«حارة الحمزاوى».. قلعــــة العطارين

«آخرساعة» ترصد أحوال مهنة العطارة فــــــى سوقها الأقدم

قلعــــة العطارين
قلعــــة العطارين

أعدت الملف: ندى البدوى

«يا عطّارين دلّوني، الصبر فين أراضيه.. ولو طلبتوا عيونى خدوها بس ألاقيه»، فى الأغنية التى شدت بها قبل 70 عامًا، تستجدى المطربة المصرية «أحلام» العطارين ليصفوا لها دواءً للصبر يُخفّف آلام روحها، الحالةُ التى استلهمتها من علاقةٍ شديدة القِدم والخصوصية تربط المصريين بأهل العطارة وعالمهم الغنى بالتفاصيل والأسرار.

ولا تقتصر هذه العلاقة على سد احتياجات موائدهم من التوابل والبهارات، إذ كان العطار قديمًا بمثابة "الحكيم" الذى يملكُ وصفات العلاج والتداوى بالأعشاب والبذور والزيوت الطبيعية، معتمدًا على المعارف التقليدية المتوارثة، التى تعتمد بالأساس على الكتب والعلوم القديمة التى تُنظِّر لواحدة من أقدم المهن التى عرفتها البشرية، ورغم التغيرات الهائلة التى طرأت على مهنة العطارة، والتحديات المستمرة التى تواجهها، يسعى العطارون للحفاظ على ميراثهم من الأجداد لحماية المهنة من الدخلاء عليها، وتطويرها بما يتلاءم مع مستجداتها واحتياجات السوق وتفضيلات الزبائن..
هنا "الحمزاوى الصغير" قلعة العطارين بحى الجمّالية، التى ظلت لعشرات السنين مقصدًا للمصريين يلجأون إليها للتداوى والحصول على احتياجاتهم من أصناف العطارة المختلفة، فالحارة الضيقة التى لا يتعدى عرضها ثلاثة أمتار، مازالت تحتفظ بأصالتها معبقة بتاريخها الذى يمتد لعقودٍ طويلة، باقترابك من الحارة المُمتدة من شارع الأزهر حتى شارع المعز ملاصقة لمسجد الأشرف برسباي، تستقبلك روائح التوابل والأعشاب والبخور والزيوت التى تفوح من الدكاكين الصغيرة ذات الجدران الخشبية، متداخلة مع صوت هدير المطاحن وفِصال الزبائن مع العطارين فى مزيج مُفعم بالحياة، والبهجة التى يبعثها شهر رمضان المُبارك، الذى تمتلئ قبل قدومه محال العِطارة هنا بأصناف المنتجات الرمضانية التى تحظى بإقبال المصريين بمختلف فئاتهم.
بين الأجولة المتراصّة على جانبى الممر الضيق، يضم "الحمزاوى الصغير" أكثر من 50 محلاً للعطارة، منها ما بقى على حاله ومنها ما تم تجديده وتوسعته. ينهمك رجب عيد فى تحضير طلبات الزبائن داخل محله الذى مازال يحتفظ بملامحه العتيقة، يخبرنى أن الإقبال على أصناف العطارة والمنتجات الرمضانية هذا الموسم فاق التوقعات، وأسهم فى زيادة حركة البيع داخل الحارة بعد فترة من الركود، متابعًا: الناس تريد أن تشعر بفرحة رمضان رغم الحالة الاقتصادية وضغوط الحياة واستمرار جائحة كورونا، التى تسببت فى ارتفاع أسعار أصناف الياميش بنسبة تقترب من 15%، نظرًا لزيادة قيود الاستيراد وتأثر حركة الشحن والتجارة العالمية.
 ويوضح عيد أن أغلب أصناف الياميش يتم استيرادها من الخارج، وتأتى بالأساس من سوريا وإيران وتركيا والولايات المتحدة، خاصة قمر الدين والقراصيا والتين المُجفف والمشمشية وجوز الهند، غير الزبيب والمكسرات من اللوز والبندق والفستق وعين الجمل، التى تُستخدم فى حشو القطايف والحلويات المختلفة. كما يُقبل الناس على المشروبات والعصائر الرمضانية على رأسها التمر الهندى والسوبيا والعرقسوس.
"العطارة مش أكل عيش دى حاجة كدا فى دمنا".. يقول طارق عنتر واصفًا علاقته بالمهنة التى يعمل بها لأكثر من ثلاثين عامًا، منذ كان طفلاً صغيرًا يصطحبه والده إلى دكانه فى حارة العطارين. العلاقة التى لم ينجح فى تكدير صفوها التحديات الاقتصادية التى يرى أنها تعصف بسوق العطارة، المشكلة الرئيسية التى تواجه العطارين كما يُشير تتمثل فى ضغوط المورّدين الذين يتحكمون فى البضائع المستوردة، ما أدى لارتفاع أسعار مواد العطارة، واختفاء كثير من الأصناف. فأكثر من 70% من التوابل والأعشاب والزيوت والبخور تستورد من الخارج، وعلى رأس الدول التى نستورد منها الهند والصين وسيريلانكا وفيتنام وأفغانستان وتركيا، فضلاً عن دول أمريكا اللاتينية خاصة البرازيل والمكسيك. ورغم التأثير الذى طالنا جرّاء انتشار جائحة كورونا، إلا أن هناك إقبالا من الزبائن على العديد من الأصناف منها الأعشاب المُقوّية للمناعة، منها الجنزبيل وينسون النجمة والكركم وحبّة البركة والقسط الهندى والقرفة والقرنفل.
ويرى محمود سيد متولى أحد عطّارى "الحمزاوى الصغير" أن التوسع فى الإنتاج المحلى لمواد العطارة الذى زاد خلال الفترة الأخيرة، من شأنه أن ينعكس بشكل إيجابى على سوق العطارة، إلا أن عملية الاستيراد لا يُمكن أن تتوقف كما يُشير لأن هناك أصنافا كثيرة تُزرع فى بيئاتها، ولا تتلاءم مع الظروف الجوية والبيئية لدينا. مضيفًا: أما محليًا فهناك العديد من النباتات الطبية ومنتجات العطارة التى تأتى من مناطق متعددة فى سيناء على رأسها سانت كاترين، ومحافظة الوادى الجديد وأسوان.
متابعًا: منها أصناف تعدُّ أساسية لدى الزبائن، مثل الفلفل البلدى والكمون والكزبرة والشطة والروز المارى والزعتر، غير النعناع وزهر البابونج والمرمرية والكركديه والكراوية والينسون. كما نزرع بذر الخلة وعشبة الحلفا بر أو حشيش الجمل، التى تعتبر من مدرات البول الطبيعية وتخلص الجسم من الأملاح الزائدة، كذلك القرض الذى يخرج من شجر السنط، الذى يُساعد فى علاج الالتهابات الجلدية، غير نباتات الشيح والبردقوش والشمر والشعير والمشمش الحموي. ويوضح متولى أن هناك تغيرات طرأت على أذواق وتفضيلات الزبائن خلال السنوات الأخيرة، فأصبحنا مثلاً نتوسع فى إعداد الخلطات الجاهزة من بهارات الطبخ لأصناف الطعام المختلفة، منها بهارات الفراخ والسمك واللحوم، والخلطات الخاصة لتجهيز المحشي، غير خلطات الكفتة والشاورما والحواوشى والبرجر، فالمرأة العاملة الآن ليس لديها وقت مثل السيدات فى السابق.
رغم الصعوبات التى يواجهها العطارون، يفخرون هنا بمهنتهم فلا يعتبرون العطارة مهنةً قدر ما يشعرون أنها هويّة، يستاءون من الدخلاء الذين أساءوا للمهنة بغير خبرةٍ أو أمانة، "دجالو القنوات الفضائية أساءوا إلينا ببيع الوهم للناس".. بنبرةٍ تحمل قدرًا من الأسى يُبادرنى مصطفى العربي، مشيرًا إلى أن هناك الكثير من المحتالين والنصابين الذين ليس لهم أى علاقة بالمهنة، يدّعون خبرتهم فى التداوى بالأعشاب الطبيعية، ويبيعون منتجات مزيفة وغير مجدية بأسعار خيالية، ما ينعكس بشكل سلبى على ثقة الناس بالعطارين.
46عامًا قضاها مصطفى فى المهنة التى توارثها عن والده، فعائلة العربى تعد من أقدم العائلات الموجودة بحارة العطارين، حيث جاء والده إلى هنا منذ عام 1948، ليتعلم على يد الحاج الصاوى أحد كبار العطارين آنذاك، قبل أن يفتتح هذا المحل عام 1964. يُشير إلى عشرات الأجولة الممتلئة بمنتجات العطارة بألوانها الزاهية المتباينة: هذه المهنة تحتاج إلى خبرة ومعرفة حقيقية للإلمام بالأصناف الهائلة للأعشاب والعطارة وفوائدها واستخداماتها المُختلفة، هناك الآلاف من أنواع البهارات والنباتات والأعشاب الطبيعية حول العالم، نتداول هنا فى مصر ما يزيد عن ألف صنف منها، الصنف الواحد من العطارة قد يكون له أكثر من اسم، الاسم العلمى والاسم التجارى أو المُتداول شعبيًا.
متابعًا: كثير من الوصفات المرتبطة باستخدامات الأعشاب الطبيعية كانت متوارثة، ومستقاة من كتب السابقين فى مجال التداوى بالأعشاب، إلا أن العطّار يجب أن يُصقل خبرته ويطوّر أدواته بالاطلاع المستمر والدراسة، خاصة مع التطور المستمر فى البحث العلمى فى هذا المجال فى مراكز الأبحاث والجامعات بمصر والعالم، لذا حصلت على عدة دورات فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كما حصلت على دبلومة فى علوم الأعشاب الطبيعية من جامعة كولورادو بالولايات المتحدة الأمريكية. نحن لا ندّعى علاج الأمراض أو نروّج لاستبدال العلاج الدوائى بالأعشاب بشكل تام، لكن بالتأكيد هناك نباتات طبيعية لا حصر لها تسهم بشكل كبير فى تخفيف العديد من الأعراض، وتُحسِّن من الصحة العامة للإنسان لما لها من فوائد هائلة، فشركات الدواء حول العالم تستخدم الأعشاب الطبيعية فى صناعتها.
من أهم الأعشاب لدينا عشبة الجنسنج التى تُساعد على تنشيط الدورة الدموية وتقوية الذاكرة ولها العديد من الفوائد الأخرى، ونبتة الشيح التى تُعد من أهم مضادات الأكسدة، كما تُساعد المورينجا بشكل كبير فى مقاومة البكتيريا والفيروسات كونها غنية بالعديد من الفيتامينات والإنزيمات، ويسهم أيضًا حب الرشاد والحرمل فى الحد من خشونة العظام والمفاصل، كما تعد عشبة الإخنيسيا والراوند ممتازة لتقوية جهاز المناعة وتوسيع الشعب الهوائية، كذلك أعشاب الخزامى والبابونج والتيليو وأوراق الجوافة تُستخدم لتهدئة السعال وتعد من مذيبات البلغم.