رحــلات فـى غـرف مــغـلقة

رحلات في حجرة الكتابة
رحلات في حجرة الكتابة

بقلم/ أحمد الزناتي

أتكلّم هنا عن ثلاثة أعمال يربطها خيط واحد. سحبتُ طــرف خـيــط الأول فـجــَـــرَّ فى ذيله اثنيْن. الكتاب الأول اسمه «رحلة فى حجرتي» للكاتب والمفكّر والسياسى الفرنسى جوزيف دوميستر (أو جزافييه وفق النطق الصحيح)،وهو من مواليد سنة 1763 .التحق بالجيش كضابط وقاتَـــلَ فى عدة معارك ثم استقرّ فى مدينة سان بيترسبيرج. وقد ظهر الكتاب للمرة الأولى فى سنة 1794 وضمّ إليه ثلاث قصص قصيرة (الكتاب مُتاح بالفرنسية وبالإنجليزية للتحميل المجاني). الكتاب صغير الحجم، وهو عبارة عن تدوين لملاحظات وذكريات وطرائف وهجاءحاد للمجتمع أحيانًا، مكتوب على هيئة مخاطبة طويلة من المؤلف إلى القاريء. رحلة يقطعها الكاتب فى أرجاء حجرته، هي رحلة ظاهرها الطواف في أرجاء الغرفـة، وباطنها الخيال الهائم في كل وادٍ. صحيحٌ أن العمل ينتمي إلى القرن الثامن عشر إلا أنه يحمل فى كل صفحة من صفحاته جميعها ملامح أدب القرن العشرين بكل سوريا ليته وهمومه ومشكلاته، ولا أستبعد أن صمويل بيكيت الضليع بالفرنسية، والمــؤلِـف بلسانـها والمترجِم عنها وإليها، وكذلك بول أوستر وهو لمن لا يعلم مترجم مخضرم عن اللغة الفرنسية قـد تأثّرا تأثرًا قويًا بهذا الكتاب كما سأشير لاحقًا.

فى الفصل الأول يخاطب دومستر الجمهور قائلاً: «لا، لن أواصل الاحتفاظ بكتابى سراً. أيها السادة الأفاضل: هاؤم اقرءوا كتابي. لقد عزمت على القيام برحلة فأتممتها فى اثنين وأربعين يوماً، أطوف بأرجاء حجرتى، فأحببتُ أن أنشر على الملأ ما طاف بخاطرى من ملاحظات، وما سرّنى فى أثناء الطريق. هى متعة تجوال المرء فى غرفته، بعيدًا عن غيرة الغيورين ومن دون بذل مال. فلا أشقى على الإنسان من افتقاده إلى مأوى ينقطع فيه عن العالم. وأنا على يقين من أن كل إنسان فطِن سيحذو حذوى مهما كانت طباعه وصفاته».

نقلتُ هذه الفقرة لأنها لبّ العمل وغاية المؤلف؛ العثور على مأوى يغيب فيه عن العالم، حصن حصين بتعبير المؤلف لاحقًا. لا يسير العمل على نسق واحد ولا يلتزم حبكة واضحة، كل غاية المؤلف هى الكتابة والبوح متحصنًا بجدران غرفته، شذرات ونتف وذكريات من هنا وهناك عن حياته وخادمه وصديق قديم مات فى سنّ مبكرة وقصص غرامية وسياسية، إلخ. فى الفصل الثالث يقول دوميستر إن سيقطع رحلته حول الغرفة فى اثنين وأربعين يومًا بدلًا من ثلاثة وأربعين يومًا أو أية مدة أخرى، مؤكدًا أنه لا يعرف لِمَ اختار اثنين وأربعين يومًا لا أكثر ولا أقل، لأنه يجهل سبب ذلك، المهم أن رحلته ستمتد على ما تحب وتهوى، ربما تكون رسالة مبطنة للقارىء: لا تشغل بما لا يُـعنيك. وفى فصل لاحق، وأقصد بالفصل هنا صفحة لأن الفصل لا يزيد عن ورقة واحدة وأحيانًا فقرة واحدة، يخاطب المؤلف قرائّه قائلًا: « قبل المضىّ قدمًا فى الرحلة أودّ أن أبدد شكوكًا قد تراود نفوس قُـرائّي. لا أريد أن يظنّ بى القارىء أننى هممتُ بهذه الرحلة لكونى رجلًا متعطلًا ليس لدى ما أفعله، لكنى أقسمُ أننى اعتزمتُ القيام بهذه الرحلة قبل وقت طويل، قبل وقوع الحادث الذى سلبنى حريتى مدة اثنين وأربعين يومًا».

