سنحتفل في المشهد الاخير

محمد صلاح عبد المقصود
محمد صلاح عبد المقصود

يشهد التاريخ بأنهالعلاقات المصرية الإثيوبية لم تكن مثالية على الدوام، لكنه يشهد في المقابل أيضاً أنه يوجد على الدوام شعرة معاوية بين البلدين، و التي يحرص كلا الطرفين على ألا تنقطع، و لو كان هناك شيء يمثل هذه الشعرة، فلن تجد أبرز من نهر النيل بوصفه النهر الأعظم و الأكبر، و الذي يمتد على الخارطة و كأنه شريان تاجي يهب كل بلدانه الحياة و الاستقرار، و يجعل علاقاتهم مع بعضهم البعض أقرب إلى المصير الذي لا مفر و لا هرب منه!

تؤكد الجغرافيا على تعدد المنابع و الأنهار لهذا النهر العجوز الطيب، و كأنها وشائج و صلات دم و نسب ربطت بين جميع الشعوب المطلة عليه، سيبهرك مشهد عناق الروافد بالأنهار الرئيسية في قلب القارة السمراء، و الذي يبدو و كأنه موعد عشق ضربه بنو آدم في هذه البقعة من الأرض منذ بدء الخليقة و حتى قيام الساعة.

لكن تتابع الأنباء و الأخبار غير السارة مؤخراً قد يهيئ للبعض أن ثمة شئ جديد قد تغير، و أن القلوب البيضاء لم تعد بيضاء، و أن هناك أياد تمتد لتعبث في منابع هذا القلب في عملية جراحية بائسة، من أجل قطع شريان الحياة عن مصر، و التي يعرفها العالم كله على أنها هبة هذا النهر، و ابنته البكر!

ما تغير في منابع النيل كثير، مياه كثيرة جرت في النهر، والجميع يدفع اليوم فاتورة الطلاق السري بين مصر وعمقها الأفريقي لأكثر من ثلاثين عاماً، و لعلني لا أبالغ لو قولت أن أكثر المجهودات التي بذلتها الإدارة المصرية الحالية كانت في استعادة التواجد المصري في قلب قارتها الأم، فمثلما تحتاج مصر لإفريقيا في المياه، تحتاج أفريقيا على الدوام إلى مصر كشقيق أكبر يتدخل ليصلح ما تفسده قوى الشر بين أبناء البلد الواحد في هذه المنطقة من العالم، و كقائد لعمليات التنمية التي تحقق لكل الشركاء أهدافهم، و للشعوب أمنها و استقرارها و سلامها في الوقت نفسه!

واليوم بعدما بعدما تأزمت الأمور و تشددت المواقف، وأصبح جلياً أن المنطقة تستعد لأمر ما، وجب علينا أن نتفهم جيداً و ندرك من نواجهه في أفريقيا، من يقف ضدنا في الحبشة، من يصر على أن يتحكم في بلادنا جميعاً، و يستثمر في صراعات عدة للفوز بموارد القارة السمراء بأبخس الأثمان و أقل الأسعار!

أول ما نواجهه في أثيوبيا دولاً عظمى تعتمد على مصر في جني مكاسب أصبحت بالنسبة لهم من الثوابت، فمصر التي نهضت و نفضت عن ملابسها غبار سنين من النوم و الكسل، و التي كانت يوماً ما هي سلة غلال الكوكب، و أصبحت في غفلة من الزمن هي المستورد الأكبر للقمح عالمياً، قررت مصر أن تحقق اكتفائها الذاتي من القمح، و أن تتوسع في زراعته، بل و أن تتوسع في زراعة كل ما تستورده، و أن توفر لأبنائها ما يزيد عن مليار و نصف دولار سنوياً من الواردات الزراعية!

ما يجب أن تفهمه هذه الدول أن التوسع المصري في مجال الزراعة ليس رفاهية و لا استثماراً، بقدر ما هو تحرك فرضته متغيرات عديدة، أبرزها تحقيق السلام الاجتماعي عبر توفير فرص عمل لملايين من الشباب العاطل عن العمل، سواء كان ذلك في الزراعة أو في الأنشطة التجارية و الصناعية القائمة عليها، هذه ضرورة لا غنى عنها للمجتمع المصري الذي يعاني بجوار آثار فيروس كورونا الاقتصادية من آثار ثورتين خلال عشرة سنوات.

كما لم يحقق التوسع الزراعي المصري مصلحة محلية فحسب، و لم تستفد منه مصر وحدها، فعندما تكسرت سلاسل الإمداد الدولية أثناء أزمة كورونا العام الماضي، عادت مصر كسلة غذاء للعالم، و وفرت احتياجات عدد غير قليل من دول العالم من المواد الغذائية.

