كتب : ممدوح فرّاج النابى
تمرُّ هذه السنة (نوفمبر / تشرين الثانى 2021) الذكرى الثانية بعد المائة على ميلاد الروائى الروسى افيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (1821 ذ 1881)، وقد جعلت اليونسكو من هذه المناسبة احتفالاً كبيرًا على مستوى العالم بالرجل، تقديرًا لمكانته الأدبيّة؛ إذْ غاصَ بإبداعه فى أعماق النفس البشرية، كاشفًا عن تناقضاتها، فصوّر ما يعتريها من ضَعْفٍ وهشاشةٍ وقوّةٍ، وأحلام وإخفاق، وصراع بين الخير والشر، وكذلك ما يشملها من صفات متناقضة تجمع بين مثالية قد تعلو بالإنسان (أبطاله وبطلاته) إلى مرتبة الفضيلة كالأمير ميشكين فى االأبلهب، وأخرى تنزع عنه (أى الإنسان) القداسة ويكون مثالاً للشر وربيبًا للشيطان، كما تمثّل فى شخصيتى المرابية العجوز والعاهرة سونيا فى االجريمة والعقابب وغيرهما من شخوص تُجسّد الشّر وكأنها مجبولة عليه، فهم حسب - نابوكوف فى كتاب (محاضرات عن الأدب الروسي) - ايستمرون فى إراقة دم المسيح؛ ليصِلوا إليه.
وعلى الرغم من معاناته فى حياته الشخصية بسبب العوامل التى تكاثرت عليه كالفاقة والعَوَز والمرض وقبلهم الحبس فى سجن سيبيريا لمدة خمس سنوات، إلا أن رسائله (ترجمها خيرى الضامن فى جزأين صدرا عن دار سؤال) كشفت عن جوانب متعددة فى شخصية الرجل، ومن هذه الجوانب المتعددة، سأقف عند جانب العاشق الوله فقط، فرسائله تفيض محبّةً وتولُّهًا بالمحبوب، بل تكشف عن شخص ضغيف أمام سطوة الحب، يتذلّل ويتضرّع للمحبوب بل يُهدِّد بالانتحار إذا لم يقبل به الطرف الثاني.
وجه آخر تكشفه رسائله:دوستويفسكىالعاشق
وقد عبر مكسيم غوركى عن سطوة الحبّ عليه قائلاً: اكان قلبُ الكاتب الروسى ناقوسًا للحبّ، وصوتًا جبّارًا تسمعه كل القلوب الحيّة فى البلادب. ومن شدّة ما عاناه من ويلات الحبّ واستبداد المحبوب، نراه يصوغ فلسفته عن الحبّ هكذا : افرحةُ الحبِّ عظيمة، لكنَّ المُعاناة فظيعة، والأفضَل للإنسَان أن لاَ يحبّ أبدا.ب
مرّ دوستويفسكى فى حياته بثلاث تجارب عشق؛ الأولى كانت مع اماريا إيساييفاب، وهى كانت حُبّه الأوّل الكبير، امرأة مثقفة والدها ديميترى كونستان مدير الجمارك فى استراخان، كانت ماريا متزوجة من مُعلّم شاب اسمه اأكسندر إيفانوفيتش عيسايفب، ومع الأسف كان مدمنًا للشراب، وهو ما أوقع العائلة فى أزمات مالية كثيرة. وبحكم وظيفته كان يتنقل من مكانٍ إلى آخر، حتى استقرَّ الحال بهما (هو وزوجته) فى هذه المدينة النائية، وسرعان ما انعقدت أواصر الصداقة بين دوستويفسكى والمعلّم الشّاب، إلا أن دوستويسفكى تحوّل إلى الإعجاب بزوجته الشقيّة والجميلة، إذْ كان يشعرُ نحوها بشفقةٍ كبيرةٍ، ولم يجد بُدًّا إزاء حائل الزوج إلا أن تكون له احبًّا أخويًّاب، لكن الحبّ استبدّ به، وتحوّل إلى هوى جامحٍ، وما إنْ انتقلَ الزوج إلى مكان آخر للعمل، حتى تمزّقَ قلبُ دوستويفسكى للفرّاق. فأرسل رسالة لها (بتاريخ 4 يونيه 1855) يُخبرها بما اعتراه من وحشة وآلام بسبب فراقها، فبغيابها - حسب عبارته ذ اتَيتّمب، بل صار الوقت - دونها - اأشبه بالسّجن كالفترة التى اُعتقل فيها عام 1849، وعزلوه عن كل ما هو عزيزب، ويسترسل فى رسالته ذاكرًا أشواقه وأحزانه لفارقها هكذا: القد عشتُ خمس سنوات خارج المجتمع (يقصد فترة السجن) وحيدًا بلا صديق أُسِرُّ له شكاتي، ثمّ جئتى أنتِ فعاملتنى كفرد من أسرتك، ولكم آلمتك بطباعى الشّاذة، ولكنك أحببتينى مع ذلك، لقد أدركتُ ذلك وأحسسته، فلستُ بلا قلب يا عزيزتيب .
الحب من طرف واحد
فى رسالة بتاريخ 14 أغسطس 1856، إلى صديقه ألكسندر فرانغيل، يخبره بوفاة زوج ماريا، ويحكى فيها عمّا ورده من رسالة ماريا، تشكوه آثار الوفاة عليها وعلى ابنها ابافلب، وتدهور صحتها بعد وفاته حيث فقدت طعم النوم وشهية الطعام، لكنه لا ينسى أن يُفصح له فيها عمّا ينتابه من آلام بسبب علاقته بهذه المرأة، وشعوره بالغيرة نحوها عندما كانت هنا، لكن ما زاد من آلامه أنه سمع أنها اوعدتْ شخصًا آخر فى كوزنيتسك بالزواج منهب ولكنه لا يعرف ماذا يفعل ويسأله اهل أبدأ بالكتابة إليها؟ب، كما يطلب منه أن يمدّ لها يد العون بأن يُرسل إليها مالاً لأنها فى أمس الحاجة بعد أن دفعتها الحاجة إلى قبول الصدقة.
ومع بداية عام 1856 وتحديدًا فى (13- 18 يناير) يُرسل رسالة لأخيه ميخائيل، ويطلعه على ترفيعه إلى رتبة ملازم ثان، وانتظاره الانتقال إلى الخدمة المدنيّة، لسببين الأول، يتمثّل فى رغبته فى الكتابة والنشر، والثانى لأنه بعد أن خرج من الأشغال الشاقة توجّه إلى هذه القرية، وفيها تعرف على عائلة اعيسايفب، وكان من قبل طلب من أخيه أن يُسدى له خدمة بأن يبحث له عن عمل آخر لزوج ماريا، فقد كان يعيش على المعاش وليس لديه مدخرات أخرى، وبعد أن يُعدِّدَ صفات الزوج حيث وجده ارجلاً طيبَ القلب ذا شخصية متطوِّرة جدًّا، [و] كان متعّلمًا يفقه كلّ ما تتكلم معه عنهب، يُعرج بعدها إلى زوجته ماريا ويصفها بأنها اشابة فى الثامنة والعشرين، مليحة ومثقفة جدًّا، وذكية للغاية، وطيبة ورقيقة وأنيقة بقلب رائع كبيرب إلخ من صفات تُعْلى من قدرها، وعلاوة على هذا فهى امرحة ولعوبب، وهو ما جذبه إليها، فلم يغادر منزلهم تقريبًا، ومن شدة تأثره يُجزم قائلاً اأنا لم أصادف امرأة مثلها إلا فيما ندرب، وبعد أن يسرد رحلتهم وانتقالهم إلى مكان عمل الزوج الجديد، يُطالعه بأمر وفاة زوجها، ومن ثمّ يستحثّه - هو الآخر - على ألا يدخر جهدًا لمساعدتها. لكن أهم ما فى الرسالة أنه يعلن عن نيته بأنه اسيتزوجها حالما تتبدل ظروفه إلى الأحسنب فهو يحبُّها ولا يمكن أن يعيش بدونها.
