الإيرانيون يتنفسون عبر السينما

أحد مشاهد الفيلم الإيراني
أحد مشاهد الفيلم الإيراني

كتب: خالد‭ ‬محمود

- المهرجانات‭ ‬العالمية‭ ‬تتحدى‭ ‬حملة‭ ‬طهران‭ ‬القمعية‭ ‬ضد‭ ‬صانعي‭ ‬الأفلام‭ ‬وتمنح‭ ‬المخرجين‭ ‬الإيرانيين‭ ‬أفضل‭ ‬جوائزها

- «أغنية البقرة البيضاء» فيلم يروى قصص الحياة التي مزقتها عقوبة الإعدام في المجتمع الإيراني

أجمل ما في السينما الإيرانية تلك المعالجات الفنية المدهشة لقضايا اجتماعية معقدة وشائكة، بالقطع لا ينفصل البعد الساسى الذى بات السمة الغالبة لأفلامها وفكر مخرجيها، خاصة تلك التي تعرض على شاشة المهرجانات الكبرى وتنقل صورة إيران من الداخل وتكشف الكثير عن المسكوت عنه.

السينما أصبحت الصوت الأقوى فى مواجهة القمع والظلم، نعم هناك إجراءات صارمة وتهديدات وأحكام بالحبس وعدم ممارسة المهنة لعدد من المخرجين، لكن هؤلاء المخرجين الذين وصلوا إلى منصات التتويج العالمية يصرون على طرح رؤاهم وأفكارهم على الشاشة فى سباحة ضد التيار، لكنهم فى غمار تجاربهم انحازوا للفن، وأن يكون له شهادته على ما يحدث بالمجتمع الإيرانى.

آخر تلك الشهادات السينمائية كان فيلم "أغنية البقرة البيضاء" الذى عرض بمسابقة الدورة الـ71 لمهرجان برلين السينمائى من تأليف وإخراج مريم مقدم وبهتاش سنيحة، وبطولة مريم مقدم وعلى رضا سنيفار.

يرتكز الفيلم بالكامل على قصة سعى أرملة رجل تم إعدامه ظلما بتهمة القتل إلى حين تحقيق العدالة، تلك القصة تمثل صوتا قويا آخر إلى مجموعة الأفلام المناهضة لعقوبة الإعدام وحيثياتها فى إيران، حيث رأينا ذلك الحكم الذى يعد بمثابة جريمة فى مقدمة الفيلم.

لعبت الأرملة التى تدعى "مينا" باقتدار ذلك الدور، خاصة وهى مهمومة بتربية ابنتها الصماء بمفردها والتنقل فى حقل ألغام فى مجتمع شديد الكراهية للنساء، لكن مع تصاعد العداء ضد مينا من عائلتها وجيرانها والسلطات، تلوح الكارثة فى الأفق وتصبح القصة أكثر تشويقًا، وتتأرجح على حافة الميلودراما بواقعية التمثيل والتصوير الكلاسيكى الذى جعل مسار العمل يسير باتجاه مقبول.

اللقطات الأولى تصور مبنى ضخما وحديثا محاطا بالجدران وتحيط به جبال طهران الشاهقة يوحى بشكل رمزى عن مجتمع بأسره وقع فى فخ ابتكاره، تزور مينا زوجها "بابك " بالدموع للمرة الأخيرة خلف باب حديدى، وكما سيظهر الفيلم، فهو ليس الضحية الوحيدة لعقوبة الإعدام التى تم تطبيقها على نطاق شاسع فى البلاد.

مينا التى تعمل فى خط تجميع خيوط فى مصنع تخفى الحقيقة عن ابنتها "بيتا " بشأن الأب لكنها تخبرها أن والدها قد ذهب بعيدًا فى رحلة طويلة، ينصحها المحيطون بصراحة أن تنساه وتقبل مشيئة الله، لكن بعد فوات الأوان.

وأعرب القضاة عن أسفهم لارتكاب خطأ مؤسف مثل قتل الرجل الخطأ، بينما الزوجة لا يكفيها الاعتذار الخاص وتطالب بحساب عام، وتبدأ مينا معركة صامتة ضد نظام ساخر من أجلها ومن أجل ابنتها، بمجرد نفاد أموالها ثم تحدث مفاجأة بشخص غريب قال إن اسمه رضا (على رضا سانيفار) يقرع بابها ويعرض عليها نقوداً مدعيا أنه مدين لبابك ويؤجر شقة كبيرة لها وابنتها بينما يخفى هويته الحقيقية.

الحبكة الدرامية تزداد بريقا مع صورة متوازنة بعناية من اللون الأبيض والرمادى الفاتح، واللقطات المباشرة والحد الأدنى من حركة الكاميرا، مما يجعل كل مشهد ممتعًا للنظر إليه، كما كانت الصورة السريالية المتكررة لبقر يقف فى وسط ساحة السجن بين صفين مفصولين بين الجنسين من الرجال والنساء رمزا كبيرا ويبدو أنها تحمل رسالة مناهضة للعنف وربمايسهل على الجمهور الإيرانى فهمها.

