مع‭ ‬مجلة‭ ‬البشير‭ ‬الروسي،‭ ‬وكيف‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬توليف‭ ‬أوضاعه،‭ ‬ثمّ‭ ‬يعدها‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬الرسالة‭ ‬بما‭ ‬ينتظرهما‭ ‬من‭ ‬مصير‭ ‬فـبالنقود‭ ‬متوفرة،‭ ‬وسنعقد‭ ‬القران‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يمكنب‭ ‬وبعدها‭ ‬يخبرها‭ ‬بأنه‭ ‬سيلتحق‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬بطرسبورج،‭ ‬وينهى‭ ‬رسالته‭ ‬بتمنى‭ ‬أن‭ ‬يُعَانِقَهَا‭ ‬ويُقبِّلَهَا‭ ‬فكما‭ ‬يقول‭: ‬اأقبِّلُ‭ ‬يديك‭ ‬الرقيقتين‭ ‬وقدميك‭ ‬اللتين‭ ‬لا‭ ‬تسمحين‭ ‬لى‭ ‬بتقبيلهماب‭. ‬

‭ ‬ويقول‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬توقيعه‭ ‬الرسالة‭ ‬بالمخلص‭ ‬زوجك‭ ‬السّعيد‭: ‬ايستحيل‭ ‬أنْ‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الرّجل‭ ‬سعيدًا‭ ‬مع‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الزوجة‭! ‬أحبينى‭ ‬يا‭ ‬آنّا‭ ‬وأنا‭ ‬أحبك‭ ‬إلى‭ ‬الأبدب،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يوقّع‭ ‬بالمخلص‭ ‬لكِ‭ ‬بكل‭ ‬شغاف‭ ‬الفؤاد‭. ‬ومرات‭ ‬كثيرة‭ ‬يردد‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬التى‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬مُحبٍ‭ ‬وَلِهٍ،‭ ‬هكذا‭: ‬اأقبِّلُكِ‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬ذرة،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬قدميك‭ ‬الرائعتين‭. ‬أنتِ‭ ‬سيدتى‭ ‬الآمرة‭ ‬النّاهية،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أستحِقُكِ،‭ ‬لكنّنى‭ ‬أؤله‭ ‬زوجتى‭ ‬الحبيبة،‭ ‬ولن‭ ‬أتنازلَ‭ ‬عنها‭ ‬لأحد،‭ ‬ومع‭ ‬إننى‭ ‬لا‭ ‬أستحقهاب‭.‬

ثمّ‭ ‬تبدأ‭ ‬الرسائل‭ ‬اللاحقة‭ ‬فى‭ ‬إظهار‭ ‬الحميمية‭ ‬بينهما‭ ‬فيخاطبها‭ ‬فى‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬هامبروج‭ ‬بتاريخ‭ ‬5‭ ‬مايو‭ ‬1867ـ‭ ‬هكذا‭ :‬بمرحبًا‭ ‬يا‭ ‬ملاكى‭ ‬الحبيب،‭ ‬أعانِقُكِ‭ ‬وأُقَبِّلُك‭ ‬بحرارةٍ،‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬كنتُ‭ ‬أفكِّرُ‭ ‬فيكِب،‭ ‬ويكتب‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬وصوله‭ ‬مباشرة،‭ ‬مظهرًا‭ ‬افتقاده‭ ‬لها،‭ ‬وندمه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬تركها‭ ‬وحيدة‭. ‬ومن‭ ‬شدّة‭ ‬إظهار‭ ‬ولعه‭ ‬بها‭ ‬يقول‭: ‬اأدركتُ‭ ‬أنّنى‭ ‬لا‭ ‬أستحقُّ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الملاك‭ ‬المكتمل‭ ‬الشّفاف،‭ ‬الهادئ‭ ‬الوادع‭ ‬الرائع‭ ‬العفيف‭ ‬الذى‭ ‬يثق‭ ‬بيب،‭ ‬ويعتبرها‭ ‬عطيّة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬كى‭ ‬يُكفِّر‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬خطاياه‭ ‬الشّنيعة‭.‬