ثمّ يعود فى رسالة بتاريخ 22 ديسمبر 1856، إلى أخيه ميخائيل، ويُكرِّر له تفاصيل علاقته بماريا ومدى حبّه لها، ويُعلن صراحة حبّه ورغبته فى الزواج منها هكذا: اإننى أحبُّ امرأة اسمها ماريا ديمتريفينا عيسايفاب، وفيها (أى الرسالة) يحكى له كل ظروفها منذ أن تعرَّفَ عليها وما شَعَرَ به، ورحيلها مع زوجها، ثمّ وفاته، وما قام به من رعاية لها ولابنها، وهو ما أوقعه فى ضائقة أخرى وديون تُضاف إلى ديونه، ثمّ مراسلته لأسرتها. وهو ما يتكّرر فى رسالته إلى أكسندر فرانغيل، وإن كان يزيد عليها ذكر مخاوفه من ارتباطها بالرجل الذى تعرفت عليه فى كوزنيتسك، لكن مبعث حيرته هو أنها تطلب منه كصديق رأيه فى الزواج من هذا الرجل، فى حين رسائلها السابقة كانت ثمة تأكيدات على الحب. ومن شدة يأسه حرّر لها رسالة مُفعمة باليأس يقول فيها اإننى سأموت إذا حرمت منهاب، وتارة ثانية يقول لصديقه اسأهلكُ إذا فقدتها، ملاكي، إما الجنون وإما إرطيشب (ويقصد الغرق فى نهر سيبيريا). وبعد تعب وقنوط يقطع بأنّه امن الأفضل للإنسان أن لا يحب أبدًا.
يلعب القدر لعبته، فيموت الزوج، ويخال المحبّ أنّ الفرصة قد جاءته، لكن المفاجأة كانت له بالمرصاد، فقد التقتِ الأرملة الشّابّة بمدرس وسيم يُدعى افروغونوفب أسلمتْهُ زمام قلبها، وما إن بلغ الخبر دوستويفسكى حتى رحل للقائها، وظل يبكى ويتوسّل حتى نجح فى إثارة شفقتها، وانتزع من بين شفتيها وعدًا بألّا تتزوج غريمه الوسيم.
٪ ٪ ٪
ولما عاد إلى قرية اسيميبالا تينسكب كتب لها خطابًا مُسهبًا يشرح فيه موقفه ويستجديها لكيلا تهجره من جديد، لكن هذه المرة جاءه الرد شتائم بذيئة من منافسه افروغونوفب وأدرك عندها أن عليه أن يقبل الهزيمة، ويعيش دور المضحّى بسعادتة فى سبيل سعادة المرأة التى يعشقها، وإذا كان القدر لم يُساعده فى الفوز بها، فإنه يستطيع ذ على كل حال ذ أن يعمل على إسعادها، ومن ثمّ بذل جهده فى إلحاق ابنها ابافلب بمدرسة داخلية، كما ألحّ على أصدقائه الأثرياء كى يرسلوا لها معونات مالية، ومن هؤلاء صديقه افرانغلب الذى كتب له يستحثه على مساعدتها:ب ... كل ذلك من أجلها ... من أجلها وحدها لئلا يعضها البؤس بأنيابه، وما دامت ستتزوجه، فلا أقل من أن توفر لها بعض المال الضروري، وفروغونوف أصبح الآن أحب إلىّ من أخي، فلا ضير عليّ إذا طلبت له بعض المالب. وقد سجّل فى روايته امذلون مهانونب (1861) موقفه المساند لماريا مع أنّها خذلته عبر شخصية (ناتاشا) التى كانت تدافع عن عشيقها األيوشاب (ابن الأمير فالكوفسكي) الذى غرّر بها، وهى التى تركت عائلتها لتعيش معه، ثم هجرها إلى فتاة أخرى (كاترينا). وتقرر ناتاشا فى النهاية العودة لأسرتها التى لعنتها، والانسحاب من حياة أليوشا.
ويبدو أن القدر أراد أن يكافئه (أو يصالحه) على دوره المخلص نحوها، فترقّى عام 1856 إلى رتبة الملازم، وزاد راتبه، وتحسّن مركزه الاجتماعي، وفى المقابل كان افروغونوفب يسوّف فى مواعيد الزواج، ومن هنا عادت إليه ماريا، وتزوجها فى فبراير 1857، مع أنها لم تكن تحبّه، وقد زاد نفورها منه بعد نوابات الصرع التى كانت تناوبه أثناء شهر العسل، فكان يقع على الأرض مغشيًّا عليه يضرب الهواء بيديه، وقد شَحُب لونه، وامتلأ فمه بالزبد الأصفر، وهو ما كانت تراه الزوجة الشّابة الحادّة المزاج المغرمة بالمظاهر والترف، فتفزع ويصيبها النفور من زوجها.
أثناء زواجه بماريا، تعرَّف على فتاة جامعيّة اسمها اباولين سوسلوفياب، ابنة رجل غنى صاحب مصنع (وإن كان - فى الأصل - قِنًّا من أقنان أسرة تحمل لقب الكونت شيريميتيف) كانت الفتاة صبيّةً بارعةً فى الجمال، وإن كانت مُتسلّطةَ الطبعِ، شديدةَ الحماس، كما أنها كانت مُلحدةً تعتنِقُ المذهب الفوضوي، والعقيدة العدميّة، تدعو إلى الحبِّ الحرّ الذى لا تقيُّده قيود. تولَّهَتْ بدوستويفسكى وأرسلتْ له رسائل الإعجاب والحبّ، ثم أخذت تعاونة فى المجلة التى يصدرها مع أخيه ميخائيل، وعلى الرغم من اختلاف طبيعته مع طبيعتها، إلا أنه يقرّرُ السفر معها، لكن لظروف المجلة يتأخّر عنها، فتسافر إلى باريس وهناك لا تضيع الوقت، فترتبط بشاب إسبانى غني، ويفشل دوستويفسكى فى قطع علاقتها به، فيعود حسيرًا، إلّا أن الشَاب يتركها، فتعود مرة ثانية إلى دوستويفسكى ويسافران معًا إلى إيطاليا، ثم جنيف وروما فنابولي، وتستمر هذه الرحلة ستة أسابيع، لكن ما تلبث أن تنطفئ جذوة الحب بينهما وتتحوّل إلى كُرهٍ مُتبادَلٍ، فيهجرها ويعود إلى زوجته التى كانت الغَيْرة قد استبدتْ بها مع اشتداد المرض عليها. ولم ينسَ أن يُسجّل جوانبَ من هذه العلاقة التى تركت أثرًا عميقًا عليه، ففى روايته االمقامرب (1867)جعل بطلتها باسم باولين، كما أضفى بعض صفات باولين التى أرهقته على بعض بطلاته الأخريات كـ ادونيتشكا (أو دونيا)ب شقيقة اراسكولنيكوفب فى االجريمة والعقابب (1866)، وجعل منها فتاة جميلة، تتسم بالطيش والحماقة، هربت للزواج من لوجين الذى كان رفض طلبه - من قبل - راسكولنيكوف، وكان راسكولنيكوف يحمل لها الضغينة والسخيمة فى قرارة قلبه، ويحقد عليها رغم إرادته كما جاء فى رسالة أمه فى الرواية، وكذلك عبر شخصية اكاتريناب فى االإخوة كارامازوفب (1880) وكانت فتاة مغرورة ودائما تتصرف كأنها امرأة مجتمع غنية، وكانت خطيبة ديميتري، إلا أنها كانت تعلم بحُبِّ إيفان لها، ولم تبادله الحبّ قطّ.
