حديث الأسبوع

ظـلال من الشك على المستقبل

عبدالله البقالى نقيب الصحفيين المغاربة
عبدالله البقالى نقيب الصحفيين المغاربة

بقلم/ عبدالله البقالى

لم تكن يومية )البايس( الإسبانية المنبر الإعلامى الوحيد، الذى نبه إلى أن تدابير العزلة الذاتية القسرية، التى فرضتها تداعيات انتشار وباء كورونا ستكون لها تأثيرات على البنية الديموغرافية فى الدول الأوروبية، حيث أكدت أن هذه الأسباب كانت وراء انخفاض معدل الولادات فى العديد من الأقطار الأوروبية، وبحيث نزل هذا المعدل فى شبه الجزيرة الأيبيرية مثلا إلى 22،6 بالمائة فى بداية السنة الجارية مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية، فى حين هوى نفس المعدل فى إيطاليا إلى 21،6 بالمائة، وفى فرنسا إلى 13 بالمائة، بل إن الوتيرة المتسارعة لانتشار هذا الوباء الخبيث شغلت الأوساط المهتمة بالقضايا السكانية فى العالم متنبئة بتحولات كبيرة فى البنية الديموغرافية فى العالم بأسره.

وتشير هذه الأوساط إلى أن الانخفاض الحاد فى الوظائف، وارتفاع معدلات الوفيات بسبب الإصابة بفيروس كورونا، والنقص فى الغذاء، وصعوبة الولوج إلى خدمات صحية ملائمة، والخوف مما سيأتى مستقبلا فى العديد من مناطق العالم أدى إلى سيادة قناعات جديدة تهدف إلى تأجيل بناء الأسر وإرجاء الزيادة فى عدد أفراد هذه الأسر.

الأكيد أن الظروف الصعبة التى يجتازها العالم بسبب الأزمة الصحية الطارئة التى أحدثت هزات عميقة فى المفاهيم وفى القناعات، ألقت بظلال مكثفة وكثيرة من الشك والغموض على المستقبل القريب والمنظور، لأن لا أحد يملك أجوبة مقنعة وشافية حول مجمل الأسئلة الحارقة التى ألقت بها جائحة كورونا لدى الرأى العام العالمى، وكل ما يملكه هذا الرأى العام من معطيات يفيد بأن الأزمة لا تزال فى مرحلة خصوبة شديدة، تفرز مزيدا من الإشكاليات المستعصية ومن القضايا الشائكة، التى تؤشر على أن مرحلة الحيرة والغموض ستدوم لسنوات، هذا إن لم تعمر لحقب طويلة من الزمان.

و من الطبيعى أن تلقى هذه الحالة بظلال مكثفة على التفكير الإنسانى الفردى والجماعى منه.ولذلك ليس من السهل القول بأن البنية الديموغرافية العالمية ستكون بمعزل عن هذه المعطيات، بل الأكيد والواضح أن التأثيرات القوية التى طالت المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية فى الكون سيكون لها ما بعدها فيما يتعلق بالمسألة السكانية فى العالم.

تفاصيل هذه التأثيرات كثيرة ومتعددة، فالفيروس ركز فى بدايته على فئة عمرية معينة، وهى التى تكبدت أكبر الخسائر، ويتعلق الأمر بالمسنين، وهى الفئة التى تتميز بالهشاشة الاجتماعية وبضعف المناعة فى مواجهة المخاطر الصحية، ولم تفلح أقوى نظم الحماية الاجتماعية فى العالم، وخصوصا لدى الدول العظمى، فى التقليل من التكاليف الباهظة التى دفعتها هذه الفئة، والتى تمثلت أساسا فى الارتفاع المهول فى معدلات الوفيات فى صفوفها، وكم كانت الدلالة بليغة حد الحزن على القيم الإنسانية فى كثير من الأقطار، حينما اضطرت العديد من المنظومات الصحية فى العالم إلى إعطاء الأولوية فى العلاج من الفيروس للفئة العمرية الشابة، بدعوى أن المسنين نالوا حظهم ونصيبهم من الحياة، وأن المنظومة الصحية الراهنة المتوفرة لا تسمح بالاستجابة للغط القوى الذى واجهته، لذلك ارتأت بعض الدول الاهتمام أولا بالفئات الأقل سنا، لأنها ستضمن استمرار الحياة، وهذا مؤشر هام على أن شرائح المسنين وذوى الهشاشة الصحية، ستبقى مرشحة للتضحية بها فى زمن الأزمات الصحية، الأمر الذى لم يكن معتادا فى البنية الديموغرافية التقليدية.

