إبراهيم أبو هشهش - رام الله
الموت
«هناك هو لا ذلك الذي تحياته قد مسّتهم بمعجزة في الطفولة
الموت الصغير كما يفهمه المرء هناك
يتدلى في دواخلهم أخضر لا حلاوة فيه
مثل ثمرة فيهم لا تنضج »
ريلكه: من كتاب الفقر والموت
كأنه كان على موعد يومى مع الشعاع الأخير، فحين يصعد الشفق الأحمر فى الغرب والجنوب الغربي، كان عبد الله ينهض فجأة ويمشى خطوات إلى حافة الجبل، يقف قليلا يتأمل فى البعيد، متوجها إلى الجنوب، ومنحرفا قليلا نحو الشرق حيث تنفرج الجبال فى واد يضيق ثم يتسع، فيبدو من بعيد الجبل الذى تقع فى أسفله المقبرة القديمة التى صارت مخصصة للأطفال، بجوار مقبرة بيزنطية مهيبة منحوتة فى الصخر الأصم كأنها بتراء أخرى. ثم يضع يديه المنفرجتين خلف أذنيه كأنه يرفع أذانه الخاص، ويعلو صوته الملتاع بنشيده اليومى الذى لا يتغير: يا طير الخُظّر سلّمْ عليهم راحوا من ايدينا ورحنا من ايديهم باللهْ يا طير تسلّم عليهم هذول الحبايب الْ كانوا يحبونا كان جبينه أثناء ذلك يتجعد بثلاثة غضون متموجة، ويكتسى وجهه بأسى غير مفهوم، بينما يغلق إحدى عينيه البنيتين الواسعتين، كان لون عينه المفتوحة يتبدل حسب الضوء من البنى الفاتح إلى الأخضر والأصفر العسلي. ثم يعود إلى جلسته على الصخرة، يغرق فى صمته وهو يلف سيجارة هيشى من تبغ والده بورقة منزوعة من دفتر مدرسي، يستمع للرعاة وهم يتحدثون فى موضوعهم المفضل: الضباع التى اعترضت آباءهم أثناء سيرهم فى الليل، فلم يجدوا سبيلا لاتقائها سوى إشعال قداحاتهم، فكانت تبتعد قليلا ثم تعود. ويتندرون على الكلاب التى تختبئ فى الطوابين هلعا إذا شمت رائحة ضبع، على خلاف الأبقار التى تطارد الضبع حتى تفتك به خوفا منه على صغارها، وكثيرا ما فقد الرعاة السيطرة عى أبقارهم إذا شمت رائحة الضباع. ولا بد لأحد الجالسين من أن يختم قائلا بنبرة حكيمة إن الضباع لا يمكن أبدا أن تعترض طريق أخوين يسيران معا، فيؤمّن الآخرون على قوله. فى غير هذا الموضوع كان عبد الله سيكون السارد الذى لا يجارى، وخاصة حين يروى حكاية الزير سالم الذى كان يركب السباع انتقاما منها لأنها قتلت حماره. مازلت أذكر وصفه الدقيق للحكيم رحمون اليهودى الذى خاط أشلاء الزير سالم المقطعة إربا اربا، ورش عليها من ماء الحياة فى لبنان، وكيف استبقاه على قيد الحياة ورعاه حتى استعاد عافيته، فصار يتريض كل يوم على شاطئ البحر، حيث لقح فرسه من حصان يخرج من البحر فى الليل، واستولد منها مهرا لا يسبق، ثم عاد ليفاجيء قوم جساس ويفتك بهم. حين يسرد عبد الله القصص يتحول فجأة إلى شخص آخر؛ كان يتخذ سمتا وقورا، ويبدو أكبر سنّا. كانت ذاكرته السردية الفذة، التى تحيط بأدق التفاصيل وتحفظ أشعار الملاحم الشعبية، هى امتداد ذاكرة والده الذى هرب من حرب اليمن فى بداية القرن العشرين، وعاد إلى البلد فى جنوب فلسطين مشيا على قدميه. كان عبد الله الابن الأصغر الملازم لهذا الأب الذى عاصر أربع دول. بعد قليل من هبوط العتمة، لا بد أن ينهض أخى مثل كل يوم، ويقف على الحافة نفسها مشيرا إلى الجنوب، ويقول: ها هى الكوبانيات قد أشعلت أضواءها. فى البعيد كانت ثلاث بقع ضوئية تتلألأ بأنوار الكهرباء. كان ذلك يثير مشاعر من الحنين إلى شيء مجهول، كأننا عشناه فى حياة سابقة. ثم يشعل الرعاة الصغار نارا ويبقون حولها حتى تخمد قبل أن يهبطوا بأغنامهم عن الجبل ويتفرقوا. كان عبد الله أكثر هؤلاء الرعاة نشاطا وحرصا على الصعود إلى الجبال؛ فقد كان يوقظنا مع شعاع الفجر الأول، رغم أنه لم يكن له سوى عنزة واحدة فقط، عنزة بلدية عادية صبحاء صار يركض خلفها لاحقا توأمان بندوقان، جدى وسخلة، من نسل الثنى الشامى الأصهب الذى تناسلت منه أغلب جداء وسخول الجوار. كان صاحبه أبو محمود شديد الاعتزاز به والرعاية له، وكان كلما وجد عشبة غضة أو حزمة من سنابل شعير تبقت من الحصادين، يضعها فى مخلاته وهو يقول ببقايا لهجته المصرية المميزة: للتٍّني. ولكن عبد الله كان ينظر إلى عنزته كأنها كل كنوز الدنيا. كان ولدا فقيرا لا يملك أهله إلا عنزة واحدة، وكان يحب الحليب حبا يجعله دائم الحديث عن لذته، وهذا أمر لم يكن مفهوما لى أنا الذى لا أطيق مذاقه أبدا. وقد تعلق بعنزته وتعلقت به، وكانت تتبعه كأنها عنزة أزميرالدا فى أحدب نوتردام، حتى أنها لحقت به بعد ثلاثة أيام من موته ودفنه فى تلك المقبرة التى كان يتجه إليها بغنائه الملتاع فى أصيل كل يوم؛ فقد ذبحت لتكون «ونيسة» لروحه وقدمت طعاما للمعزين. ولا أعرف ماذا حل بتوأميها اللذين صارا يتيمين يتما مضاعفا. لم يكن فى عبد الله ما يوحى بأى ميول انتحارية، فقد كان منهمكا فى الحياة مستغرقا فى كل شيء. كانت له شخصية قوية لم يؤثر فيها عرج شديد فى ساقه اليمنى، ولم يمنعه ذلك من أى شيء، بل كان قادرا على الجرى بسرعة تفوق الآخرين وهو يطوّح بها بشكل نصف دائرى أثناء ذلك. وكانت كلمته مسموعة، يتجنب الجميع سرعة غضبه، وكلامه العنيف، وكان مثل بقية أفراد مجموعته، يشاركهم حلمهم الكبير فى الحصول على حمار يكون لهم جميعا. وقد استغرقهم هذا الحلم استغراقا شديدا، لدرجة أنهم انهمكوا فى إعداد لجام ورسن للحمار الموعود، غير أنه كان أكثرهم شغفا بهذا الحلم، بل صار حلمه هذا أقرب إلى الهاجس الذى ملك عليه لبّه. ثم فى يوم من الأيام عثروا فى الجبال على جحش يافع قد انفرد لسبب ما عن أمه وأصحابه، فأتوا به متحمسين، ووضعوا عليه اللجام، وأنساهم الحماس كل شيء، ولكن حين جاء الليل، أصبح هذا الحلم فجأة عبئا لا يحتمل، فمن يستطيع أن يأخذ الحمار الصغير إلى البيت ويقنع أهله بإبقائه! كان الحمار المسكين يسير بينهم حائرا مثلهم بينما يزداد قلقهم مع اقتراب المساء. لا أعرف ماذا فعلوا، ولكنهم فى اليوم التالى أخذوه إلى حيث عثروا عليه، وعادوا خفيفين سعداء بأنهم تخلصوا من عبء ثقيل. ولم يعودوا إلى ذكر ذلك أبدا. لا أعرف شخصا أكثر مهارة من عبد الله فى صنع السيارات من الأسلاك. كان بيته فى الصيف يتحول إلى مشغل يتجمع الأولاد أمام بوابته الخشبية العريضة المغلقة، منتظرين بلهفة أن يخرج إليهم ليأخذ منهم أسلاكهم، أو يعطيهم سياراتهم التى أنجزها حسب الطلب: سيارات كاديلاك تسير متموجة بدلال، شاحنات، قلابات، صهاريج، بعجلات هادئة من الأسلاك نفسها، أو صاخبة من علب الصفيح، أو منزلقة بسلاسة من الكرارات الخشبية الخاصة بالخيوط. كان