حرائق الدائرى والتوفيقية والأسواق الشعبية.. شاهدةٌ على فساد المحليات   

حريق عقار الهرم   تصوير محمد وحيد
حريق عقار الهرم تصوير محمد وحيد

◄غياب وسائل الحماية المدنية.. المتهم الأول في  كل حريق
◄«الأخبار المسائى» ترصد الغياب التام لكل عوامل السلامة المهنية بالأحياء المخالفة.. ومصانع شبرا ومخازن التوفيقية 
◄القاهرة تتصدران قائمة حرائق 2019 بـ 7 آلاف و114 حريقًا ضمن 50 ألفًا و662 

◄معظم العقارات المخالفة بحى الهرم.. نموذجٌ مكررٌ من العقار المُتفحِّم على الدائرى 

◄إدارة الحماية المدنية: المنشآت والمصانع والورش والأبراج غير المرخصة.. سبب كل الكوارث 

◄حلاوة: تُوجد اشتراطات صارمة بكل منشأة لتوفير وسائل الحماية.. واسألوا الأحياء عن الرقابة؟!

 

تحقيق: أحمد عبد الوهاب - هاجر زين العابدين 
 

«موت وخراب ديار».. جملةٌ معتادةٌ تحمل الكم الطائل من الحسرة علي الخسائر الكبيرة، سواء مادية أو بشرية، جراء  الحرائق المتكررة سواء بالأسواق التجارية أو الورش والمخازن الحرفية أو في الشقق والعقارات السكنية  المخالفة.. ففي كل حادثة ابحث عن المحليات، بعدما تغاضت عن مراقبتها لكل المنشآت والأسواق والعقارات المخالفة، وغضَّت الطرف عن وجود وسائل الحماية المدنية، ورغم تكرار الكارثة بشكل دوري فإن الجاني دائمًا يظل طليقًا دون عقوبةٍ؛ لتراخيه في الرقابة ورصد المخالفات، وتقصيره في تنفيذ العقوبة.. أصبحنا نستيقظ على أخبارٍ لحرائق يومية، منها ما يحمل تفاصيل صادمة !! 


دائمًا ما تتصدَّر إدارة «الحماية المدنية» مشاهد الإنقاذ وإخماد جميع الحرائق التي تحدث بين الحين والآخر، وتكون بمثابة خط الدفاع الأول، والتي يتعرض ضُباطها وأفرادها إلى خطر الموت في كل لحظةٍ.. فهم يُواجهون النار، التي لا يستطيع أحدٌ أن يقف أمامها.
«مشِّي حالك».. جملةٌ تعكس حجم الفساد واللامبالاة من جانب كثيرٍ ممن يبحثون عن المكسب، دون النظر إلى تبعيات وخطورة ما قد يحدث من كوارث، نتيجة عدم اتخاذ الإجراءات المُتبعة، خلال فتح المحال التجارية أو بناء العقارات السكنية، وفي النهاية تحدث خسائر مادية وبشرية باهظة.

مسلسل الحرائق 

مسلسل الحرائق مستمرٌ طوال السنة بواقع واحدةٍ كل شهر؛ بحسب شهادات الأهالى فى المناطق الصناعية غير المُرخصة، فيما تعرَّضت القاهرة لنحو 7 آلاف و114 حريقًا خلال 2019 ضمن 50 ألفًا و662 حريقًا على مستوى الجمهورية 59.3%؛ منها نيرانٌ صناعية، و25 ألف حريق بنسبة 49.4%، نتيجة الإهمال وفقاً لتقرير المركزى للتعبئة والإحصاء 2019. وبتتبع هذه الإحصائيات علمنا أنه غيابٌ لتطبيق قوانين العمل داخل المنشآت الصناعية
حيث أوضح الباب الثالث من قانون العمل رقم 12لسنة 2003 تأمين بيئة العمل، حيث تنص المادة 208 : «على إلزام المنشأة وفروعها بتوفير وسائل السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل فى أماكن العمل بما يكفل الوقاية من المخاطر».
ونصَّت المادة 209 : «على التزام المنشأه بأخذ جميع التدابير؛ لتوفير وسائل الأمن والحماية وتأمين بيئة العمل للوقاية من المخاطر المختلفة، كالحريق وتدريب العمال على طرق التعامل مع المواد الكيميائية الخطرة».
«الأخبار المسائى» رصدت فى جولةٍ ميدانيةٍ حجم المخالفات المرتكبة داخل المنشآت الصناعية غير المُرخصة والمتوغلة داخل الأبراج السكنية بثلاث مناطق؛ هى منطقة شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية، والتوفيقية بوسط البلد بمحافظة القاهرة، وحى الهرم التابع لمحافظة الجيزة؛ كنموذج مُصغَّر من العشوائية، وانتشار المصانع غير المُرخصة المُتسببة فى اندلاع الحرائق من حينٍ لآخر.