يتابعُ‭ ‬رسائله‭ ‬إليها‭ ‬واصفًا‭ ‬متاعبَ‭ ‬الرحلة‭ ‬والبرد‭ ‬الذى‭ ‬تعرّض‭ ‬له،‭ ‬ووحشته‭ ‬وافتقاده‭ ‬إليها‭. ‬كما‭ ‬يحكى‭ ‬لها‭ ‬مقامراته،‭ ‬وخسارته‭ ‬لبعض‭ ‬النقود،‭ ‬وفى‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ ‬بتاريخ‭ ‬9‭ ‬مايو‭ ‬يصف‭ ‬لها‭ ‬حزنه‭ ‬الشديد‭ ‬عندما‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬البريد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬رسالتها‭. ‬يقول‭ ‬له‭ ‬صراحة‭: ‬ا‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أتعذب‭ ‬يومًا،‭ ‬أبدًا،‭ ‬لهذا‭ ‬الحدّ‭ (‬يقصد‭ ‬عدم‭ ‬عثوره‭ ‬على‭ ‬رسالتها‭ ‬فى‭ ‬مكتب‭ ‬البريد‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬أرتعب‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬لى‭ ‬يوم‭ ‬أمسب‭. ‬ويطلب‭ ‬منها‭ ‬بعدما‭ ‬خَسِرَ‭ ‬نقوده‭ ‬فى‭ ‬المقامرة،‭ ‬أن‭ ‬تُرسل‭ ‬له‭ ‬النقود‭ ‬كى‭ ‬يعجّل‭ ‬بالرحيل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬كما‭ ‬أوصاها‭ ‬بألا‭ ‬تُطلع‭ ‬أحدًا‭ ‬على‭ ‬رسالته‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة‭ ‬المزرية‭ ‬عنه‭. ‬وفى‭ ‬نهاية‭ ‬الرسالة‭ ‬يعتذر‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬جرّاء‭ ‬تعذيبه‭ ‬لها،‭ ‬ويشرح‭ ‬لها‭ ‬معاناته‭ ‬مع‭ ‬عادة‭ ‬لعب‭ ‬الروليت،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬يجاهد‭ ‬كثيرًا‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬طاولة‭ ‬الروليت،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬مقاومته‭ ‬تنهار،‭ ‬ويفقد‭ ‬ما‭ ‬لديه‭.‬

‭ ‬يتكرّر‭ ‬الاعتذار‭ ‬والأسف،‭ ‬بل‭ ‬وطلب‭ ‬السّماح‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬االعذابات‭ ‬والانفعالات‭ ‬التى‭ ‬سبّبها‭ ‬لهاب،‭ ‬ثم‭ ‬كالعادة‭ ‬يذكر‭ ‬لها‭ ‬ندمه‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬أخذها‭ ‬معه،‭ ‬ويخبرها‭ ‬بأنه‭ ‬يخشى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬لأنه‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬مجهول،‭ ‬ويعوّل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬االرب‭ ‬سينقذنا‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬حالب‭. ‬كما‭ ‬تكشف‭ ‬الرسائل‭ ‬حالة‭ ‬الضعف‭ ‬التى‭ ‬يبدو‭ ‬عليها‭ ‬دوستويفسكي،‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬إدمانه‭ ‬للقمار،‭ ‬ورغبته‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬مقاومتها‭ ‬للعب،‭ ‬مع‭ ‬معرفته‭ ‬بالخسارة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬بسبب‭ ‬ضعفه‭ ‬أمام‭ ‬ناشريه،‭ ‬واستكانته‭ ‬لابتزازاتهم‭ ‬له،‭ ‬والأهم‭ ‬ضعفه‭ ‬أمام‭ ‬نفسه‭ ‬وخشيته‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين‭ ‬بمظهر‭ ‬السَّفيه‭ ‬الدنئ،‭ ‬لذا‭ ‬يُشدّد‭ ‬عليها‭ ‬بألا‭ ‬تطلع‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬أقاربها‭ ‬على‭ ‬رسائلهما‭. ‬وفى‭ ‬الرسائل‭ ‬يشتكى‭  ‬لنيكولاى‭ ‬ستراخوف‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الكتابة‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬الموعد،‭ ‬لذا‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حرًّا‭ ‬مثل‭ ‬اتولستوى‭ ‬وتورغينيف‭ ‬وغونتشاروفب‭ ‬غير‭ ‬مُقيّد‭ ‬بموعد‭ ‬مفروض‭ ‬عليه‭.‬