ثاني ما تواجهه مصر في الحبشة، هو بعض القوى الإقليمية التي ترى في إثيوبيا ملاذها الآمن و مركب النجاة في مواجهة عقد دولي قادم يتسم بالجفاف الشديد و ندرة الموارد المائية، هذه القوى الإقليمية التي يزعجها انتفاضة المارد المصري، و تحوله المرعب من الاستهلاك الشره إلى الإنتاج الضخم في شتى المجالات، مدعوماً بإرادة سياسية حقيقية في امتلاك القدرة على الإنتاج، و تحقيق اكتفاء ذاتي حقيقي يضمن لمصر أمنها و استقرارها و سلامة شعبها.

إن سألتني لما كل هذا العناد والمراوغة من الجانب الاثيوبي، سيكون المتهم الأول في هذه القضية تلك القوى الاقليمية، التي تعطي اثيوبيا المال باليمين و تسلبها الحياة باليسار، و تدس لها السم في العسل، و تقنعها أن مصر ستقبل بأي أمر واقع يفرض في منابع النيل، و تلك حسابات خاطئة و مراهقة سياسية تتورط فيها اثيوبيا دون أن تدري، و تقاد عبرها إلى مصير محتوم لا يحمل أي خير لها و لا لشعبها، كما أغفل أصحاب هذه الحسابات عمداً عوامل الارادة و الشخصية المصرية، و العلاقة المقدسة ما بين الشعب المصري و نهره الخالد.

ثالث ما نواجهه في الحبشة القوى الاقتصادية الدولية، و التي ترغب في افتتاح سوق جديد للماء كسلعة استراتيجية، تحتكر هذه القوى به سر الحياة بغطاء زائف من الانسانية و دفاع مغرض عن حقوق الدول التي تعاني من جفاف و ندرة موارد المياه، لا يهمها الفارق بين المياه الطبيعية التي وهبها الله للجميع، و بين المياه الجوفية التي تستتخرج من باطن الأرض، و لا تكترث هذه العصابات بحقوق تاريخية أو معاهدات دولية، هم يراهنون على السلاح و كلمته في ازالة هاتين العقبتين!

هذه القوى تحديداً هي التي تكبل المجتمع الدولي بكل مكوناته و مؤسساته الفاعلة، و تتلاعب بهم و تجبرهم على الصمت انتظاراً لنتائج هذه المعركة، و التي ستحدد نتائجها ملامح هذه السوق الدولية الوليدة!

مع كل هذه القوى التي نجحت في تعقيد ملف سد النهضة، يظهر عدد من صغار البشر و الجماعات و الابواق الاعلامية البترولية، و الذين يتاجرون اعلامياً بهذا الملف، و يستعملونه في اذكاء خلافات داخلية بين المصريين، و يضربون الثقة فيما بين القيادة السياسية المصرية و شعبها، في دعارة سياسية أدمنها هؤلاء الصغار، و لم يعد لهم وسيلة للعيش دونها.

الرسالة الأخيرة هنا يجب أن تكون للشعب المصري، لا شك عندي في أن المصريين على أتم استعداد للتضحية بكل غال أو نفيس من أجل نهر النيل، الذي هو وطن و شريان حياة و قدس أقداس الدولة المصرية، لكنها رسالة واجبة و ضرورية حتى يعلم الجميع كيف وصلنا إلى هذا المنحنى الخطر و التهديد الوجودي، كي لا تتكرر هذه الأخطاء مستقبلاً!

فمع الثورة العشوائية وُضِع حجر أساس السد، و مع التمادي في اشعال الاوضاع الداخلية استمر البناء، و مع انتخاب جماعة ارهابية تكفل ابعادها عن السلطة آلاف الشهداء و المصابين خلال أربعة أعوام من العمليات الارهابية، ظهر السد على أرض الواقع بعدما كان أشرس أعداء مصر لا يتخيل ذلك حتى في أسعد أحلامه!

يهمني فقط أن يدرك الشعب المصري أن انحناء بلاده يوماً واحداً فقط سيكلفنا جميعاً سنوات طوال من العمل حتى نتخلص من آثاره، أما السد و حقوقنا التاريخية في نهر النيل، فلا أشك لوهلة في نجاح كل مؤسسات الدولة المصرية في الحفاظ عليها، و تجنيب مصر و شعبها كل السلبيات و المخاطرمهما اختلفت الخطة أو الطريقة، أثق تماماً أن لهذا الوطن رجال و قادة سيلقنون كل من حاك لنا الشر درساً قاسياً لا ينساه أبد الدهر!

الايام بيننا، سنحتفل في المشهد الأخير!

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا