محمود درويش.. «مديح الظل العالي» نقطة تحوله إلى «الغموض الشفاف»

محمود درويش
محمود درويش

بحرٌ لأيلولَ الجديدِ.. خريفُنا يدنو من الأبوابِ… بحرٌ للنشيدِ المرِّ.. هيَّأنا لبيروتَ القصيدةَ كُلَّها
بحرٌ لمنتصفِ النهارِ.. بحرٌ لراياتِ الحمامِ، لظلِّنا، لسلاحنا الفرديِّ.. بحرٌ للزمانِ المستعارِ
ليديكَ، كمْ من موجةٍ سرقتْ يديكَ.. من الإشارةِ وانتظاري 
ضَعْ شكلنا للبحرِ.. ضَعْ كيسَ العواصفِ عند أول صخرةٍ
واحملْ فراغَكَ… وانكساري…واستطاعَ القلبُ أن يرمي لنافذةٍ تحيَّتهُ الأخيرةَ

هكذا يفتتح الشاعر الفلسطيني محمود درويش قصيدته الأشهر «في مديح الظل العالي»، قصيدة طويلة ومركبة، يبدو أنها ترثي بيروت، إذ تلوح أبياتها لمدينة احتضنت الشاعر في أهم فترات حياته، ثم خرج منها بعدما وقعت في براثن حرب أهلية شرسة، تُوجت باجتياح صهيوني للعاصمة بيروت. 


لكنها قصيدة غامضة، تتلوى داخلها الكلمات، وتهرب المعاني، كأنها في مطاردات طويلة بشوارع بيروت الضيقة، ويمكنك أن تلحظ ذلك على امتداد قراءتك لشعر محمود درويش، حيث يتصف بالغموض كعلامة بارزة.

«الغموض» في شعر درويش

على إثر ذلك الغموض، أجرى الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 1973 حوارا على التلفزيون المغربي، أشار فيه إلى التغير الذي طرأ على أسلوبه الشعري بقوله: "في الأرض المحتلة كانت لغتنا بسيطة، لأننا كنا نهتم بالهدف السياسي قبل الفني، والاهتمام كان بالمواجهة والبساطة لأن الكلمة كانت هي المحرض".

اقرأ أيضا| طفولة محمود درويش | لم يحب الجغرافيا وحول معادلات الكيمياء إلى شعر

إلا أن هذه اللغة البسيطة تغيرت، وتطورت، مع التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدها، فبحسب المترجم والمستشرق الألماني شتيفان فايدنر فإن شعر "درويش" امتاز في مرحلة الستينيات بالسهولة في التناول، وذلك على عكس ما امتاز به شعره في مرحلة الثمانينيات وما تلاها، كما أن تتبع المراحل الفاصلة في القضية الفلسطينية، كان له أثر بالغ في تشكيل قاموسه اللغوي.

في حديثه عن شعره، يصف "درويش" الغموض الذي يفضله بـ "الغموض الشفاف غير المفتعل" والذي هو "نتاج إبداع النص"، إذ تغيرت لغة درويش الشعرية بتغير السياق المكاني مع خروجه من الأرض المحتلة، حيث تعاطى مع الرمزية بصورة أوسع، لكنها لم تكن "غامضة"، ودلالة ذلك ما أوضحه درويش في حوار تلفزيوني أجراه عام 1983 حينما عدَّ تفاعل الجمهور مع شعره دليل على وضوح نصوصه الشعرية، وأن تفاعل الجمهور هو المقياس لغموض ووضوح الشعر.

ومؤكدا أن الفرق بين ما يوصف من شعره بأنه سهل وبين ما يوصف من شعره بأنه صعب ليس في الحقيقة خلافا مرتبطا بدرجة الغموض، بل في "العمر المعرفي والشعري" بينهما؛ يكمل درويش: "بعد معركة بيروت قلت إنني سأكبح نزواتي وأنني رجل المهمات الصعبة أعني على مستوى العمل الفني، فأنا لا أكتب شعرا سهلا بعد الآن، وأشعر أن شعبي يطالبني بأن أتفاعل وأتعامل مع أرقى المستويات الشعرية العالمية، ومن هنا جاء قولي إني رجل المهام الصعبة، فشعبي أيضا يحتاج إلى تعبير فني وجمالي وحضاري متقدم".

محطة تاريخية في حياته

كانت تلك اللحظة، هي المحطة التاريخية التي قرر فيها "درويش" ألا يكتب شعرا سهلا يفهمه كل واحد، ليتحول إلى شعر بمستوى عالٍ من الخصوصية التي تتناسب مع خصوصية القضية الفلسطينية والجرح الفلسطيني العربي، وكانت أولى هذه المهام الصعبة التي كان على "درويش" أن يكتب عنها، تلبية لرغبة جمهوره وتمثيلا لقضيته، متمثّلة في التعبير عن الاجتياح الإسرائيلي لبيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا.

أصابت درويش بعد تلك الحادثة "مشاعر سوداء" ألهمته قصيدة "مديح الظل العالي"، والتي تعد من أهم أعماله، وتكونت داخل شعر "درويش" عدة مفاهيم مثل: المنفى والشتات والعودة، والفضاء الآخر للفلسطيني المنفي وللشاعر المجروح، هذه المفاهيم صبغت شعر "درويش" ببعض الرموز التي تنطلق من أشد خصوصيات الإنسان الفلسطيني المنفي، مثل البيت والحصان والشجرة وحتى أكبر الحوادث الإقليمية والعالمية، مثل اجتياح بيروت وغيرها من حوادث.

ومستعينا بالأساطير تارة، وبذاكرته الشخصية والتاريخية تارة أخرى، طرح درويش شعرا ممتلئا بالخيال والرموز، وملغّما بالذكريات والمشاعر، وهو ما عبر عنه الكاتب يوسف ضمرة، بقوله عن درويش: "تراجيديا بيروت هيّجت مخيلته كما لم تفعل بشاعر آخر".

مديح الظل العالي

في قصيدته "مديح الظل العالي"، والتي خطّها بعد مجزرة صبرا وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، يتناول درويش المجزرة والشتات مرة أخرى، لكن هذه المرّة بشيء من الأمل، أو بثقة المناضل، وتنعكس هذه الموثوقية في بعض أجزاء القصيدة حين يوصي درويش قائلا: "هي هجرة أخرى فلا تذهب تماما"، و"هي هجرة أخرى فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما".

هذا الأمل أو الحماسة الموجودة في "مديح الظل" أوضح درويش سياقها الخاص بقوله: "أحمل سخطا ومشاعرَ سوداء بعد ما حصل في بيروت؛ فالاجتياح ليس حدثا عابرا في تاريخ شعبي ولا أمتي وأنا لا أستطيع وللأبد أن أغفر للإسرائيليين وللأميركيين وللصمت العربي الرسمي ما فعلوه في بيروت" .

ويؤكد: "أنا الآن جندي صغير في خدمة الثورة الفلسطينية، وأنا في خدمة المؤسسة الفلسطينية"، كان هذا التصريح في ثمانينيات القرن الماضي، وفي هذا السياق تحديدا، وبحضور الرئيس الفلسطيني الراحل أبو عمار "ياسر عرفات"، ألقى درويش قصيدته "مديح الظل العالي" لتكون قصيدة جماهيرية، تعبر عن قضية الشاعر بلغة عالية لا تستجيب لمن لا يعرف تاريخ المذبحة، ومن لا يفهم الكيفية التي يتحدث بها الإنسان عن المنفى والشتات.