البداية من داخل أكثر من مصنعٍ بمنطقة شبرا الخيمة, وجدنا أن جميع المنشآت الصناعية غير المُرخصة وعبارة عن ورش صناعية أسفل المبانى السكنية؛ وجميعها مخالفٌ  وغير حاصلٍ على تراخيص من هيئة التنمية الصناعية.
رصدنا عدم وجود أماكن للتهوية داخل المصانع، وغياب عوامل الأمن والسلامة للعاملين، وخلو جميع الورش من طفايات للحريق، وأغلب المصانع عبارة عن منشأه 300 متر على 12 دورًا، تتركز المصانع فى الدورين الثانى والثالث, وباقى الأدوار يتم تحويله لمخازن تفتقر لجميع سبل الأمان أو التهوية، ويعانى أغلب الأهالى من اندلاع الحرائق المستمرة، حيث لا يمر شهرٌ دون أن يستيقظوا على ألسنة النيران. 

حى الهرم
 
وبالانتقال لحى الهرم وعمل جولة ميدانية حول العقار المُحترق بسبب اندلاع الحريق فى مخزن بالطابقين الأول والثانى، وبالجولة رصدنا عقارات مشابهة بحى الهرم تحتوي علي مخازن بالدور الأرضي من الأبراج السكنية، فأغلب شوارع المنطقة ينتشر بها صناعات مختلفة كصناعة الإطارات المطاطية ومواد الطلاء، وكذلك مصانع للأسمنت الأبيض والأحذية، وكثير من أصحاب المصانع يمتلكون عقارات سكنية علي مقربة من نشاط صناعاتهم، والأغلب يتخذ الطابقين الأول والثاني "مخزنًا للبضائع"، يخلو من فتحاتٍ للتهوية، ولا يوجد مدخلٌ للطوارئ آمنًا، لكنه مزودٌ فقط بطفاية أو اثنتين للحريق. 

التوفيقية
 
ويتطابق المشهد بمنطقة التوفيقية بوسط البلد، حيث تنتشر ورش وباعة يفترشون الطريق أمام المحال التجارية والورش الصناعية، يحتفظ كل محلٍ بطفاية للحريق وخرطومٍ للمياه، لكن لم يكن هذا كافياً للسيطرة علي الحرائق، فالجميع يجتهد في محاولة إخماد أي حرائق، لكن دون جدوي، حيث تنال النار من البضاعة المتراصة إلى جوار بعضها البعض، لتصل للمخازن التي جميعها يفتقر إلى سبل الحماية؛ للتخزين الآمن للبضائع، وسيتكرر المشهد لغياب الرقابة علي تلك المنشآت التي تُهدد حياة الجميع.

نرصد خلال التحقيق التالي عددًا من الحرائق، التي تكشف تراكمات الفساد والعشوائية منذ سنوات.

حريق التوفيقية

في الساعات الأولى من صباح الجمعة الماضية، ومع سطوع أول ضوء نهار، اشتعلت النيران بشكلٍ مفاجئٍ في أحد الأكشاك لبيع قطع غيار السيارات بسوق التوفيقية الشهير، وامتدات النيران بسرعةٍ كبيرةٍ، بسبب سرعة الهواء.
النيران امتدت لتحصد قرابة 14 كشكًا، وكادت تمتد لمولٍ متعدد الطوابق، كائنٍ بالمنطقة لولا سرعة تدخل وجهود قوات الحماية المدنية، التي انتقلت بسرعةٍ كبيرةٍ، وتمكنت من محاصرة النيران ومنع وقوع كارثة مُحققة.
وكانت المفاجأة الصادمة أن الحريق ليس بفعل ماسٍ كهربائيٍّ، كما هو المعتاد، بل كشفت تحريات أجهزة البحث الجنائي، أنه بفعل فاعلٍ، واستطاعت في غضون ساعاتٍ، كشف تفاصيل الواقعة، وضبط المتهم، وتبين أنه أحد الباعة بالمنطقة، وبرَّر جريمته لوجود خلافات مع أبناء عمومته العاملين بذات المنطقة.