قد يبدو هذا ظلمًا كافيًا تحمله شخص واحد، بعد أن أصبحت مينا أرملة، طردت من وظيفتها، ومن شقتها، وضغط عليها شقيقها المزعج للزواج، لتواجه خياراتها المحدودة.

الواقعية الجديدة التى صورتها مريم مقدم فى تجربتها الإخراجية الثانية بمشاركة المخرج بهتاش سنيحة (أخرجا سويًا فيلمًا تسجيليًا عام 2018 عن مواطن إيرانى يريد التوسط فى مصالحة بين بلده والولايات المتحدة)، تبدو قاسية للغاية لكنها أيضًا قصة مرونه فى مجتمع.

يضع قيودًا هائلة على النساء، لا يشعرنا الفيلم بأدنى قدر من الطابع التعليمى، على الرغم من أسلوبه القاسى بشكل غير عادى، وقدما ببراعة الذنب والتكفير، وهو مجاز كلاسيكى للفيلم الإيرانى، كسينما ذات إيماءات ومساحات صغيرة ودقيقة. تتفوق مريم مقدم فى دور مينا العالقة بين الوحدة والنضال من أجل تقرير المصير.

فى بعض منطق الفيلم تتألق النزعة الإنسانية، وتتركز فى أداء مريم الرائع والمدهش بمشاعره الحزينة، والذى يتغير اعتمادًا على ما إذا كانت الشخصية يتم ملاحظتها فى الأماكن العامة أو الخاصة، فى معظم المواقف الأخرى، تكون مريم ملزمة بالتخلص من عواطفها، وتجعل نفسها غير مرئية عمليًا (كما تفعل فى عملها فى المصنع، وكلها تختفى بين علب الحليب) وأن تخفى جمالها. فى المشاهد النادرة عندما تضع أحمر الشفاه أو تزيل حجابها، يبدو عليها الحزن وكأنها تتخذ سلوكا متوازنا من رباطة الجأش والضعف، ونتذكر مشهدها الرائع فى طريقها إلى السجن حيث سيتم إعدام زوجها باباك قريبًا، ومع السماح لها بالزيارة نجد باب الزنزانة مغلقًا فى هذه اللحظة الخاصة.

نجح "أغنية البقرة البيضاء" فى أن يروى قصص الحياة التى مزقتها عقوبة الإعدام فى إيران، وهى نفس الازمة التى تطرقت لها افلام اخرى مثل" لا وجود للشر" للمخرج محمد رسولوف الذى تم تصويره سرا فى تحد للحكومة الإيرانية حيث يوجه انتقاداته المباشرة لها - وخاصة سياسات عقوبة الإعدام، ويحكى قصة 4 أشخاص تم اختيارهم لتنفيذ الإعدام والورطة الأخلاقية التى تعرض لها كل منهم وتداعيات ما سيظهرونه من تحد عليهم وعلى المحيطين بهم.

فالقصص الأربعة تظهر كيف يلقى نظام مستبد بشباكه على المواطنين العاديين بغرض جرهم نحو الوحشية فى هذا الاتجاه.

أبطال الفيلم مخيرون بين المقاومة أو البقاء أحياء، هم يرفضون الاستسلام لكنهم لا يملكون القدرة على المقاومة فى الوقت ذاته.

أكثر ما يميز الفيلم جرأته فى التناول وخاصة فى مسألة عقوبة الاعدام الجماعى، وربما قرر المخرج تصوير تلك الأزمة الخانقة بصورة صريحة، لأنه لم يعد هناك مجال للجوء للرمزية.

وحصل الفيلم على جائزة الدب الذهبى لمهرجان برلين السينمائى فى دورته السبعين وقال الممثل جيرمى ايرونز رئيس لجنة التحكيم حينئذ " الفيلم " يطرح أسئلة عن مسؤولياتنا وخياراتنا التى نقوم بها فى الحياة.

ولم يسمح لرسولوف بمغادرة البلاد لتسلم الجائزة، حيث حكم عليه بعدم ممارسة السينما لمدة عشرين عاما.

وتسلمت ابنته باران التى تمثل فى هذا الفيلم أيضا الجائزة بدلا منه، وقالت "إننى مرتبكة وسعيدة جدا بهذه الجائزة ولكن فى نفس الوقت فإننى حزينة لأنها لمخرج لم يستطع التواجد هنا الليلة، ولذلك فبالإنابة عن كل الفريق أقول هذه له".   

وقد بدأت مشكلات "رسولوف" مع نظام الملالى قبل 3 سنوات حين قدم فيلمه المثير للجدل "Man of Integrity" والذى انتقد خلاله عددا من المسئولين الحكوميين.

وما تزال المهرجانات السينمائية الكبرى فى العالم تتحدى بانتظام حملة طهران القمعية ضد صانعى الأفلام من خلال منح المخرجين الإيرانيين أفضل جوائزها أو دعوتهم للعمل فى لجان التحكيم الخاصة بها.