مفهوم أن فعل لزوم الغرفة/الانقطاع إلى الكتابة فعل طوعي، لا إكراه فيه، لكنه ربما يقصد من وراء تعبير» سلبنى حريتي» أن حافز الرحلة الداخلية المؤدى إلى الكتابة أقـوى من الكاتب نفسه وأنه فعل يضارع الإقامـة الجبرية لحين الانتهاء من كتابة ما ينبغى كتابته. ثم ينتقل فى الفصل السادس والثلاثون، بغتة، فيصفُ مكتبته فى كلمتيْن: تحوى روايات وقصصاً، ويكتفى بهذا القدر! وفى جزء لاحق بعنوان: التجوال فى أرجاء غرفتى ليلًا، يتخيّل دومستر رحلات ليلية فى أرجاء حجرته يسترجع فيها ذكريات حبّ وفراق ماضية، ويفتح شباك النافذة، ويشخص ببصره إلى السماء متأملًا النجمة القطبية، فيُخيل إليه أنه يسمع صوتًا يشبه رنات أوتار عيدان القمح يقول: «هذا هو الخير الذى ينشده البشر، الذى يظنون ظنًا أن السعادة تدبير مادى محض، أولئك البشر المغرورين الذين يطلبون من الأرض [الدنيا] ما لا ينالونه إلا مـن السماء». وفى الفصل الأخير يتخيل أنه يرفع قدمه اليمنى عن فرسه المتوهم فيسأل القارىء: هل كان فى مقدور أحد أن يجاريه فى ركوب مشقات المغامرات؟ يقصد مغامراته داخل نفسه ومع ذاته وتجاربه وذكرياته؟ كان عبد الرحمن بدوى يقول إن مواجهة الناس تحتاج إلى شجاعة، أما مواجهة الذات فتحتاج إلى جسارة.