عشق عاملة الاختزال
التجربة الثالثة كانت بعد وفاة زوجته ماريا، حيث كان فى حاجة إلى عامل اختزال أثناء كتابة رواية االمقامرب، فحدث التعارف بينه وبين آنّا جويجوريـﭬنا (1847- 1918) التى صارت زوجته وصاحبة الإسهامات فى حياته. علاقة دوستويفسكى بزوجته الثانية كما كشفت رسائله إليها، ومذكراتها عنه؛ علاقة من طراز فريد، فهى كما وصفها امساعدتى المخلصة وسلوايب فلم تكن مجرد زوجة بل كانت - بالنسبة له - اشخصية ضرورية: لا غنى عنهاب. يعترف لها فى رسائله بمكانتها وحبُّه المتين لها، فهو بعيدًا عنها يشعر ابالكآبة المؤلمةب قائلا: اوها أنا مقتنع يا آنيّا أننى بعد اثنى عشر عامًا لا أحبك فقط، وإنما مُتيمٌ بك وأنك سيدتى الوحيدةب، جمعهما فن الاخترال الذى كانت تجيده.
كما يدين لها دوستويفسكى بوجه خاص بأنها خلّصته من سلطان المقامرة، وهو ما حداه لأن يعترف لها اسأظل ما حييت أذكر لك هذا، وفى كل مرة سوف أدعو لكِ يا ملاكى بالتوفيق، كلا أنا الآن لكِ كليةً، لك تمامًا،أما قبل ذلك فكان نصفى ملكًا لهذا الوهم الملعونب.
٪ ٪ ٪
أما هى عند وفاته، فرفضت التسليم بموته، حتى فى رسائلها كانت تؤكد على صعوبة تصديق فكرة الغياب فتقول لصديقتها صوفيا أفيركييفا اأعود بذكرياتى إلى السنوات السعيدة التى مضت، ولا أستطيع أن أصدق أنها لن تعود ثانية، لا أستطيع أن أسلّم بفكرة أننى لن آراه، ولن أستمع إلى صوته مرة أخرى...ب
بدأت علاقتها به منذ أن حدث اللقاء الأول بينهما - وإن كانت قرأت له بعض أعماله كمذكرات من بيت الأموات ذ قبل اللقاء الفعلى الذى حدث عندما تمّ ترشيحها من قبل أستاذها أولخين (مدرس الاختزال) لتعمل معه كمساعدة فى كتابة إحدى رواياته، وما إن حدث اللقاء (فى الرابع من أكتوبر 1866) حتى تمّ التّقارُّب بينهما، وقد أثار إعجابها الشديد، الودّ الذى سَرى بينهما جعله يكشف عن اصورة حزينة ما من صور حياتهب. وما إن بدأت العمل معه، حتى شعرت بالحزن الثقيل، لمــّا رأت عليه الأديب فى صورة اإنسانٍ تعيسٍ هجرَهُ الجميعب وهذا الشعور كان بداية التعاطف العميق والأسى البالغ عليه.
تسرد آنّا عن بداية العلاقة بينهما، وعن حيلته للارتباط بها، وعن الصّراحة التى أبداها فى الحديث معها، بتفاصيل دقيقة عن حياته الشَّخصيّة وعن سجنه فى قلعة بتروبافلوسك، وعن خطبته للكاتبة آنَّا فاسيلفينا كورفين - كروكوفسكايا، وتراجعه عن الاستمرار فى الخطبة بسبب التناقض بين أفكارهما. وبعد انتهاء عملها، طلبها للزواج، وهو ما أثار حفيظة أقاربه (وأقاربها بسبب فارق السن بينهما) وخصوصًا زوجة أخيه ميخائيل اميليناب، وابن زوجته الأولى ابافلب، فقد عاملاها بعداء شديد وكأنها عَدوّة .
وقد اعترف الكثيرون من معاصرى دوستويفسكى بالدور الذى لعبته آنّا فى حياته، وكيف أنها كانت بمثابة المخلِّص له من آلام وعذابات المرض، فـ م. إلكسندروف وهو صديق لهما كان كثيرَ التردّد على بيتهما، يقول: ااستطاعت آنّا جريجوريفنا على وجه التحديد أن تحيط صِحّة زوجها المعتلة بالرّعاية التّامةب، وأن تضعه حسب تعبيره اعلى أكف الرّاحة كما لو كان طفلاًب، كما أظهرتْ كثيرًا من اللّين والتساهل فى معاملتها إيّاه ممزوجًا باللباقة المهذبة، وأَستطيع أن أقول بكل ثقة إن فيودور ميخايلوفيتش وأسرته، وعلى نفس الدرجة أيضًا كثيرًا من المعجبين به، مدينون جميعًا بعدد من سنوات عمره لهاب
الموضوع الأساسى لمذكرات آنّا جريجوريفنا امذكرات زوجة دوستويفسكيب (ترجمها أنور محمد إبراهيم، المشروع القومى للترجمة القاهرة، 2015) ليس الزوجة وإنما الزوج، فهى تأتى فى المرتبة الثانية بعد ارب الأسرة والزوج الذى يهيم عشقًا برفيقة عمره والأب الرؤومب، هى فى الظل تقوم بدور الزوجة المتواضعة كاتبة السيرة، تكتب عن أحزانه أكثر ما تكتب عن أحزانها.
أصل هذه المذكرات هو اليوميات الغامضة ذ والتى قال عنها دوستويفسكى نفسه ذ اأدفع أغلى ما عندى لأعرف يا أنيتشكا (لقبها عنده) ما الذى تعنيه بصنانيرك هذه التى تخطينها: لعلك تشتميننيب، وأحاديث آنّا مع زوجها، لكن دون أن تنقل كل ما فى يومياتها إلى المذكرات، وإنما اعتمدت على الانتقاء، إزاحة ما رأته تافهًا،حافظت آنّا فى مذكراتها على طبيعة مشاعرها، وما تُكنّه من حُبٍّ ونفور لبعض الشخصيات، وهذا واضح فى عَلاقتها بابن زوجة دوستويفسكى السابقة. كما تسرد الكاتبة عن رحلاته، وعلاقاته بأصدقائه ومراسلاتهم، وعن اللّقاء الذى ظَلّ مرتقبًا بين تولستوى ودستويفسكي.
كانت آنّا رفيقة لدوستويفسكى فى مجده الأدبي، وأيضًا فى أزماته المالية وبؤسه بسبب إدمانه للقمار، وقد عبّر دوستويفسكى عن الحالة المزريّة التى وصل إليها، فى مقابل صمودها إلى جواره بل ومؤازرتها له، فى رسالة لأحد أصدقائه قال فيها: افقط لو استطعت يا صديقى أن تعرف كيف نعيش؟ إن زوجتى تقوم برعاية الطفل... وأنا معدم تمامًا. فكيف بالله عليك أستطيع أن أكتب وأنا فى حالة جوع مستمر، حتى لقد اضطررت إلى رهن سروالي... الجوع والشيطان هما رفيقاى الدائمان... أمّا زوجتى فهى ترعى رضيعها، ثمّ تضطر إلى الخروج لترهن معطفها الوحيد... ولو أمكنك أن تُدرك حقيقة ما أعانيه لعرفت أنه من المستحيل أن أستطيع الكتابة فى مثل هذه الظروفب
عشق بلا حدود
يخصُّ دوستويفسكى - فى الرسائل التى جاءت فى جزأين (وقد ترجمها خيرى الضامن، دار سؤال، 2017) -آنّا بالكثير من الرسائل، ويخاطبها دومًا بعزيزتى وصديقتى المـُخلصة، وتارة بعزيزتى آنيتشكا، يرد أوّل مرة اسم آنّا جويجوريفنا فى رسائل دوستويفسكي، تحديدًا فى الجزء الثانى فى رسالة إلى نيكولاى لوبيموف، المحرّر التنفيذى لمجلة االبشير الروسيب، فى ملحوظة عقب الرسالة، حيث يخبره بأنه استأجر كاتبة اختزال (دون أن يُحدّد اسمها)، ثمّ ترد باسم اآنا سنيتكيناب قبل الزواج.