ليس هذا فحسب، بل إن هناك معطيات أخرى تزيد من حجم الشك والخوف من القادم من الأيام الصعبة. فقد ألقت منظمة )اليونسيف( بحجرة كبيرة فى هذه المياه غير الراكدة، حينما تنبأت فى تقرير حديث لها بسيناريوهات مقلقة فى هذا الصدد. فقد أكدت أنه وإلى حدود نهاية السنة الماضية بلغت نسبة الإصابة بالفيروس لدى الفئة العمرية ما بين 10 و19 سنة 11 بالمائة من أصل أكثر من 25،7 مليون إصابة فى 87 دولة، وهذا يؤشر إلى انتشار مخيف للفيروس فى أوساط فئة عمرية كانت معدلات الإصابة لديها فى البداية جد منخفضة.

وأضافت المنظمة أنه "على امتداد 12 شهرا، إذا تحققت أسوأ سيناريوهات انقطاع الخدمات وارتفاع مستويات سوء التغذية، فقد تقع حوالى مليونى وفاة إضافية للأطفال دون سن الخامسة، كما قد يعانى ما بين 6 و7 ملايين طفل آخرين من نفس السن من الهزال أو سوء التغذية الحاد. كما أن 140 مليون طفل آخرين يعيشون فى أسر فقيرة يعوزها المال وزادت أوضاعها استفحالا بسبب تداعيات الجائحة".

و هكذا يتضح أن الأخطار التى تهدد البنية الديموغرافية العالمية لا تقتصر على المسنين فقط، بحيث كل ما كانت أعدادهم مرتفعة تكون الحاجة أكثر إلحاحا إلى أنظمة حماية اجتماعية قوية، وإلى تكاليف جد مرتفعة، ومتطلبات متزايدة فى الموارد المالية، خصوصا فى أزمنة الأزمات الصحية الطارئة والخطيرة، كما حدث خلال الأزمة الراهنة، بل إن العنوان البارز للأخطار الجديدة امتدت فى الأزمة الراهنة إلى فئات عمرية متعددة ومختلفة، بمعنى أنها تسللت إلى صلب هذه البنية بسبب التداعيات التى ألقت بها الجائحة على مختلف مجالات وأوجه العيش، من تدنى المداخيل، وفقدان مناصب الشغل، وصعوبة الولوج إلى الخدمات الصحية، والحصول على الغذاء الكافى واللازم، ناهيك عن المخلفات النفسية التى تمثلت فى سيادة مظاهر الخوف والقلق وعدم الاطمئنان إلى ما هو قادم من زمن لا تخفى المؤشرات الحالية صعوبته وقساوته على البشرية جمعاء.

ما يثير الحفيظة فى هذا الصدد أن المجتمع الدولى منشغل عن هذه القضايا الخطيرة التى تهدد مستقبل الكون بقضايا تهم المنافسة الحادة على مناطق النفوذ فى العالم، وبالسباق المحموم نحو امتلاك اللقاح الذى يحقق المناعة الصحية القطرية، ويلغى المناعة الصحية العالمية من أى حسبان، وغيرها من القضايا التى تؤشر على بداية نظام عالمى جديد لما بعد الجائحة سيكون مختلفا عن سابقه الذى كان سائدا ما قبلها.