يتلقى أجرته على ذلك نقودا أو أمتارا من الأسلاك الصحيحة الخالية من الأشواك كان الأولاد يقطعونها خلسة من سياج شائك يحيط بحديقة المخفر الواسعة وينزعون عنها أشواكها اللولبية المدببة. مرة واحدة فقط استرقت النظر إليه من شقوق البوابة الخشبية كما يفعل الأولاد الذين لا يطيقون صبرا للحصول على سياراتهم، كان يجلس تحت عريشة الدالية يثنى ساقه الصحيحة، ويمد ساقه الأخرى، وينحنى منكبا على شغله، وأمه تنظر إليه بصبر. ومع أن عبد الله كان أكبر منى بثلاث سنوات، إلا أننا كنا أصدقاء على نحو ما، ولكننى لم أتوقع قط أن يقوده نزقه إثر خلاف مع أهله إلى أن يسكب الكاز على ثيابه ويضرم النار فى نفسه. أخذوه إلى المستشفى ومكث هناك أسبوعين، كان بعض الأولاد يزورونه. فى آخر يوم جاء أحد الأولاد من زيارته مسرورا، وقال: عبد الله يسلم عليكم، وهو فى صحة جيدة، ووالده عنده يلف له السجاير ويضعها بين شفتيه ويشعلها له. وقد سرّنا ذلك كثيرا. فى وقت مبكر من تلك الليلة المقمرة التى مات فى فجرها، جاءت بومة ووقفت على حظيرة الأغنام ونعقت ثلاث مرات نعيقا فجائيا أشبه بمواء قطة غاضبة، ثم طارت. كان عندنا أحد الأقارب يتحدث مع والدي، فوضع كوب الشاى وصمت، ووجم الجميع. قامت أمى وهى تهتف شاتمة البومة بصوت مرتفع: فالِك على حالِك، فالك على حالك، فالك عى حالك! ثم عادت وقالت: القوقةُ حطت على سطح بيت أهل الولد المسكين عبد الله. فى الصباح أحضروه، عرفنا ذلك من صوات النساء. ذهبت، فوجدت الناس قد تجمعوا. كانوا قد سجّوه فى غرفة وأغلقوا عليه الباب خوفا من النساء. خرجت أخته الكبرى واستدارت حول البيت وتشبثت بالنافذة مطلّةً عليه من الخارج، ونادت: يا حبيبي، يا جملي! ولما خرجت الجنازة إلى المقبرة الواقعة بين مصاطب اللوز لم أتبعها، ولكننى رافقت النسوة فى أول خميس للزيارة. جلسنا حول القبر الطينى وقرأنا الفاتحة، وقرأ ولد كان يرافق أمه سورة ياسين من مصحف أحضره معه، وشرعت النساء فى الحديث عن شطارة عبد الله وفلاحته، ولكن أمه ظلت صامتة، بل فى الحقيقة لقد ظلت صامتة طوال الخمسة عشر عاما التالية التى سبقت موتها، ولم تفعل شيئا سوى الجلوس والتحديق فى الأرض. ثم طلبت منا إحدى النساء أن نغادر لأنهن يردن البكاء. استغربت كيف يكون البكاء إراديا هكذا حسب الطلب. قمت مع الأولاد بعد أن أخذنا الإبريق الذى فرغ من الماء، وذهبنا إلى بئر قديمة لتجميع ماء الشتاء. نزعت حزامي، وأخذت أحزمة الأولاد الجلدية وربطتها معا بالإبريق وأدليته فى البئر حتى غطس وامتلأ فسحبته، ولكن عند الفوهة انفك آحد الأحزمة فهوى الإبريق الممتلئ فى البئر، ولما اصطدم بسطح الماء فى القاع، أحدث دويّا تردد صداه الموحش فى تجويف البئر الحجري. منذ ذلك الوقت صار الموت عندى سقوطا فى بئر عميقة؛ فحين أسمع خبر الوفاة يكون الأمر كأن شخصا دحرج صخرة ثقيلة ووضعها على حافة بئر سحيقة، ثم بعد أيام وبلا أى مقدمات، وبعد أن تكون الحياة قد عادت إلى وقعها الاعتيادي، تهوى هذه الصخرة فى البئر محدثة دويا عميقا: هكذا يهوى جلمود الموت فى أعماقي. بعد ثلاثة أسابيع ماتت أختى ودفنت فى قبر صغير مجاور لقبر عبد الله.