محور الرسالة يكشف عن طبيعة الثّقة التى أولاها لها، فيتحدث عن طبيعة خلافاته مع مجلة البشير الروسي، وكيف انتهى إلى توليف أوضاعه، ثمّ يعدها فى نهاية الرسالة بما ينتظرهما من مصير فـبالنقود متوفرة، وسنعقد القران بأسرع ما يمكنب وبعدها يخبرها بأنه سيلتحق بها فى بطرسبورج، وينهى رسالته بتمنى أن يُعَانِقَهَا ويُقبِّلَهَا فكما يقول: اأقبِّلُ يديك الرقيقتين وقدميك اللتين لا تسمحين لى بتقبيلهماب.
ويقول لها بعد توقيعه الرسالة بالمخلص زوجك السّعيد: ايستحيل أنْ لا يكون الرّجل سعيدًا مع مثل هذه الزوجة! أحبينى يا آنّا وأنا أحبك إلى الأبدب، وأحيانًا يوقّع بالمخلص لكِ بكل شغاف الفؤاد. ومرات كثيرة يردد هذه الصيغة التى تكشف عن مُحبٍ وَلِهٍ، هكذا: اأقبِّلُكِ حتى آخر ذرة، وخصوصًا قدميك الرائعتين. أنتِ سيدتى الآمرة النّاهية، أنا لا أستحِقُكِ، لكنّنى أؤله زوجتى الحبيبة، ولن أتنازلَ عنها لأحد، ومع إننى لا أستحقهاب.
ثمّ تبدأ الرسائل اللاحقة فى إظهار الحميمية بينهما فيخاطبها فى رسالة من هامبروج بتاريخ 5 مايو 1867ـ هكذا :بمرحبًا يا ملاكى الحبيب، أعانِقُكِ وأُقَبِّلُك بحرارةٍ، طول الطريق كنتُ أفكِّرُ فيكِب، ويكتب لها بعد وصوله مباشرة، مظهرًا افتقاده لها، وندمه على أنه تركها وحيدة. ومن شدّة إظهار ولعه بها يقول: اأدركتُ أنّنى لا أستحقُّ مثل هذا الملاك المكتمل الشّفاف، الهادئ الوادع الرائع العفيف الذى يثق بيب، ويعتبرها عطيّة من الله كى يُكفِّر بها عن خطاياه الشّنيعة.
يتابعُ رسائله إليها واصفًا متاعبَ الرحلة والبرد الذى تعرّض له، ووحشته وافتقاده إليها. كما يحكى لها مقامراته، وخسارته لبعض النقود، وفى إحدى رسائله بتاريخ 9 مايو يصف لها حزنه الشديد عندما ذهب إلى مكتب البريد دون أن يجد رسالتها. يقول له صراحة: ا أنا لم أتعذب يومًا، أبدًا، لهذا الحدّ (يقصد عدم عثوره على رسالتها فى مكتب البريد)، ولم أرتعب كما حصل لى يوم أمسب. ويطلب منها بعدما خَسِرَ نقوده فى المقامرة، أن تُرسل له النقود كى يعجّل بالرحيل من هذا المكان، كما أوصاها بألا تُطلع أحدًا على رسالته كى لا يرى هذه الصُّورة المزرية عنه. وفى نهاية الرسالة يعتذر لها عن جرّاء تعذيبه لها، ويشرح لها معاناته مع عادة لعب الروليت، وكيف أنه يجاهد كثيرًا كى لا يعود إلى طاولة الروليت، لكن كل مقاومته تنهار، ويفقد ما لديه.
يتكرّر الاعتذار والأسف، بل وطلب السّماح منها على كل االعذابات والانفعالات التى سبّبها لهاب، ثم كالعادة يذكر لها ندمه على عدم أخذها معه، ويخبرها بأنه يخشى الحديث عن المستقبل لأنه بالنسبة له مجهول، ويعوّل على أن االرب سينقذنا على أية حالب. كما تكشف الرسائل حالة الضعف التى يبدو عليها دوستويفسكي، سواء بسبب إدمانه للقمار، ورغبته التى لا يستطيع مقاومتها للعب، مع معرفته بالخسارة، وأيضًا بسبب ضعفه أمام ناشريه، واستكانته لابتزازاتهم له، والأهم ضعفه أمام نفسه وخشيته أن يظهر أمام الآخرين بمظهر السَّفيه الدنئ، لذا يُشدّد عليها بألا تطلع أحدًا من أقاربها على رسائلهما. وفى الرسائل يشتكى لنيكولاى ستراخوف من حالة الكتابة تحت ضغط الموعد، لذا يتمنى أن يكون حرًّا مثل اتولستوى وتورغينيف وغونتشاروفب غير مُقيّد بموعد مفروض عليه.
وعندما يعلم بمرضها وهو فى بروسا، يعتريه الحزن، لدرجة أنه يؤنِّبُها، ويشاطرها ألمها قائلاً: افؤادى يتألم لك، فكّرتُ هنا فى كل معاناتك فى عملك...ب وفى غمرة هذا الحزن وذاك الألم، يعترف بحبّه لها قائلاً: القد وقعتُ فى غرامك، يا آنيّا، لدرجة لم تبق فى ذهنى أية فكرة سواكب.
وفى رسالته إلى صوفيا إيفانوفا يأتى ذكر آنّا، وحياتهما معًا فيقول اأنا مع آنّا جريجوريفنا فى عزلة رهيبة . تظهر الرسائل ثقة دوستويفسكى فى زوجته بل يعتبرها موضع ثقة مطلقة؛ فيحكى لها تفاصيل كتاباته وعلاقاته بالناشرين، وأيضًا شعفه أمام المقامرة، وهروبه من الدائنين، وفى نفس الوقت يظهر خوفه عليهم (هى وأبناؤه) وسعيه لتأمين حياة سعيدة قدر استطاعته لهم.
تغدو الرسائل إليها بمثابة يوميات له، يصف فيها كل ما يصادفه فى يومه، فيرسل لها رسالة عندما يصل مدينة إيمس فى برلين، يبثها شعوره بالملل الذى تسرَّب إليه من المدينة، كما يعدها بأنه سوف يحكى لها عن بعض المواقف الطريفة التى حدثت فى الطريق، ويُقدّم لآنّا تقريرًا إنثروبولوجيا عن ألمانيا والألمان فهم: يتميزون بالخشونة وقلة الأدب، والشوارع يوم الأحد تمتلئ بهم وهم فى ثياب العطل والأعياد، بالإضافة إلى وصف لمشاهداته فى المدينة وجولاته، وزياراته المختلفة إلى المتاحف والمسارح. والتغيّرات التى حلّت على سكانها بعدما صارت المدينة قبلة للأوروبيين، إذْ تمّ تحويل منازلهم إلى فنادق، دومًا يطلب منها فى ختام رسائله بأن تهتم بنفسها، وتحافظ عليها من المرض.
٪ ٪ ٪
هكذا عرضتِ الرّسائل لجانب آخر لدوستويفسكي؛ كاشفة عن شخصية مُحبِّة، عطوفة، مُخلصة، يرى فى محبوبته خلاصه من كل الأذى الذى لحق به، كما كانت (أى الرسائل) بمثابة يوميات غير مباشرة، اجترّ فيها الكثير مما يعانيه من مشاغل حياتية وإبداعيّة، وما يؤرّقه من آلام المرض، وثِقَل الدّيون وما نتج عنها من ارتباطات مُجحفة مُتعلّقة بالنشر والكتابة، كما ألمحَتْ ذ فى جانبٍ مُهمٍّ منها - عمّا يتحلّى به من مسؤولية على مستوى علاقاته بالآخرين، ومحاولته إسباغ الحَدْبِ والعطف عليهم، ومشاركتهم آلامهم، وظروفهم، وأيضًا على مستوى مسؤولياته ككاتب ملتزم أمام نفسه أولاً بالتعبير عن هموم الضعفاء / الفقراء منذ رائعته االفقراءب (1946)، وثانيا أمام الناشرين بالوفاء بعهوده التى قطعها على نفسه - مُجْبرًا بِسبب الفاقه والعوز - معهم، مهما كلّفه الأمر جَهدًا مضاعفًا يوصل فيه الليل بالنهار، أو كتابته لعمليْن فى نفس الوقت.
