النداء الأخير قبل الحسم

محمد صلاح عبد المقصود
محمد صلاح عبد المقصود

كان وزير الري المصري موفقاً وهو يصف الموقف المصري من قضية سد النهضة، عندما قال أن مصر تتجنب أي إجراء عنيف فى هذه القضية كي لا تترك أثراً نفسياً سيظل عالقاً لسنوات في أنفس الشعب الإثيوبي الشقيق، غير أن التعامل الاثيوبي في هذا الملف، و في غيره من الملفات الاقليمية، يجر جميع الأطراف للمجهول، و يرغب في تكرار ذات المواجهات العسكرية التي يديرها النظام الاثيوبي ضد شعبه في تيجراي، و لكن هذه المرة على مستوى الاقليم بالكامل!

 

بل إن النظام الإثيوبي الحاكم قد أقدم على خطوة طائشة لم تقم بها دولة على الاطلاق في أي عصر من عصور البشر، بسماحه و موافقته على قيام جيش دولة أجنبية باستباحة حدود بلاده، و التدخل العنيف و القاسي و اللا إنساني ضد مجموعة عرقية من أبناء شعبه، بالشكل الذي أثار غضب العالم أجمع، و بدا أن آبي احمد على مقربة من دخول التاريخ مجدداً، كأول فائز بجائزة نوبل للسلام يقوم بارتكاب جرائم حرب، و قد يقدم للمحاكمة عليها دولياً قريباً جداً!

 

دعونا نتفق أن الصبر المصري على المراهقة السياسية الإثيوبية له ما يبرره، فمصر طوال عشرة سنوات من التفاوض ظلت حريصة و متمسكة بأدبيات السلام و مبادئ الأخوة الافريقية، و وصلت الاقتراحات المصرية في هذا الشأن حد انشاء كيان اقتصادي تكاملي بين الدول الثلاث لقيادة القارة كلها إلى آفاق التنمية و الرخاء، و كتابة تاريخ جديد يليق بالقارة السمراء، غير أن المراهقة الإثيوبية لم تتوقف، و أفسدت جميع الجهود الرامية إلى الحل السلمي لهذه الأزمة!

 

ثم كان الصبر ضرورياً و مهماً كي يتدخل العالم ممثلاً في منظماته الاممية و دوله العظمى في مسار التفاوض، و أن يدرك العالم كله حجم المعاناة التي يواجهها المفاوض المصري مع نظيره الاثيوبي، و كيف أن اثيوبيا لا تمتلك الارادة السياسية اللازمة للتوصل لاتفاق ملزم و شامل لكل القضايا العالقة، ما نتج عنه عقوبات اتخذتها الادارة الأمريكية السابقة لاثيوبيا جراء تهربها من التوقيع على اتفاق الوساطة الأمريكي الذي أعده وزير الخزانة الامريكي السابق ستيفن مينوشن!

 

كما صبرت مصر في هذا الملف حتى يتبين للأشقاء في السودان الحبيب الخيط الابيض في هذا السد من الخيط الأسود، و أن تكشف الأحداث وحدها زيف و كذب الروايات الاخوانية في هذا البلد الشقيق، من أن مصر وحدها هي المتأثرة سلباً من هذا السد، و أن مصر فقط هي التي ستعاني من آثاره و تبعاته، و الحقيقة أن السودان هو الذي سيعاني و سيواجه أخطاراً متعددة لهذا السلوك الاثيوبي المنفلت و ليس السد وحده، أخطارا و تهديدات قد تطول وجود السودان كشعب و كدولة في ذات الوقت!

 

إلا أن ما تعرض له السودان من أحداث تلت الملء الأول الصغير قد كذب الرواية الاخوانية المخادعة بشأن السد، و أيقن السودان شعباً و حكومة خطر هذا السد، و ما سينتج عنه من تغيرات مناخية، و كارثة عدم المشاركة في إدارته و تأثيرها على محطات المياه و محطات توليد الطاقة الكهرومائية، فضلاً عن الآثار الكارثية التي قد تهدد وجود السودان إذا ما انهار هذا السد بين ليلة و ضحاها!

 

لقد بدأت مصر منذ نهاية عام 2019 اتخاذ مواقف أكثر قوة، ما بين الشكاوى المقدمة إلى مجلس الأمن، مروراً ببيانات الادانة المتتوالية، وصولاً إلى طلب الوساطات المختلفة ما بين الإدارة الأمريكية السابقة، ثم الاتحادين الافريقي و الاوروبي، و لم تصل أياً من هذه الوساطات إلى جديد يذكر!

 

إن ما يحدث هذه الأيام من تنسيق مواقف مصرية سودانية على مختلف الأصعدة، و زيارات متبادلة بين مختلف المسئولين من البلدين، يعتبر بمثابة نداء أخير من أبناء وادي النيل للحكومة الاثيوبية، إما أن تعود لعقلها و رشدها و تختار السلام و التعاون و التنمية و الأمن، و إما أن تدفع وحدها فاتورة باهظة الثمن لمغامرة لن تحقق من ورائها إلا الدمار و الخراب!