أبداعات عربية

موتى صغار

موتى صغار
موتى صغار

 إبراهيم‭ ‬أبو‭ ‬هشهش‭ - ‬رام‭ ‬الله‭ ‬

 ‮«‬هناك‭  ‬هو‭ ‬الموت‭

‭  ‬لا‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬تحياته‭  ‬قد‭ ‬مسّتهم‭ ‬بمعجزة‭ ‬في‭ ‬الطفولة‭

‭ ‬الموت‭ ‬الصغير‭ ‬كما‭ ‬يفهمه‭ ‬المرء‭ ‬هناك

‭ ‬يتدلى‭ ‬في‭ ‬دواخلهم‭  ‬أخضر‭ ‬لا‭ ‬حلاوة‭  ‬فيه

‭ ‬مثل‭ ‬ثمرة‭  ‬فيهم‭ ‬لا‭ ‬تنضج‭ ‬‮»‬‭   ‬

ريلكه‭: ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الفقر‭ ‬والموت‭ ‬

‭  ‬كأنه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬يومى‭ ‬مع‭ ‬الشعاع‭ ‬الأخير،‭ ‬فحين‭ ‬يصعد‭ ‬الشفق‭ ‬الأحمر‭ ‬فى‭ ‬الغرب‭ ‬والجنوب‭ ‬الغربي،‭ ‬كان‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ينهض‭ ‬فجأة‭ ‬ويمشى‭ ‬خطوات‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬الجبل،‭ ‬يقف‭ ‬قليلا‭ ‬يتأمل‭ ‬فى‭ ‬البعيد،‭ ‬متوجها‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬ومنحرفا‭ ‬قليلا‭ ‬نحو‭ ‬الشرق‭ ‬حيث‭ ‬تنفرج‭ ‬الجبال‭ ‬فى‭ ‬واد‭ ‬يضيق‭ ‬ثم‭ ‬يتسع،‭ ‬فيبدو‭ ‬من‭ ‬بعيد‭  ‬الجبل‭ ‬الذى‭ ‬تقع‭ ‬فى‭ ‬أسفله‭ ‬المقبرة‭ ‬القديمة‭ ‬التى‭ ‬صارت‭ ‬مخصصة‭ ‬للأطفال،‭ ‬بجوار‭ ‬مقبرة‭ ‬بيزنطية‭ ‬مهيبة‭ ‬منحوتة‭ ‬فى‭ ‬الصخر‭ ‬الأصم‭ ‬كأنها‭ ‬بتراء‭ ‬أخرى‭. ‬ثم‭ ‬يضع‭  ‬يديه‭ ‬المنفرجتين‭  ‬خلف‭ ‬أذنيه‭  ‬كأنه‭ ‬يرفع‭ ‬أذانه‭ ‬الخاص،‭ ‬ويعلو‭ ‬صوته‭ ‬الملتاع‭ ‬بنشيده‭ ‬اليومى‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يتغير‭: ‬يا‭ ‬طير‭ ‬الخُظّر‭ ‬سلّمْ‭ ‬عليهم‭ ‬راحوا‭ ‬من‭ ‬ايدينا‭ ‬ورحنا‭ ‬من‭ ‬ايديهم‭ ‬باللهْ‭  ‬يا‭ ‬طير‭ ‬تسلّم‭  ‬عليهم‭ ‬هذول‭ ‬الحبايب‭ ‬الْ‭ ‬كانوا‭ ‬يحبونا‭  ‬كان‭ ‬جبينه‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك‭ ‬يتجعد‭ ‬بثلاثة‭ ‬غضون‭ ‬متموجة،‭ ‬ويكتسى‭ ‬وجهه‭ ‬بأسى‭ ‬غير‭ ‬مفهوم،‭  ‬بينما‭ ‬يغلق‭ ‬إحدى‭ ‬عينيه‭ ‬البنيتين‭ ‬الواسعتين،‭ ‬كان‭ ‬لون‭ ‬عينه‭ ‬المفتوحة‭ ‬يتبدل‭ ‬حسب‭ ‬الضوء‭ ‬من‭ ‬البنى‭ ‬الفاتح‭ ‬إلى‭ ‬الأخضر‭ ‬والأصفر‭ ‬العسلي‭. ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬جلسته‭ ‬على‭ ‬الصخرة،‭ ‬يغرق‭ ‬فى‭ ‬صمته‭ ‬وهو‭ ‬يلف‭ ‬سيجارة‭ ‬هيشى‭ ‬من‭ ‬تبغ‭ ‬والده‭ ‬بورقة‭ ‬منزوعة‭ ‬من‭ ‬دفتر‭ ‬مدرسي،‭ ‬يستمع‭ ‬للرعاة‭ ‬وهم‭ ‬يتحدثون‭ ‬فى‭ ‬موضوعهم‭ ‬المفضل‭: ‬الضباع‭ ‬التى‭ ‬اعترضت‭ ‬آباءهم‭ ‬أثناء‭ ‬سيرهم‭ ‬فى‭ ‬الليل،‭ ‬فلم‭ ‬يجدوا‭ ‬سبيلا‭ ‬لاتقائها‭ ‬سوى‭ ‬إشعال‭ ‬قداحاتهم،‭ ‬فكانت‭ ‬تبتعد‭ ‬قليلا‭ ‬ثم‭ ‬تعود‭.  ‬ويتندرون‭ ‬على‭ ‬الكلاب‭ ‬التى‭ ‬تختبئ‭  ‬فى‭ ‬الطوابين‭ ‬هلعا‭ ‬إذا‭ ‬شمت‭ ‬رائحة‭ ‬ضبع،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬الأبقار‭ ‬التى‭  ‬تطارد‭ ‬الضبع‭ ‬حتى‭ ‬تفتك‭ ‬به‭ ‬خوفا‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬صغارها،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬فقد‭ ‬الرعاة‭ ‬السيطرة‭ ‬عى‭ ‬أبقارهم‭ ‬إذا‭ ‬شمت‭ ‬رائحة‭ ‬الضباع‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬لأحد‭ ‬الجالسين‭ ‬من‭  ‬أن‭ ‬يختم‭ ‬قائلا‭ ‬بنبرة‭ ‬حكيمة‭ ‬إن‭ ‬الضباع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أبدا‭ ‬أن‭ ‬تعترض‭ ‬طريق‭ ‬أخوين‭ ‬يسيران‭ ‬معا،‭ ‬فيؤمّن‭ ‬الآخرون‭ ‬على‭ ‬قوله‭.  ‬فى‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬كان‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬سيكون‭ ‬السارد‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يجارى،‭ ‬وخاصة‭ ‬حين‭ ‬يروى‭ ‬حكاية‭ ‬الزير‭ ‬سالم‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يركب‭ ‬السباع‭ ‬انتقاما‭ ‬منها‭ ‬لأنها‭ ‬قتلت‭ ‬حماره‭. ‬مازلت‭ ‬أذكر‭ ‬وصفه‭ ‬الدقيق‭  ‬للحكيم‭ ‬رحمون‭ ‬اليهودى‭ ‬الذى‭ ‬خاط‭ ‬أشلاء‭ ‬الزير‭ ‬سالم‭ ‬المقطعة‭ ‬إربا‭ ‬اربا،‭ ‬ورش‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬لبنان،‭ ‬وكيف‭ ‬استبقاه‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬ورعاه‭ ‬حتى‭ ‬استعاد‭ ‬عافيته،‭ ‬فصار‭ ‬يتريض‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر،‭ ‬حيث‭  ‬لقح‭ ‬فرسه‭  ‬من‭ ‬حصان‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬فى‭ ‬الليل،‭ ‬واستولد‭ ‬منها‭ ‬مهرا‭ ‬لا‭ ‬يسبق،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬ليفاجيء‭ ‬قوم‭ ‬جساس‭ ‬ويفتك‭ ‬بهم‭.  ‬حين‭ ‬يسرد‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬القصص‭ ‬يتحول‭ ‬فجأة‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬آخر؛‭ ‬كان‭ ‬يتخذ‭ ‬سمتا‭ ‬وقورا،‭ ‬ويبدو‭ ‬أكبر‭ ‬سنّا‭. ‬كانت‭ ‬ذاكرته‭ ‬السردية‭ ‬الفذة،‭ ‬التى‭ ‬تحيط‭ ‬بأدق‭ ‬التفاصيل‭ ‬وتحفظ‭ ‬أشعار‭ ‬الملاحم‭ ‬الشعبية،‭ ‬هى‭ ‬امتداد‭  ‬ذاكرة‭ ‬والده‭ ‬الذى‭ ‬هرب‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬اليمن‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬البلد‭ ‬فى‭ ‬جنوب‭ ‬فلسطين‭ ‬مشيا‭ ‬على‭ ‬قدميه‭. ‬كان‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬الابن‭ ‬الأصغر‭ ‬الملازم‭  ‬لهذا‭ ‬الأب‭ ‬الذى‭ ‬عاصر‭ ‬أربع‭ ‬دول‭. ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬هبوط‭ ‬العتمة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬ينهض‭ ‬أخى‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬ويقف‭ ‬على‭ ‬الحافة‭ ‬نفسها‭  ‬مشيرا‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬ويقول‭: ‬ها‭ ‬هى‭ ‬الكوبانيات‭ ‬قد‭ ‬أشعلت‭ ‬أضواءها‭. ‬فى‭ ‬البعيد‭ ‬كانت‭ ‬ثلاث‭ ‬بقع‭ ‬ضوئية‭ ‬تتلألأ‭ ‬بأنوار‭ ‬الكهرباء‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬يثير‭ ‬مشاعر‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬مجهول،‭ ‬كأننا‭ ‬عشناه‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬سابقة‭. ‬ثم‭ ‬يشعل‭ ‬الرعاة‭ ‬الصغار‭ ‬نارا‭ ‬ويبقون‭ ‬حولها‭ ‬حتى‭ ‬تخمد‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يهبطوا‭ ‬بأغنامهم‭ ‬عن‭ ‬الجبل‭ ‬ويتفرقوا‭. ‬كان‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬أكثر‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرعاة‭ ‬نشاطا‭ ‬وحرصا‭ ‬على‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬الجبال؛‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يوقظنا‭ ‬مع‭ ‬شعاع‭ ‬الفجر‭ ‬الأول،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬عنزة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط،‭ ‬عنزة‭ ‬بلدية‭ ‬عادية‭ ‬صبحاء‭ ‬صار‭ ‬يركض‭ ‬خلفها‭ ‬لاحقا‭ ‬توأمان‭ ‬بندوقان،‭ ‬جدى‭ ‬وسخلة،‭ ‬من‭ ‬نسل‭ ‬الثنى‭ ‬الشامى‭ ‬الأصهب‭ ‬الذى‭  ‬تناسلت‭ ‬منه‭ ‬أغلب‭ ‬جداء‭ ‬وسخول‭ ‬الجوار‭. ‬كان‭ ‬صاحبه‭ ‬أبو‭ ‬محمود‭ ‬شديد‭ ‬الاعتزاز‭ ‬به‭ ‬والرعاية‭ ‬له،‭ ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬وجد‭ ‬عشبة‭ ‬غضة‭ ‬أو‭ ‬حزمة‭ ‬من‭ ‬سنابل‭ ‬شعير‭ ‬تبقت‭ ‬من‭ ‬الحصادين،‭ ‬يضعها‭ ‬فى‭ ‬مخلاته‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬ببقايا‭ ‬لهجته‭ ‬المصرية‭ ‬المميزة‭: ‬للتٍّني‭. ‬ولكن‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬عنزته‭ ‬كأنها‭ ‬كل‭ ‬كنوز‭ ‬الدنيا‭. ‬كان‭ ‬ولدا‭ ‬فقيرا‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬أهله‭ ‬إلا‭ ‬عنزة‭ ‬واحدة،‭ ‬وكان‭ ‬يحب‭ ‬الحليب‭  ‬حبا‭ ‬يجعله‭  ‬دائم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬لذته،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مفهوما‭  ‬لى‭ ‬أنا‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬أطيق‭ ‬مذاقه‭ ‬أبدا‭.  ‬وقد‭ ‬تعلق‭ ‬بعنزته‭ ‬وتعلقت‭ ‬به،‭  ‬وكانت‭  ‬تتبعه‭  ‬كأنها‭ ‬عنزة‭ ‬أزميرالدا‭ ‬فى‭ ‬أحدب‭ ‬نوتردام،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬لحقت‭ ‬به‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬موته‭ ‬ودفنه‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬المقبرة‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يتجه‭ ‬إليها‭ ‬بغنائه‭ ‬الملتاع‭ ‬فى‭ ‬أصيل‭ ‬كل‭ ‬يوم؛‭ ‬فقد‭ ‬ذبحت‭ ‬لتكون‭ ‬‮«‬ونيسة‮»‬‭  ‬لروحه‭ ‬وقدمت‭ ‬طعاما‭ ‬للمعزين‭. ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬حل‭ ‬بتوأميها‭ ‬اللذين‭ ‬صارا‭ ‬يتيمين‭ ‬يتما‭ ‬مضاعفا‭.  ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فى‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ما‭ ‬يوحى‭ ‬بأى‭ ‬ميول‭ ‬انتحارية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬منهمكا‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬مستغرقا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬كانت‭ ‬له‭ ‬شخصية‭ ‬قوية‭ ‬لم‭ ‬يؤثر‭ ‬فيها‭ ‬عرج‭ ‬شديد‭ ‬فى‭ ‬ساقه‭ ‬اليمنى،‭ ‬ولم‭ ‬يمنعه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أى‭ ‬شيء،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬الجرى‭ ‬بسرعة‭ ‬تفوق‭ ‬الآخرين‭ ‬وهو‭ ‬يطوّح‭ ‬بها‭ ‬بشكل‭  ‬نصف‭ ‬دائرى‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك‭. ‬وكانت‭ ‬كلمته‭ ‬مسموعة،‭ ‬يتجنب‭ ‬الجميع‭ ‬سرعة‭ ‬غضبه،‭ ‬وكلامه‭ ‬العنيف،‭ ‬وكان‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬أفراد‭ ‬مجموعته،‭ ‬يشاركهم‭ ‬حلمهم‭ ‬الكبير‭ ‬فى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬حمار‭ ‬يكون‭ ‬لهم‭ ‬جميعا‭.  ‬وقد‭ ‬استغرقهم‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬استغراقا‭ ‬شديدا،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنهم‭ ‬انهمكوا‭ ‬فى‭ ‬إعداد‭ ‬لجام‭ ‬ورسن‭ ‬للحمار‭ ‬الموعود،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أكثرهم‭ ‬شغفا‭ ‬بهذا‭ ‬الحلم،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬حلمه‭ ‬هذا‭  ‬أقرب‭  ‬إلى‭ ‬الهاجس‭ ‬الذى‭ ‬ملك‭ ‬عليه‭ ‬لبّه‭. ‬ثم‭ ‬فى‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬عثروا‭ ‬فى‭ ‬الجبال‭ ‬على‭ ‬جحش‭ ‬يافع‭ ‬قد‭ ‬انفرد‭ ‬لسبب‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬أمه‭ ‬وأصحابه،‭ ‬فأتوا‭ ‬به‭ ‬متحمسين،‭ ‬ووضعوا‭ ‬عليه‭ ‬اللجام،‭ ‬وأنساهم‭ ‬الحماس‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ولكن‭ ‬حين‭ ‬جاء‭ ‬الليل،‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬فجأة‭ ‬عبئا‭ ‬لا‭ ‬يحتمل،‭ ‬فمن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬الحمار‭ ‬الصغير‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬ويقنع‭ ‬أهله‭ ‬بإبقائه‭! ‬كان‭ ‬الحمار‭ ‬المسكين‭  ‬يسير‭ ‬بينهم‭ ‬حائرا‭ ‬مثلهم‭  ‬بينما‭ ‬يزداد‭ ‬قلقهم‭ ‬مع‭ ‬اقتراب‭ ‬المساء‭. ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬فعلوا،‭ ‬ولكنهم‭ ‬فى‭ ‬اليوم‭ ‬التالى‭ ‬أخذوه‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬عثروا‭ ‬عليه،‭ ‬وعادوا‭ ‬خفيفين‭ ‬سعداء‭ ‬بأنهم‭ ‬تخلصوا‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬ثقيل‭. ‬ولم‭ ‬يعودوا‭ ‬إلى‭ ‬ذكر‭ ‬ذلك‭ ‬أبدا‭.  ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬شخصا‭ ‬أكثر‭ ‬مهارة‭ ‬من‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬فى‭ ‬صنع‭ ‬السيارات‭ ‬من‭ ‬الأسلاك‭. ‬كان‭ ‬بيته‭ ‬فى‭ ‬الصيف‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬مشغل‭ ‬يتجمع‭ ‬الأولاد‭ ‬أمام‭ ‬بوابته‭ ‬الخشبية‭ ‬العريضة‭ ‬المغلقة،‭ ‬منتظرين‭ ‬بلهفة‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬إليهم‭ ‬ليأخذ‭ ‬منهم‭ ‬أسلاكهم،‭ ‬أو‭ ‬يعطيهم‭ ‬سياراتهم‭ ‬التى‭ ‬أنجزها‭ ‬حسب‭ ‬الطلب‭: ‬سيارات‭ ‬كاديلاك‭ ‬تسير‭ ‬متموجة‭ ‬بدلال،‭ ‬شاحنات،‭ ‬قلابات،‭ ‬صهاريج،‭ ‬بعجلات‭ ‬هادئة‭ ‬من‭ ‬الأسلاك‭ ‬نفسها،‭ ‬أو‭ ‬صاخبة‭ ‬من‭ ‬علب‭ ‬الصفيح،‭ ‬أو‭ ‬منزلقة‭ ‬بسلاسة‭ ‬من‭ ‬الكرارات‭ ‬الخشبية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالخيوط‭. ‬كان‭ ‬يتلقى‭ ‬أجرته‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬نقودا‭ ‬أو‭ ‬أمتارا‭ ‬من‭ ‬الأسلاك‭ ‬الصحيحة‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬الأشواك‭ ‬كان‭ ‬الأولاد‭ ‬يقطعونها‭ ‬خلسة‭ ‬من‭ ‬سياج‭ ‬شائك‭ ‬يحيط‭ ‬بحديقة‭ ‬المخفر‭ ‬الواسعة‭ ‬وينزعون‭ ‬عنها‭ ‬أشواكها‭ ‬اللولبية‭ ‬المدببة‭. ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ ‬استرقت‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬شقوق‭ ‬البوابة‭ ‬الخشبية‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬الأولاد‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يطيقون‭ ‬صبرا‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬سياراتهم،‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬تحت‭ ‬عريشة‭ ‬الدالية‭ ‬يثنى‭ ‬ساقه‭ ‬الصحيحة،‭ ‬ويمد‭ ‬ساقه‭ ‬الأخرى،‭ ‬وينحنى‭ ‬منكبا‭ ‬على‭ ‬شغله،‭ ‬وأمه‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬بصبر‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬منى‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬أصدقاء‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما،‭ ‬ولكننى‭ ‬لم‭ ‬أتوقع‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬يقوده‭ ‬نزقه‭ ‬إثر‭ ‬خلاف‭ ‬مع‭ ‬أهله‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يسكب‭ ‬الكاز‭ ‬على‭  ‬ثيابه‭ ‬ويضرم‭ ‬النار‭ ‬فى‭ ‬نفسه‭. ‬أخذوه‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬ومكث‭ ‬هناك‭ ‬أسبوعين،‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬الأولاد‭ ‬يزورونه‭. ‬فى‭ ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬جاء‭ ‬أحد‭ ‬الأولاد‭ ‬من‭ ‬زيارته‭ ‬مسرورا،‭ ‬وقال‭: ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬يسلم‭ ‬عليكم،‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬صحة‭ ‬جيدة،‭ ‬ووالده‭ ‬عنده‭ ‬يلف‭ ‬له‭ ‬السجاير‭ ‬ويضعها‭ ‬بين‭ ‬شفتيه‭ ‬ويشعلها‭  ‬له‭. ‬وقد‭ ‬سرّنا‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرا‭. ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬المقمرة‭ ‬التى‭ ‬مات‭ ‬فى‭ ‬فجرها،‭ ‬جاءت‭ ‬بومة‭ ‬ووقفت‭ ‬على‭ ‬حظيرة‭ ‬الأغنام‭ ‬ونعقت‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬نعيقا‭  ‬فجائيا‭ ‬أشبه‭ ‬بمواء‭  ‬قطة‭ ‬غاضبة،‭ ‬ثم‭ ‬طارت‭.  ‬كان‭ ‬عندنا‭ ‬أحد‭ ‬الأقارب‭ ‬يتحدث‭ ‬مع‭ ‬والدي،‭ ‬فوضع‭ ‬كوب‭ ‬الشاى‭ ‬وصمت،‭ ‬ووجم‭ ‬الجميع‭. ‬قامت‭ ‬أمى‭ ‬وهى‭ ‬تهتف‭ ‬شاتمة‭ ‬البومة‭  ‬بصوت‭ ‬مرتفع‭: ‬فالِك‭ ‬على‭ ‬حالِك،‭ ‬فالك‭ ‬على‭ ‬حالك،‭ ‬فالك‭ ‬عى‭ ‬حالك‭! ‬ثم‭ ‬عادت‭ ‬وقالت‭: ‬القوقةُ‭ ‬حطت‭ ‬على‭ ‬سطح‭  ‬بيت‭ ‬أهل‭ ‬الولد‭ ‬المسكين‭ ‬عبد‭ ‬الله‭. ‬فى‭ ‬الصباح‭ ‬أحضروه،‭ ‬عرفنا‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬صوات‭ ‬النساء‭. ‬ذهبت،‭ ‬فوجدت‭ ‬الناس‭ ‬قد‭ ‬تجمعوا‭.  ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬سجّوه‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬وأغلقوا‭ ‬عليه‭ ‬الباب‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬النساء‭. ‬خرجت‭ ‬أخته‭ ‬الكبرى‭ ‬واستدارت‭ ‬حول‭ ‬البيت‭  ‬وتشبثت‭ ‬بالنافذة‭  ‬مطلّةً‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬ونادت‭: ‬يا‭ ‬حبيبي،‭ ‬يا‭ ‬جملي‭! ‬ولما‭ ‬خرجت‭ ‬الجنازة‭ ‬إلى‭ ‬المقبرة‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬مصاطب‭ ‬اللوز‭ ‬لم‭ ‬أتبعها،‭ ‬ولكننى‭ ‬رافقت‭ ‬النسوة‭ ‬فى‭ ‬أول‭ ‬خميس‭ ‬للزيارة‭. ‬جلسنا‭ ‬حول‭ ‬القبر‭ ‬الطينى‭ ‬وقرأنا‭ ‬الفاتحة،‭ ‬وقرأ‭ ‬ولد‭ ‬كان‭ ‬يرافق‭ ‬أمه‭ ‬سورة‭ ‬ياسين‭ ‬من‭ ‬مصحف‭ ‬أحضره‭ ‬معه،‭ ‬وشرعت‭  ‬النساء‭ ‬فى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬شطارة‭ ‬عبد‭ ‬الله‭  ‬وفلاحته،‭ ‬ولكن‭ ‬أمه‭ ‬ظلت‭ ‬صامتة،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬لقد‭ ‬ظلت‭ ‬صامتة‭ ‬طوال‭ ‬الخمسة‭ ‬عشر‭ ‬عاما‭ ‬التالية‭ ‬التى‭ ‬سبقت‭ ‬موتها،‭ ‬ولم‭ ‬تفعل‭ ‬شيئا‭ ‬سوى‭ ‬الجلوس‭ ‬والتحديق‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭. ‬ثم‭ ‬طلبت‭ ‬منا‭ ‬إحدى‭ ‬النساء‭ ‬أن‭ ‬نغادر‭ ‬لأنهن‭ ‬يردن‭ ‬البكاء‭. ‬استغربت‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬البكاء‭ ‬إراديا‭ ‬هكذا‭ ‬حسب‭ ‬الطلب‭. ‬قمت‭ ‬مع‭ ‬الأولاد‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أخذنا‭ ‬الإبريق‭ ‬الذى‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬الماء،‭ ‬وذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬بئر‭ ‬قديمة‭ ‬لتجميع‭ ‬ماء‭ ‬الشتاء‭. ‬نزعت‭ ‬حزامي،‭ ‬وأخذت‭ ‬أحزمة‭ ‬الأولاد‭ ‬الجلدية‭ ‬وربطتها‭ ‬معا‭ ‬بالإبريق‭ ‬وأدليته‭ ‬فى‭ ‬البئر‭ ‬حتى‭ ‬غطس‭ ‬وامتلأ‭  ‬فسحبته،‭ ‬ولكن‭ ‬عند‭ ‬الفوهة‭ ‬انفك‭ ‬آحد‭ ‬الأحزمة‭ ‬فهوى‭ ‬الإبريق‭ ‬الممتلئ‭ ‬فى‭ ‬البئر،‭ ‬ولما‭ ‬اصطدم‭ ‬بسطح‭ ‬الماء‭ ‬فى‭ ‬القاع،‭ ‬أحدث‭  ‬دويّا‭ ‬تردد‭ ‬صداه‭ ‬الموحش‭ ‬فى‭ ‬تجويف‭ ‬البئر‭ ‬الحجري‭. ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬صار‭ ‬الموت‭ ‬عندى‭ ‬سقوطا‭ ‬فى‭ ‬بئر‭ ‬عميقة؛‭ ‬فحين‭ ‬أسمع‭ ‬خبر‭ ‬الوفاة‭ ‬يكون‭ ‬الأمر‭ ‬كأن‭ ‬شخصا‭ ‬دحرج‭ ‬صخرة‭ ‬ثقيلة‭ ‬ووضعها‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬بئر‭ ‬سحيقة،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬وبلا‭ ‬أى‭ ‬مقدمات،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الحياة‭ ‬قد‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬وقعها‭ ‬الاعتيادي،‭ ‬تهوى‭ ‬هذه‭ ‬الصخرة‭ ‬فى‭ ‬البئر‭ ‬محدثة‭ ‬دويا‭ ‬عميقا‭: ‬هكذا‭ ‬يهوى‭  ‬جلمود‭ ‬الموت‭ ‬فى‭  ‬أعماقي‭. ‬بعد‭  ‬ثلاثة‭ ‬أسابيع‭ ‬ماتت‭ ‬أختى‭ ‬ودفنت‭ ‬فى‭ ‬قبر‭ ‬صغير‭ ‬مجاور‭ ‬لقبر‭ ‬عبد‭ ‬الله‭.‬