إذا كان دوستويفسكى يعتبر ذ فى إحدى رسائله - ادون كيخوتهب أعظمَ كتابٍ بعد الكتاب المقدّس. فإنه -كما يقول الروائى عزت القمحاوى (وهو أحد دراويشه) - وبعد هذه المسافة الفاصلة بيننا وبين دوستويفسكى يمكن القول باطمئنان إن مائة وأربعين عامًا تفصلنا عن رحيله لم تشهد مولد كاتب بحجمهب.وقد يبدو الجواب ماثلاً فى اعتقاد باختين أن دوستويفسكى مثل بروميثيوس فى قصيدة غوته الم يخلق عبدًا بلا صوت، بل أشخاصًا أحرارًا، يستطيعون أخذ مكان بجانب خالقهم، ومجادلته، بل والثورة عليه.
وقد عبر مكسيم غوركى عن سطوة الحبّ عليه قائلاً: اكان قلبُ الكاتب الروسى ناقوسًا للحبّ، وصوتًا جبّارًا تسمعه كل القلوب الحيّة فى البلادب. ومن شدّة ما عاناه من ويلات الحبّ واستبداد المحبوب، نراه يصوغ فلسفته عن الحبّ هكذا : افرحةُ الحبِّ عظيمة، لكنَّ المُعاناة فظيعة، والأفضَل للإنسَان أن لاَ يحبّ أبدا.
مرّ دوستويفسكى فى حياته بثلاث تجارب عشق؛ الأولى كانت مع اماريا إيساييفاب، وهى كانت حُبّه الأوّل الكبير، امرأة مثقفة والدها ديميترى كونستان مدير الجمارك فى استراخان، كانت ماريا متزوجة من مُعلّم شاب اسمه اأكسندر إيفانوفيتش عيسايفب، ومع الأسف كان مدمنًا للشراب، وهو ما أوقع العائلة فى أزمات مالية كثيرة. وبحكم وظيفته كان يتنقل من مكانٍ إلى آخر، حتى استقرَّ الحال بهما (هو وزوجته) فى هذه المدينة النائية، وسرعان ما انعقدت أواصر الصداقة بين دوستويفسكى والمعلّم الشّاب، إلا أن دوستويسفكى تحوّل إلى الإعجاب بزوجته الشقيّة والجميلة، إذْ كان يشعرُ نحوها بشفقةٍ كبيرةٍ، ولم يجد بُدًّا إزاء حائل الزوج إلا أن تكون له احبًّا أخويًّاب، لكن الحبّ استبدّ به، وتحوّل إلى هوى جامحٍ، وما إنْ انتقلَ الزوج إلى مكان آخر للعمل، حتى تمزّقَ قلبُ دوستويفسكى للفرّاق. فأرسل رسالة لها (بتاريخ 4 يونيه 1855) يُخبرها بما اعتراه من وحشة وآلام بسبب فراقها، فبغيابها - حسب عبارته ذ اتَيتّمب، بل صار الوقت - دونها - اأشبه بالسّجن كالفترة التى اُعتقل فيها عام 1849، وعزلوه عن كل ما هو عزيزب، ويسترسل فى رسالته ذاكرًا أشواقه وأحزانه لفارقها هكذا: القد عشتُ خمس سنوات خارج المجتمع (يقصد فترة السجن) وحيدًا بلا صديق أُسِرُّ له شكاتي، ثمّ جئتى أنتِ فعاملتنى كفرد من أسرتك، ولكم آلمتك بطباعى الشّاذة، ولكنك أحببتينى مع ذلك، لقد أدركتُ ذلك وأحسسته، فلستُ بلا قلب يا عزيزتيب .
الحب من طرف واحد
فى رسالة بتاريخ 14 أغسطس 1856، إلى صديقه ألكسندر فرانغيل، يخبره بوفاة زوج ماريا، ويحكى فيها عمّا ورده من رسالة ماريا، تشكوه آثار الوفاة عليها وعلى ابنها ابافلب، وتدهور صحتها بعد وفاته حيث فقدت طعم النوم وشهية الطعام، لكنه لا ينسى أن يُفصح له فيها عمّا ينتابه من آلام بسبب علاقته بهذه المرأة، وشعوره بالغيرة نحوها عندما كانت هنا، لكن ما زاد من آلامه أنه سمع أنها اوعدتْ شخصًا آخر فى كوزنيتسك بالزواج منهب ولكنه لا يعرف ماذا يفعل ويسأله اهل أبدأ بالكتابة إليها؟ب، كما يطلب منه أن يمدّ لها يد العون بأن يُرسل إليها مالاً لأنها فى أمس الحاجة بعد أن دفعتها الحاجة إلى قبول الصدقة.
ومع بداية عام 1856 وتحديدًا فى (13- 18 يناير) يُرسل رسالة لأخيه ميخائيل، ويطلعه على ترفيعه إلى رتبة ملازم ثان، وانتظاره الانتقال إلى الخدمة المدنيّة، لسببين الأول، يتمثّل فى رغبته فى الكتابة والنشر، والثانى لأنه بعد أن خرج من الأشغال الشاقة توجّه إلى هذه القرية، وفيها تعرف على عائلة اعيسايفب، وكان من قبل طلب من أخيه أن يُسدى له خدمة بأن يبحث له عن عمل آخر لزوج ماريا، فقد كان يعيش على المعاش وليس لديه مدخرات أخرى، وبعد أن يُعدِّدَ صفات الزوج حيث وجده ارجلاً طيبَ القلب ذا شخصية متطوِّرة جدًّا، [و] كان متعّلمًا يفقه كلّ ما تتكلم معه عنهب، يُعرج بعدها إلى زوجته ماريا ويصفها بأنها اشابة فى الثامنة والعشرين، مليحة ومثقفة جدًّا، وذكية للغاية، وطيبة ورقيقة وأنيقة بقلب رائع كبيرب إلخ من صفات تُعْلى من قدرها، وعلاوة على هذا فهى امرحة ولعوبب، وهو ما جذبه إليها، فلم يغادر منزلهم تقريبًا، ومن شدة تأثره يُجزم قائلاً اأنا لم أصادف امرأة مثلها إلا فيما ندرب، وبعد أن يسرد رحلتهم وانتقالهم إلى مكان عمل الزوج الجديد، يُطالعه بأمر وفاة زوجها، ومن ثمّ يستحثّه - هو الآخر - على ألا يدخر جهدًا لمساعدتها. لكن أهم ما فى الرسالة أنه يعلن عن نيته بأنه اسيتزوجها حالما تتبدل ظروفه إلى الأحسنب فهو يحبُّها ولا يمكن أن يعيش بدونها.
ثمّ يعود فى رسالة بتاريخ 22 ديسمبر 1856، إلى أخيه ميخائيل، ويُكرِّر له تفاصيل علاقته بماريا ومدى حبّه لها، ويُعلن صراحة حبّه ورغبته فى الزواج منها هكذا: اإننى أحبُّ امرأة اسمها ماريا ديمتريفينا عيسايفاب، وفيها (أى الرسالة) يحكى له كل ظروفها منذ أن تعرَّفَ عليها وما شَعَرَ به، ورحيلها مع زوجها، ثمّ وفاته، وما قام به من رعاية لها ولابنها، وهو ما أوقعه فى ضائقة أخرى وديون تُضاف إلى ديونه، ثمّ مراسلته لأسرتها. وهو ما يتكّرر فى رسالته إلى أكسندر فرانغيل، وإن كان يزيد عليها ذكر مخاوفه من ارتباطها بالرجل الذى تعرفت عليه فى كوزنيتسك، لكن مبعث حيرته هو أنها تطلب منه كصديق رأيه فى الزواج من هذا الرجل، فى حين رسائلها السابقة كانت ثمة تأكيدات على الحب. ومن شدة يأسه حرّر لها رسالة مُفعمة باليأس يقول فيها اإننى سأموت إذا حرمت منهاب، وتارة ثانية يقول لصديقه اسأهلكُ إذا فقدتها، ملاكي، إما الجنون وإما إرطيشب (ويقصد الغرق فى نهر سيبيريا). وبعد تعب وقنوط يقطع بأنّه امن الأفضل للإنسان أن لا يحب أبدًا.