لم تكن طرافة كتاب دوميستر أو تشويقه هـو ما أسر انتباهى،فبعض الفصول القصيرةلا تخلو من سرد ممـل أحيانًا،بلالثيمة الأساسية: رحلات فى الغرف المغلقة. تحيلنى الفكرة إلى افتتاحية الدرة البهية والتحفة السنية: رواية «مولوى» لصمويل بيكيت (ت: عبده الريس، سلسلة الجوائز).فى أول صفحةيجلس «مولوى» فى حجرة والدته، ولا يعلم ما الذى أتى به إلى هنا ولا كيف. ثم يتكلم كلامًا غامضًا عن رجل غريب الأطوار يقتحم حجرته، يزوره الغريب بشكل منتظم ويأخذ منه الأوراق التى يكتبها ويمنحه نقودًا (حظه حـلو لأن الزائر لم يسرق فطوره)، وحينما يأتى الغريب فى موعده يزوّد الصفحات المكتوبة بعلامات غامضة لا يفهمها البطل، ربما فى ظنى تكونت صحيحات لأخطاء المسوّدة الأولى،وربما لا يعقد صاحبنا أملًا فى الوصول إلى مسوّدة أخيرة يرضى عنها.
يقول مولوى إنه لا يعرف، أو يتظاهـر بأنه لا يعرف لِم يكتب، لكنه يستسلم إلى إرادة الزائر الغريبويواصل الكتابة.المؤكد أن «مولوى» لم يكن يكتب من أجل شهرة أو مال. لماذا يكتب إذن؟ يكررأنه لا يعرف، لكنه كذابطبعًا، كان يعرف جيدًا لماذا يغرق نفسه فى العمل ولماذا ينتج بهذه الغزارة، لكنه يتكتّم الأمر، يداريه عن الجميع عبر أقنعة ومرايا ومتاهات مقصودة يُضلل بها قارئه،وعليه مواصلة الطريق لتسوية مسائل قديمة. الرواية نفسها، بصعوبتها ومتاهاتها، أشبه بـغـرفة مُـظـلمة، دغل كثيف من السرد الغامض المتواصل اللاهث، يظهر أحيانًا بيكيت فجأة مشعلًا مصباحـه وينير الغرفة لمدة دقائق وسرعان ما يلوذ بالفرار. 
برغم أن «مولوي» انطلقفى رحلته من غرفة مغلقة ثم غادرها بعد ذلك كما سيرى القاريء، لكن بيكيت لا يترك بطلَه؛لنقرأ العبارة التالية المهمة المطمورة وسط الركام:«مُولوى، إن موطنك كبير جدًا، فأنتَ لم تتركه ولن تتركه، ومهما ارتحلتَ بداخل حدوده فسوف تظلّ دومًا ترى الأشياء نفسها».بيكيت لاعب ماهر يعرف كيف يسدد ضرباته. فى بداية الفصل الثانى يذهب جاك موران إلى غرفة مكتبه ليكتب «تقريرًا» مطولًا يقول إنه ربما لن ينتهى أبدًا. يدخل عليه «جيبر» ويكلفه بمهمةٍ ما. يتظاهر جاك بقدرته على رفض تعليمات «الرأس الكبيرة»، لكنه يدرك استحالة رفض المهمة، لأن الموضوع محسوم من زمان. 
كرّر الكاتب الأميركى بول أوستر التجربة (وإن كانت بمستوى أقلّ جودة فى رأيى) وبعنوان قريب من عنوان دوميستر فى عمله الصغير «رحلات فى حجرة الكتابة» (ترجمة سامر أبو هواش، منشورات المتوسط)، وبالطابع البوليسى نفسه الذى رأيناه فى القسم الثانى من «مولوى»، لكن بطلالحكاية السيد بلانك (والاسمدال وموحٍ بما يكفى)شيخ مُسنّ يجلس فى حجرة مراقبة بكاميرا ويسأل أسئلة مولوى نفسها: ما الذى يفعله هنا؟ ومتى وصلَ؟ وكم سيبقى؟ وفى نهاية الرواية يطرح الأسئلة المهمة: «متى سينتهى هذا العبث؟ لن ينتهى أبدًا. ومهما ناضل لفهم الورطة التى هو فيها، سيظلّ تائهًا دومًا (مثله مثل دوميستر وبيكيت) وسيواصل الكتابة لإننا طالما أُلقى بنا إلى هذا العالَم فسنواصل العيش وقصصنا تُــروَى حتى بعد موتنا بحسب تعبير أوستر. وجـه الشبه بين الأعمال الثلاثة، على اختلاف الأسلوب واللغة والرؤية، هـو انطلاق الرحلة من فكرةالغرفة المُغلقة التى تحوى العالَم. نقطة الانطلاق ينبغى دومًا أن تكون أنتَ ومكتبك وحيطان عالية، واذهب حيثما شئتَ، فلن تغادر الغرفة أبدًا.
الطريف أننى اكتشفت، بعد بحث سريع، عددًا لابأس به من الأعمال التى قاربَـت الثيمة نفسها وتحت اسم مشابه. من بينها مثلًا كتاب الشاعرة والمترجمة الأميركية لويس بوجانJourney Around My Room:، وهو مجموعة من النصوص والمقالات السيرية عن حياة الكاتبة الراحلة. لم أتمالك نفسى فتصفحّت سريعًا السطور الأولى من كتابها ولا بأس من إيراد أول سطر من الكتاب للتوكيد على الفكرة الأساسية: «الـسرير هـو أفضل نقطة انطلاق تبدأ منها رحلتك»، ثم تشرع فى مدح الطقس ونور القمر وهو يتسلل فى منتصف الليل من نافذة الحجرة ليضىء أرضية الغرفة، إلخ، وهى طريقة دوميستر نفسها فى وصف غرفته فى الفصل الأول من كتابه. 
هذا بالإضافة إلى عمليْن صَدرا مؤخرًا لكُــتّاب نــثــر كبار (أتمنى الالتفات إليهم يومًا)، واحد للكاتب النمساوى كارل ماركوس جاوس Karl- Markus Gauß، بعنوان «رحلة مغامرات فى أرجاء حجرتي»، والثانى لكاتب هولندى توفى مؤخرًا اسمه مارتن بيشوفيلMaarten Biesheuvel  بعنوان «رحلة فى حجرتي» أيضًا (ستظهر الترجمة الألمانية للعمل مُزودة بالصور فى شهر مارس).وبإلقاء نظرة سريعة على موقعأمازون نكتشف أن الثيمة القديمة تعاود الظهور فى حُلة جديدة الملائمة لروح عصرنا، وكأنهما يفتحان الطريق أمام كل كاتب ليروى لنا «رحلاته التى قام بـها فى غـرفته»، سواء ارتدى أقنعة بيكيت وبول أوستر أمتجرّد منها كما فعل دوميستر. 
يـعتـرف فرانتس كافكا فى منتصف قـصـة العرين (أو الجُحر فى بعض الترجمات) بضرورة القيام برحلات من وقت إلى آخر داخل عرينه، كان عندما يقترب من مدخل العرين تحين لحظة تاريخية بحسب تعبيره، كان البطل يتجنب الاقتراب من المدخل. لماذا؟ لأنه كان يشعر بانزعاج وفرحـةعندما يجد نفسه تائهًا أحيانًا ولمدة لحظات معدودة داخل حصنه الذى صنعه بنفسه، وكـأن العرين/الجُـحـر يسعى أن يبرهـن لحفّاره حـقه فى الوجود. لكن فرانتس مثال لا يُقاس عليه، فالحياة داخل العرين كانت تأخذ كل وقته حتى ولو أحاطـه ملايين البشر، لذا من المهم أيضًا أن يعرف المرء كيفية الخروج من الغرفة.
سُـئـل عالم النفس السويسرى كارل جوستاف يونج ذات مرة عما إذا كان يفتقد أسفاره القديمة إلى التبت أو يتوق إلىزيارة المعابد التاوية فى الصين والدردشة مع الرهبان أو إن كان يرغب مجددًا فى السفر مع أصدقائه المقربين إلى مجاهل إفريقيا أو إلى المكسيك، فابتسم وقال إنه كان يسافر للبحث على حقائق/أفكاركان يعرف بشكلٍ لا واعٍ أنها مدفونة بداخله، لكنه كان عاجزًا عن إخراجها من أعماقه، أما الآن وقد «فـهِمَ» فلا حاجة به إلى السفر أو القراءة. قال يونج إلى محاوِره: «ثمة حكمة صينية قديمة تقول إنه إذا لزم الإنسان الجلوس فى غرفته وحيدًا، ممعنًا النظر فى نـفسه وفى حياته وتجاربه، فسيَـسـمع الناسُ صوته على بعد آلاف الأميال».