قصص القرآن.. واستضعاف بنى إسرائيل

الشعراوي
الشعراوي

يُفسِّر الحق سبحانه هذا استضعاف فرعون لبنى إسرائيل «يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ» القصص: 4» فيقول «يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ» وقلنا: إن الإفساد أن تأتى على الصالح بذاته فتفسده، فمن الفساد إذن قتْل الذُّكْران واستحياء النساء؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا باستبقاء النوع، فقتل الذّكْران يمنع استبقاء النوع، واختار قَتْل الذكْران: لأنهم مصدر الشر بالنسبة له، أمّا النساء فلا شوكة لهُنَّ، ولا خوفَ منهن؛ لذلك اتسبقاهُنَّ للخدمة وللاستذلال.
وحين نتتبع هذه الآية نجد أنها جاءت فى مواضع ثلاثة من كتاب الله، لكل منها أسلوب خاص، ففى الآية الأولى يقول تعالى:»وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ» «البقرة: 49».،وفى موضع آخر: «يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ» «الأعراف: 141» وهاتان الآيتان على لسان الحق تبارك وتعالى.أما الأخرى فحكاية من الله على لسان موسى عليه السلام حين يُعدِّد نِعَم الله تعالى على بنى إسرائيل، فيقول: «اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ»«إبراهيم: 6».
فالواو فى «وَيُذَبِّحُونَ» «إبراهيم: 6» لم ترد فى الكلام على لسان الله تعالى، إنما وردتْ فى كلام موسى؛ لأنه فى موقف تَعداد نِعَم الله على قومه وقصده؛ لأن يُضخِّم نعم الله عليهم ويُذكِّرهم بكل النعم، فعطف على «يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب» «إبراهيم: 6» قوله «وَيُذَبِّحُونَ».لكن حين يتكَلَّم الله تعالى فلا يمتنُّ إلا بالشيء الأصيل، وهو قتْل الأولاد واستحياء النساء؛ لأن الحق تبارك وتعالى لا يمتنّ بالصغيرة، إنما يمتنُّ بالشيء العظيم، فتذبيح الأبناء واستحياء النساء هو نفسه سوء العذاب.
وقوله مرة «يُذَبِّحُونَ» ومرة «يُقَتِّلُونَ» لأن قتل الذّكْران أخذ أكثر من صورة، فمرَّة يُذبِّحونهم ومرة يخنقونهم. ومعنى: «يَسُومُونَكُمْ» من السَّوْم، وهو أنْ تطلب الماشية المرعى، فنتركها تطلبه فى الخلاء، وتلتقط رزقها بنفسها لا نقدمه نحن لها، وتسمى هذه سائمة، أما التى نربطها ونُقدِّم لها غذاءها فلا تُسمَّى سائمة.فالمعنى «يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب» يعني: يطلبون لكم سوء العذاب، وما داموا كذلك فلابد أنْ يتفنَّنوا لكم فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ «،فلن يدوم لفرعون هذا الظلم؛ لأن الله تعالى كتب ألاّ يفلح ظَلُوم، وألاَّ يموت ظلوم، حتى ينتقم للمظلوم منه، ويُريه فيه عاقبة ظلمه، حتى إن المظلوم ربما رحم الظالم،وهنا تُطالعنا غضبة الحق تبارك وتعالى للمؤمنين «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض» والمنة: عطاء مُعوّض، وبدون مجهود من معطى المنة، كأنها هِبَة من الحق سبحانه، وغضبة لأوليائه وأهل طاعته؛ لأن الحق تبارك وتعالى كما قال الإمام علي: إن الله لا يُسلِم الحق، ولكن يتركه ليبلو غَيْرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا عليه غَارَ هو عليه.
والحق تبارك وتعالى حينما يغَارُ على الذين استُضعِفوا لا يرفع عنهم الظلم فحسب، وإنما أيضاً «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً» أئمة فى الدين وفى القيم، وأئمة فى سياسة الأمور والملك «وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين» أي: يرثون مَنْ ظلمهم، ويكونون سادةً عليهم وأئمةً لهم، فانظر على كم مرحلة تأتى غيرة الله لأهل الحق.ولولا أن فرعون الذى قوى على المستضعفين وأذلَّهم تأبَّى على الله ورفض الانقياد لشملته رحمة الله، ولعاشَ هو ورعيته سواء.