يلعب القدر لعبته، فيموت الزوج، ويخال المحبّ أنّ الفرصة قد جاءته، لكن المفاجأة كانت له بالمرصاد، فقد التقتِ الأرملة الشّابّة بمدرس وسيم يُدعى افروغونوفب أسلمتْهُ زمام قلبها، وما إن بلغ الخبر دوستويفسكى حتى رحل للقائها، وظل يبكى ويتوسّل حتى نجح فى إثارة شفقتها، وانتزع من بين شفتيها وعدًا بألّا تتزوج غريمه الوسيم.
٪ ٪ ٪
ولما عاد إلى قرية اسيميبالا تينسكب كتب لها خطابًا مُسهبًا يشرح فيه موقفه ويستجديها لكيلا تهجره من جديد، لكن هذه المرة جاءه الرد شتائم بذيئة من منافسه افروغونوفب وأدرك عندها أن عليه أن يقبل الهزيمة، ويعيش دور المضحّى بسعادتة فى سبيل سعادة المرأة التى يعشقها، وإذا كان القدر لم يُساعده فى الفوز بها، فإنه يستطيع ذ على كل حال ذ أن يعمل على إسعادها، ومن ثمّ بذل جهده فى إلحاق ابنها ابافلب بمدرسة داخلية، كما ألحّ على أصدقائه الأثرياء كى يرسلوا لها معونات مالية، ومن هؤلاء صديقه افرانغلب الذى كتب له يستحثه على مساعدتها:ب ... كل ذلك من أجلها ... من أجلها وحدها لئلا يعضها البؤس بأنيابه، وما دامت ستتزوجه، فلا أقل من أن توفر لها بعض المال الضروري، وفروغونوف أصبح الآن أحب إلىّ من أخي، فلا ضير عليّ إذا طلبت له بعض المالب. وقد سجّل فى روايته امذلون مهانونب (1861) موقفه المساند لماريا مع أنّها خذلته عبر شخصية (ناتاشا) التى كانت تدافع عن عشيقها األيوشاب (ابن الأمير فالكوفسكي) الذى غرّر بها، وهى التى تركت عائلتها لتعيش معه، ثم هجرها إلى فتاة أخرى (كاترينا). وتقرر ناتاشا فى النهاية العودة لأسرتها التى لعنتها، والانسحاب من حياة أليوشا.
ويبدو أن القدر أراد أن يكافئه (أو يصالحه) على دوره المخلص نحوها، فترقّى عام 1856 إلى رتبة الملازم، وزاد راتبه، وتحسّن مركزه الاجتماعي، وفى المقابل كان افروغونوفب يسوّف فى مواعيد الزواج، ومن هنا عادت إليه ماريا، وتزوجها فى فبراير 1857، مع أنها لم تكن تحبّه، وقد زاد نفورها منه بعد نوابات الصرع التى كانت تناوبه أثناء شهر العسل، فكان يقع على الأرض مغشيًّا عليه يضرب الهواء بيديه، وقد شَحُب لونه، وامتلأ فمه بالزبد الأصفر، وهو ما كانت تراه الزوجة الشّابة الحادّة المزاج المغرمة بالمظاهر والترف، فتفزع ويصيبها النفور من زوجها.
أثناء زواجه بماريا، تعرَّف على فتاة جامعيّة اسمها اباولين سوسلوفياب، ابنة رجل غنى صاحب مصنع (وإن كان - فى الأصل - قِنًّا من أقنان أسرة تحمل لقب الكونت شيريميتيف) كانت الفتاة صبيّةً بارعةً فى الجمال، وإن كانت مُتسلّطةَ الطبعِ، شديدةَ الحماس، كما أنها كانت مُلحدةً تعتنِقُ المذهب الفوضوي، والعقيدة العدميّة، تدعو إلى الحبِّ الحرّ الذى لا تقيُّده قيود. تولَّهَتْ بدوستويفسكى وأرسلتْ له رسائل الإعجاب والحبّ، ثم أخذت تعاونة فى المجلة التى يصدرها مع أخيه ميخائيل، وعلى الرغم من اختلاف طبيعته مع طبيعتها، إلا أنه يقرّرُ السفر معها، لكن لظروف المجلة يتأخّر عنها، فتسافر إلى باريس وهناك لا تضيع الوقت، فترتبط بشاب إسبانى غني، ويفشل دوستويفسكى فى قطع علاقتها به، فيعود حسيرًا، إلّا أن الشَاب يتركها، فتعود مرة ثانية إلى دوستويفسكى ويسافران معًا إلى إيطاليا، ثم جنيف وروما فنابولي، وتستمر هذه الرحلة ستة أسابيع، لكن ما تلبث أن تنطفئ جذوة الحب بينهما وتتحوّل إلى كُرهٍ مُتبادَلٍ، فيهجرها ويعود إلى زوجته التى كانت الغَيْرة قد استبدتْ بها مع اشتداد المرض عليها. ولم ينسَ أن يُسجّل جوانبَ من هذه العلاقة التى تركت أثرًا عميقًا عليه، ففى روايته االمقامرب (1867)جعل بطلتها باسم باولين، كما أضفى بعض صفات باولين التى أرهقته على بعض بطلاته الأخريات كـ ادونيتشكا (أو دونيا)ب شقيقة اراسكولنيكوفب فى االجريمة والعقابب (1866)، وجعل منها فتاة جميلة، تتسم بالطيش والحماقة، هربت للزواج من لوجين الذى كان رفض طلبه - من قبل - راسكولنيكوف، وكان راسكولنيكوف يحمل لها الضغينة والسخيمة فى قرارة قلبه، ويحقد عليها رغم إرادته كما جاء فى رسالة أمه فى الرواية، وكذلك عبر شخصية اكاتريناب فى االإخوة كارامازوفب (1880) وكانت فتاة مغرورة ودائما تتصرف كأنها امرأة مجتمع غنية، وكانت خطيبة ديميتري، إلا أنها كانت تعلم بحُبِّ إيفان لها، ولم تبادله الحبّ قطّ.
عشق عاملة الاختزال
التجربة الثالثة كانت بعد وفاة زوجته ماريا، حيث كان فى حاجة إلى عامل اختزال أثناء كتابة رواية االمقامرب، فحدث التعارف بينه وبين آنّا جويجوريـﭬنا (1847- 1918) التى صارت زوجته وصاحبة الإسهامات فى حياته. علاقة دوستويفسكى بزوجته الثانية كما كشفت رسائله إليها، ومذكراتها عنه؛ علاقة من طراز فريد، فهى كما وصفها امساعدتى المخلصة وسلوايب فلم تكن مجرد زوجة بل كانت - بالنسبة له - اشخصية ضرورية: لا غنى عنهاب. يعترف لها فى رسائله بمكانتها وحبُّه المتين لها، فهو بعيدًا عنها يشعر ابالكآبة المؤلمةب قائلا: اوها أنا مقتنع يا آنيّا أننى بعد اثنى عشر عامًا لا أحبك فقط، وإنما مُتيمٌ بك وأنك سيدتى الوحيدةب، جمعهما فن الاخترال الذى كانت تجيده.
كما يدين لها دوستويفسكى بوجه خاص بأنها خلّصته من سلطان المقامرة، وهو ما حداه لأن يعترف لها اسأظل ما حييت أذكر لك هذا، وفى كل مرة سوف أدعو لكِ يا ملاكى بالتوفيق، كلا أنا الآن لكِ كليةً، لك تمامًا،أما قبل ذلك فكان نصفى ملكًا لهذا الوهم الملعونب.