وعندما‭ ‬يعلم‭ ‬بمرضها‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬بروسا،‭ ‬يعتريه‭ ‬الحزن،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬يؤنِّبُها،‭ ‬ويشاطرها‭ ‬ألمها‭ ‬قائلاً‭: ‬افؤادى‭ ‬يتألم‭ ‬لك،‭ ‬فكّرتُ‭ ‬هنا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬معاناتك‭ ‬فى‭ ‬عملك‭...‬ب‭ ‬وفى‭ ‬غمرة‭ ‬هذا‭ ‬الحزن‭ ‬وذاك‭ ‬الألم،‭ ‬يعترف‭ ‬بحبّه‭ ‬لها‭ ‬قائلاً‭: ‬القد‭ ‬وقعتُ‭ ‬فى‭ ‬غرامك،‭ ‬يا‭ ‬آنيّا،‭ ‬لدرجة‭ ‬لم‭ ‬تبق‭ ‬فى‭ ‬ذهنى‭ ‬أية‭ ‬فكرة‭ ‬سواكب‭.‬

وفى‭ ‬رسالته‭ ‬إلى‭ ‬صوفيا‭ ‬إيفانوفا‭ ‬يأتى‭ ‬ذكر‭ ‬آنّا،‭ ‬وحياتهما‭ ‬معًا‭ ‬فيقول‭ ‬اأنا‭ ‬مع‭ ‬آنّا‭ ‬جريجوريفنا‭ ‬فى‭ ‬عزلة‭ ‬رهيبة‭ . ‬تظهر‭ ‬الرسائل‭ ‬ثقة‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬فى‭ ‬زوجته‭ ‬بل‭ ‬يعتبرها‭ ‬موضع‭ ‬ثقة‭ ‬مطلقة؛‭ ‬فيحكى‭ ‬لها‭ ‬تفاصيل‭ ‬كتاباته‭ ‬وعلاقاته‭ ‬بالناشرين،‭ ‬وأيضًا‭ ‬شعفه‭ ‬أمام‭ ‬المقامرة،‭ ‬وهروبه‭ ‬من‭ ‬الدائنين،‭ ‬وفى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬يظهر‭ ‬خوفه‭ ‬عليهم‭ (‬هى‭ ‬وأبناؤه‭) ‬وسعيه‭ ‬لتأمين‭ ‬حياة‭ ‬سعيدة‭ ‬قدر‭ ‬استطاعته‭ ‬لهم‭.‬

‭ ‬تغدو‭ ‬الرسائل‭ ‬إليها‭ ‬بمثابة‭ ‬يوميات‭ ‬له،‭ ‬يصف‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يصادفه‭ ‬فى‭ ‬يومه،‭ ‬فيرسل‭ ‬لها‭ ‬رسالة‭ ‬عندما‭ ‬يصل‭ ‬مدينة‭ ‬إيمس‭ ‬فى‭ ‬برلين،‭ ‬يبثها‭ ‬شعوره‭ ‬بالملل‭ ‬الذى‭ ‬تسرَّب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬المدينة،‭ ‬كما‭ ‬يعدها‭ ‬بأنه‭ ‬سوف‭ ‬يحكى‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬الطريفة‭ ‬التى‭ ‬حدثت‭ ‬فى‭ ‬الطريق،‭ ‬ويُقدّم‭ ‬لآنّا‭ ‬تقريرًا‭ ‬إنثروبولوجيا‭ ‬عن‭ ‬ألمانيا‭ ‬والألمان‭ ‬فهم‭: ‬يتميزون‭ ‬بالخشونة‭ ‬وقلة‭ ‬الأدب،‭ ‬والشوارع‭ ‬يوم‭ ‬الأحد‭ ‬تمتلئ‭ ‬بهم‭ ‬وهم‭ ‬فى‭ ‬ثياب‭ ‬العطل‭ ‬والأعياد،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬وصف‭ ‬لمشاهداته‭ ‬فى‭ ‬المدينة‭ ‬وجولاته،‭ ‬وزياراته‭ ‬المختلفة‭ ‬إلى‭ ‬المتاحف‭ ‬والمسارح‭. ‬والتغيّرات‭ ‬التى‭ ‬حلّت‭ ‬على‭ ‬سكانها‭ ‬بعدما‭ ‬صارت‭ ‬المدينة‭ ‬قبلة‭ ‬للأوروبيين،‭ ‬إذْ‭ ‬تمّ‭ ‬تحويل‭ ‬منازلهم‭ ‬إلى‭ ‬فنادق،‭ ‬دومًا‭ ‬يطلب‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬ختام‭ ‬رسائله‭ ‬بأن‭ ‬تهتم‭ ‬بنفسها،‭ ‬وتحافظ‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬المرض‭.‬

٪‭ ‬٪‭ ‬٪‭ ‬

هكذا‭ ‬عرضتِ‭ ‬الرّسائل‭ ‬لجانب‭ ‬آخر‭ ‬لدوستويفسكي؛‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬مُحبِّة،‭ ‬عطوفة،‭ ‬مُخلصة،‭ ‬يرى‭ ‬فى‭ ‬محبوبته‭ ‬خلاصه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأذى‭ ‬الذى‭ ‬لحق‭ ‬به،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ (‬أى‭ ‬الرسائل‭) ‬بمثابة‭ ‬يوميات‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬اجترّ‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يعانيه‭ ‬من‭ ‬مشاغل‭ ‬حياتية‭ ‬وإبداعيّة،‭ ‬وما‭ ‬يؤرّقه‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬المرض،‭ ‬وثِقَل‭ ‬الدّيون‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬ارتباطات‭ ‬مُجحفة‭ ‬مُتعلّقة‭ ‬بالنشر‭ ‬والكتابة،‭ ‬كما‭ ‬ألمحَتْ‭ ‬ذ‭ ‬فى‭ ‬جانبٍ‭ ‬مُهمٍّ‭ ‬منها‭ - ‬عمّا‭ ‬يتحلّى‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مسؤولية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬علاقاته‭ ‬بالآخرين،‭ ‬ومحاولته‭ ‬إسباغ‭ ‬الحَدْبِ‭ ‬والعطف‭ ‬عليهم،‭ ‬ومشاركتهم‭ ‬آلامهم،‭ ‬وظروفهم،‭ ‬وأيضًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬مسؤولياته‭ ‬ككاتب‭ ‬ملتزم‭ ‬أمام‭ ‬نفسه‭ ‬أولاً‭ ‬بالتعبير‭ ‬عن‭ ‬هموم‭ ‬الضعفاء‭ / ‬الفقراء‭ ‬منذ‭ ‬رائعته‭ ‬االفقراءب‭ (‬1946‭)‬،‭ ‬وثانيا‭ ‬أمام‭ ‬الناشرين‭ ‬بالوفاء‭ ‬بعهوده‭ ‬التى‭ ‬قطعها‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ - ‬مُجْبرًا‭ ‬بِسبب‭ ‬الفاقه‭ ‬والعوز‭ - ‬معهم،‭ ‬مهما‭ ‬كلّفه‭ ‬الأمر‭ ‬جَهدًا‭ ‬مضاعفًا‭ ‬يوصل‭ ‬فيه‭ ‬الليل‭ ‬بالنهار،‭ ‬أو‭ ‬كتابته‭ ‬لعمليْن‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬يعتبر‭ ‬ذ‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ - ‬ادون‭ ‬كيخوتهب‭ ‬أعظمَ‭ ‬كتابٍ‭ ‬بعد‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدّس‭. ‬فإنه‭ -‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الروائى‭ ‬عزت‭ ‬القمحاوى‭ (‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬دراويشه‭) - ‬وبعد‭ ‬هذه‭ ‬المسافة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬باطمئنان‭ ‬إن‭ ‬مائة‭ ‬وأربعين‭ ‬عامًا‭ ‬تفصلنا‭ ‬عن‭ ‬رحيله‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬مولد‭ ‬كاتب‭ ‬بحجمهب‭.‬وقد‭ ‬يبدو‭ ‬الجواب‭ ‬ماثلاً‭ ‬فى‭ ‬اعتقاد‭ ‬باختين‭ ‬أن‭ ‬دوستويفسكى‭ ‬مثل‭ ‬بروميثيوس‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ ‬غوته‭ ‬الم‭ ‬يخلق‭ ‬عبدًا‭ ‬بلا‭ ‬صوت،‭ ‬بل‭ ‬أشخاصًا‭ ‬أحرارًا،‭ ‬يستطيعون‭ ‬أخذ‭ ‬مكان‭ ‬بجانب‭ ‬خالقهم،‭ ‬ومجادلته،‭ ‬بل‭ ‬والثورة‭ ‬عليه‭.‬