٪ ٪ ٪
أما هى عند وفاته، فرفضت التسليم بموته، حتى فى رسائلها كانت تؤكد على صعوبة تصديق فكرة الغياب فتقول لصديقتها صوفيا أفيركييفا اأعود بذكرياتى إلى السنوات السعيدة التى مضت، ولا أستطيع أن أصدق أنها لن تعود ثانية، لا أستطيع أن أسلّم بفكرة أننى لن آراه، ولن أستمع إلى صوته مرة أخرى...ب
بدأت علاقتها به منذ أن حدث اللقاء الأول بينهما - وإن كانت قرأت له بعض أعماله كمذكرات من بيت الأموات ذ قبل اللقاء الفعلى الذى حدث عندما تمّ ترشيحها من قبل أستاذها أولخين (مدرس الاختزال) لتعمل معه كمساعدة فى كتابة إحدى رواياته، وما إن حدث اللقاء (فى الرابع من أكتوبر 1866) حتى تمّ التّقارُّب بينهما، وقد أثار إعجابها الشديد، الودّ الذى سَرى بينهما جعله يكشف عن اصورة حزينة ما من صور حياتهب. وما إن بدأت العمل معه، حتى شعرت بالحزن الثقيل، لمــّا رأت عليه الأديب فى صورة اإنسانٍ تعيسٍ هجرَهُ الجميعب وهذا الشعور كان بداية التعاطف العميق والأسى البالغ عليه.
تسرد آنّا عن بداية العلاقة بينهما، وعن حيلته للارتباط بها، وعن الصّراحة التى أبداها فى الحديث معها، بتفاصيل دقيقة عن حياته الشَّخصيّة وعن سجنه فى قلعة بتروبافلوسك، وعن خطبته للكاتبة آنَّا فاسيلفينا كورفين - كروكوفسكايا، وتراجعه عن الاستمرار فى الخطبة بسبب التناقض بين أفكارهما. وبعد انتهاء عملها، طلبها للزواج، وهو ما أثار حفيظة أقاربه (وأقاربها بسبب فارق السن بينهما) وخصوصًا زوجة أخيه ميخائيل اميليناب، وابن زوجته الأولى ابافلب، فقد عاملاها بعداء شديد وكأنها عَدوّة .
وقد اعترف الكثيرون من معاصرى دوستويفسكى بالدور الذى لعبته آنّا فى حياته، وكيف أنها كانت بمثابة المخلِّص له من آلام وعذابات المرض، فـ م. إلكسندروف وهو صديق لهما كان كثيرَ التردّد على بيتهما، يقول: ااستطاعت آنّا جريجوريفنا على وجه التحديد أن تحيط صِحّة زوجها المعتلة بالرّعاية التّامةب، وأن تضعه حسب تعبيره اعلى أكف الرّاحة كما لو كان طفلاًب، كما أظهرتْ كثيرًا من اللّين والتساهل فى معاملتها إيّاه ممزوجًا باللباقة المهذبة، وأَستطيع أن أقول بكل ثقة إن فيودور ميخايلوفيتش وأسرته، وعلى نفس الدرجة أيضًا كثيرًا من المعجبين به، مدينون جميعًا بعدد من سنوات عمره لهاب
الموضوع الأساسى لمذكرات آنّا جريجوريفنا امذكرات زوجة دوستويفسكيب (ترجمها أنور محمد إبراهيم، المشروع القومى للترجمة القاهرة، 2015) ليس الزوجة وإنما الزوج، فهى تأتى فى المرتبة الثانية بعد ارب الأسرة والزوج الذى يهيم عشقًا برفيقة عمره والأب الرؤومب، هى فى الظل تقوم بدور الزوجة المتواضعة كاتبة السيرة، تكتب عن أحزانه أكثر ما تكتب عن أحزانها.
أصل هذه المذكرات هو اليوميات الغامضة ذ والتى قال عنها دوستويفسكى نفسه ذ اأدفع أغلى ما عندى لأعرف يا أنيتشكا (لقبها عنده) ما الذى تعنيه بصنانيرك هذه التى تخطينها: لعلك تشتميننيب، وأحاديث آنّا مع زوجها، لكن دون أن تنقل كل ما فى يومياتها إلى المذكرات، وإنما اعتمدت على الانتقاء، إزاحة ما رأته تافهًا،حافظت آنّا فى مذكراتها على طبيعة مشاعرها، وما تُكنّه من حُبٍّ ونفور لبعض الشخصيات، وهذا واضح فى عَلاقتها بابن زوجة دوستويفسكى السابقة. كما تسرد الكاتبة عن رحلاته، وعلاقاته بأصدقائه ومراسلاتهم، وعن اللّقاء الذى ظَلّ مرتقبًا بين تولستوى ودستويفسكي.
كانت آنّا رفيقة لدوستويفسكى فى مجده الأدبي، وأيضًا فى أزماته المالية وبؤسه بسبب إدمانه للقمار، وقد عبّر دوستويفسكى عن الحالة المزريّة التى وصل إليها، فى مقابل صمودها إلى جواره بل ومؤازرتها له، فى رسالة لأحد أصدقائه قال فيها: افقط لو استطعت يا صديقى أن تعرف كيف نعيش؟ إن زوجتى تقوم برعاية الطفل... وأنا معدم تمامًا. فكيف بالله عليك أستطيع أن أكتب وأنا فى حالة جوع مستمر، حتى لقد اضطررت إلى رهن سروالي... الجوع والشيطان هما رفيقاى الدائمان... أمّا زوجتى فهى ترعى رضيعها، ثمّ تضطر إلى الخروج لترهن معطفها الوحيد... ولو أمكنك أن تُدرك حقيقة ما أعانيه لعرفت أنه من المستحيل أن أستطيع الكتابة فى مثل هذه الظروفب
عشق بلا حدود
يخصُّ دوستويفسكى - فى الرسائل التى جاءت فى جزأين (وقد ترجمها خيرى الضامن، دار سؤال، 2017) -آنّا بالكثير من الرسائل، ويخاطبها دومًا بعزيزتى وصديقتى المـُخلصة، وتارة بعزيزتى آنيتشكا، يرد أوّل مرة اسم آنّا جويجوريفنا فى رسائل دوستويفسكي، تحديدًا فى الجزء الثانى فى رسالة إلى نيكولاى لوبيموف، المحرّر التنفيذى لمجلة االبشير الروسيب، فى ملحوظة عقب الرسالة، حيث يخبره بأنه استأجر كاتبة اختزال (دون أن يُحدّد اسمها)، ثمّ ترد باسم اآنا سنيتكيناب قبل الزواج.
محور الرسالة يكشف عن طبيعة الثّقة التى أولاها لها، فيتحدث عن طبيعة خلافاته مع مجلة البشير الروسي، وكيف انتهى إلى توليف أوضاعه، ثمّ يعدها فى نهاية الرسالة بما ينتظرهما من مصير فـبالنقود متوفرة، وسنعقد القران بأسرع ما يمكنب وبعدها يخبرها بأنه سيلتحق بها فى بطرسبورج، وينهى رسالته بتمنى أن يُعَانِقَهَا ويُقبِّلَهَا فكما يقول: اأقبِّلُ يديك الرقيقتين وقدميك اللتين لا تسمحين لى بتقبيلهماب.
ويقول لها بعد توقيعه الرسالة بالمخلص زوجك السّعيد: ايستحيل أنْ لا يكون الرّجل سعيدًا مع مثل هذه الزوجة! أحبينى يا آنّا وأنا أحبك إلى الأبدب، وأحيانًا يوقّع بالمخلص لكِ بكل شغاف الفؤاد. ومرات كثيرة يردد هذه الصيغة التى تكشف عن مُحبٍ وَلِهٍ، هكذا: اأقبِّلُكِ حتى آخر ذرة، وخصوصًا قدميك الرائعتين. أنتِ سيدتى الآمرة النّاهية، أنا لا أستحِقُكِ، لكنّنى أؤله زوجتى الحبيبة، ولن أتنازلَ عنها لأحد، ومع إننى لا أستحقهاب.
ثمّ تبدأ الرسائل اللاحقة فى إظهار الحميمية بينهما فيخاطبها فى رسالة من هامبروج بتاريخ 5 مايو 1867ـ هكذا :بمرحبًا يا ملاكى الحبيب، أعانِقُكِ وأُقَبِّلُك بحرارةٍ، طول الطريق كنتُ أفكِّرُ فيكِب، ويكتب لها بعد وصوله مباشرة، مظهرًا افتقاده لها، وندمه على أنه تركها وحيدة. ومن شدّة إظهار ولعه بها يقول: اأدركتُ أنّنى لا أستحقُّ مثل هذا الملاك المكتمل الشّفاف، الهادئ الوادع الرائع العفيف الذى يثق بيب، ويعتبرها عطيّة من الله كى يُكفِّر بها عن خطاياه الشّنيعة.
يتابعُ رسائله إليها واصفًا متاعبَ الرحلة والبرد الذى تعرّض له، ووحشته وافتقاده إليها. كما يحكى لها مقامراته، وخسارته لبعض النقود، وفى إحدى رسائله بتاريخ 9 مايو يصف لها حزنه الشديد عندما ذهب إلى مكتب البريد دون أن يجد رسالتها. يقول له صراحة: ا أنا لم أتعذب يومًا، أبدًا، لهذا الحدّ (يقصد عدم عثوره على رسالتها فى مكتب البريد)، ولم أرتعب كما حصل لى يوم أمسب. ويطلب منها بعدما خَسِرَ نقوده فى المقامرة، أن تُرسل له النقود كى يعجّل بالرحيل من هذا المكان، كما أوصاها بألا تُطلع أحدًا على رسالته كى لا يرى هذه الصُّورة المزرية عنه. وفى نهاية الرسالة يعتذر لها عن جرّاء تعذيبه لها، ويشرح لها معاناته مع عادة لعب الروليت، وكيف أنه يجاهد كثيرًا كى لا يعود إلى طاولة الروليت، لكن كل مقاومته تنهار، ويفقد ما لديه.
يتكرّر الاعتذار والأسف، بل وطلب السّماح منها على كل االعذابات والانفعالات التى سبّبها لهاب، ثم كالعادة يذكر لها ندمه على عدم أخذها معه، ويخبرها بأنه يخشى الحديث عن المستقبل لأنه بالنسبة له مجهول، ويعوّل على أن االرب سينقذنا على أية حالب. كما تكشف الرسائل حالة الضعف التى يبدو عليها دوستويفسكي، سواء بسبب إدمانه للقمار، ورغبته التى لا يستطيع مقاومتها للعب، مع معرفته بالخسارة، وأيضًا بسبب ضعفه أمام ناشريه، واستكانته لابتزازاتهم له، والأهم ضعفه أمام نفسه وخشيته أن يظهر أمام الآخرين بمظهر السَّفيه الدنئ، لذا يُشدّد عليها بألا تطلع أحدًا من أقاربها على رسائلهما. وفى الرسائل يشتكى لنيكولاى ستراخوف من حالة الكتابة تحت ضغط الموعد، لذا يتمنى أن يكون حرًّا مثل اتولستوى وتورغينيف وغونتشاروفب غير مُقيّد بموعد مفروض عليه.
وعندما يعلم بمرضها وهو فى بروسا، يعتريه الحزن، لدرجة أنه يؤنِّبُها، ويشاطرها ألمها قائلاً: افؤادى يتألم لك، فكّرتُ هنا فى كل معاناتك فى عملك...ب وفى غمرة هذا الحزن وذاك الألم، يعترف بحبّه لها قائلاً: القد وقعتُ فى غرامك، يا آنيّا، لدرجة لم تبق فى ذهنى أية فكرة سواكب.
وفى رسالته إلى صوفيا إيفانوفا يأتى ذكر آنّا، وحياتهما معًا فيقول اأنا مع آنّا جريجوريفنا فى عزلة رهيبة . تظهر الرسائل ثقة دوستويفسكى فى زوجته بل يعتبرها موضع ثقة مطلقة؛ فيحكى لها تفاصيل كتاباته وعلاقاته بالناشرين، وأيضًا شعفه أمام المقامرة، وهروبه من الدائنين، وفى نفس الوقت يظهر خوفه عليهم (هى وأبناؤه) وسعيه لتأمين حياة سعيدة قدر استطاعته لهم.
تغدو الرسائل إليها بمثابة يوميات له، يصف فيها كل ما يصادفه فى يومه، فيرسل لها رسالة عندما يصل مدينة إيمس فى برلين، يبثها شعوره بالملل الذى تسرَّب إليه من المدينة، كما يعدها بأنه سوف يحكى لها عن بعض المواقف الطريفة التى حدثت فى الطريق، ويُقدّم لآنّا تقريرًا إنثروبولوجيا عن ألمانيا والألمان فهم: يتميزون بالخشونة وقلة الأدب، والشوارع يوم الأحد تمتلئ بهم وهم فى ثياب العطل والأعياد، بالإضافة إلى وصف لمشاهداته فى المدينة وجولاته، وزياراته المختلفة إلى المتاحف والمسارح. والتغيّرات التى حلّت على سكانها بعدما صارت المدينة قبلة للأوروبيين، إذْ تمّ تحويل منازلهم إلى فنادق، دومًا يطلب منها فى ختام رسائله بأن تهتم بنفسها، وتحافظ عليها من المرض.
٪ ٪ ٪
هكذا عرضتِ الرّسائل لجانب آخر لدوستويفسكي؛ كاشفة عن شخصية مُحبِّة، عطوفة، مُخلصة، يرى فى محبوبته خلاصه من كل الأذى الذى لحق به، كما كانت (أى الرسائل) بمثابة يوميات غير مباشرة، اجترّ فيها الكثير مما يعانيه من مشاغل حياتية وإبداعيّة، وما يؤرّقه من آلام المرض، وثِقَل الدّيون وما نتج عنها من ارتباطات مُجحفة مُتعلّقة بالنشر والكتابة، كما ألمحَتْ ذ فى جانبٍ مُهمٍّ منها - عمّا يتحلّى به من مسؤولية على مستوى علاقاته بالآخرين، ومحاولته إسباغ الحَدْبِ والعطف عليهم، ومشاركتهم آلامهم، وظروفهم، وأيضًا على مستوى مسؤولياته ككاتب ملتزم أمام نفسه أولاً بالتعبير عن هموم الضعفاء / الفقراء منذ رائعته االفقراءب (1946)، وثانيا أمام الناشرين بالوفاء بعهوده التى قطعها على نفسه - مُجْبرًا بِسبب الفاقه والعوز - معهم، مهما كلّفه الأمر جَهدًا مضاعفًا يوصل فيه الليل بالنهار، أو كتابته لعمليْن فى نفس الوقت.
إذا كان دوستويفسكى يعتبر ذ فى إحدى رسائله - ادون كيخوتهب أعظمَ كتابٍ بعد الكتاب المقدّس. فإنه -كما يقول الروائى عزت القمحاوى (وهو أحد دراويشه) - وبعد هذه المسافة الفاصلة بيننا وبين دوستويفسكى يمكن القول باطمئنان إن مائة وأربعين عامًا تفصلنا عن رحيله لم تشهد مولد كاتب بحجمهب.وقد يبدو الجواب ماثلاً فى اعتقاد باختين أن دوستويفسكى مثل بروميثيوس فى قصيدة غوته الم يخلق عبدًا بلا صوت، بل أشخاصًا أحرارًا، يستطيعون أخذ مكان بجانب خالقهم، ومجادلته، بل والثورة عليه.