عقار
حادث غريبٌ ومؤسفٌ في نفس الوقت، وهو اندلاع حريق في أحد العقارات، والذي عُرف إعلاميًا بـ«عقار فيصل».. والغريب في الأمر، هو استمرار الحريق لـ4 أيام متتالية، دون توقفٍ، وهو ما لم يحدث من قبل.
كشفت المعاينة أن الحريق نشب داخل مصنع ومخزن لتصنيع الأحذية، والواقع أن الطابق الأول من العقار مكونٌ من 14 طابقًا، وتسببت المواد الكيماوية، التي تُستخدم في عملية التصنيع في تفاقم الحريق.
كعادتها، انتقلت قوات الحماية المدنية، لموقع الحريق فور ورود البلاغ، وبذلت جهودًا جبارةً في عملية الإطفاء، لكن الكميات الكبيرة من المواد الكيميائية المتواجدة داخل المخزن المُحترق، تسببت في اشتعال النيران بقوةٍ، وأوصت لجنة هندسية بوقف عمليات الإطفاء، نظرًا لشدة النيران، حتى لا تنفجر أعمدة الخرسانة الخاصة بالعقار، وهو ما كان سيؤدي إلى انهياره على الطريق الدائري وإحداث كارثة.


حريق العتبة

وفي السابع والعشرين من يونيو عام 2019، اندلع حريقٌ هائلٌ في أحد العقارات بمنطقة العتبة، وكانت الكارثة، أن ذلك العقار ليس مخصصًا للسكان، بل يقوم أصحاب المحال بتخزين بضائعهم داخله.
امتدت النيران لعددٍ كبيرٍ من المحال المُجاورة للعقار المُشار إليه، نتيجة عدم توافر وسائل الأمن والسلامة، وحصد الحريق عددًا من المحال، وعربات بيع الملابس العشوائية، المتراصة بكثافةٍ داخل المنطقة.
تفاقمت الكارثة بسبب عدم قدرة سيارات الإطفاء على دخول الشارع الضيق الذي شهد الحريق، مما ضاعف من مجهود رجال الحماية المدنية، الذين بذلوا جهودًا جبارةً، حتى تمكَّنوا من السيطرة على النيران وإخمادها، وهو ما نتج عنه خسائر بالملايين.

الفساد والعشوائية

ما رصدناه في الحوادث سالفة الذكر، والحواداث الأخري لحريق مخازن بالهيئات الحكومية، آخرها مخزنٌ بوزارة الصحة، يؤكد حجم  التراخي في عدم رقابة الأسواق والمنشآت والشوارع والإهمال في متابعة وجود الحماية المدنية.
فعقار فيصل الضخم، قام مالكه بإنشائه عام 2013، بشكلٍ مخالفٍ ودون الحصول على التراخيص اللازمة، وقام بتشييد 14 طابقًا في تحدٍ سافرٍ للقانون، وأمام مرأى مسئولي المحافظة، الذين عجزوا عن التصدي له، وتركوه يفعل ما يُريد، حتى وقعت الكارثة.
ولم يكن عقار فيصل وحده، هو ما تم بناؤه بشكلٍ مخالفٍ، بل هناك آلاف العقارات، تم بناؤها دون الحصول على التراخيص اللازمة، وهو الأمر الذي تُحاول الحكومة تصحيحه من خلال قانون التصالح في مخالفات البناء.

جهود رجال الإطفاء

دائمًا ما يكون رجال الإطفاء في مقدمة الصفوف، يُواجهون نيران الحرائق، التي لا يستطيع أحدٌ الوقوف أمامها، يبذلون جهودًا جبارةً لحماية المواطنين والممتلكات العامة والخاصة، وهو ما يُشدد عليه اللواء محمود توفيق، وزير الداخلية، بالاستجابة الفورية، لجميع البلاغات والاستغاثات، خاصةً التي تتعلق بالحرائق، لما تُمثله من خطورةٍ بالغةٍ.. وشهدت إدارات الحماية المدنية، بقيادة اللواء أسامة فاروق، مساعد وزير الداخلية، مدير الإدارة العامة للحماية المدنية، تطورًا كبيرًا من حيث توفير المعدات الحديثة، والتدريب على طرق الإطفاء، وهو ما انعكس بشكلٍ إيجابيٍّ، من خلال قدرتهم على مواجهة الحرائق، وتقليل الخسائر الناجمة عنها سواء مادية أو بشرية.
وعلمنا أن هناك اشتراطات أساسية للحماية المدنية بكل مبني سواء كان سكنيًا إو إداريًا؛ أولها: يجب علي المنازل الأقل من 5 طوابق، أن تكون بها بكارة وصنبور حريق في الدور الأرضي لمسافة لا تقل عن 60 مترًا، ويكتفي بسلمٍ واحدٍ للمنزل، أما المنازل الأكثر من 6 طوابق، فلابد من توفير بكل دور أو علي الأقل لكل طابقين بكارة حريق، وبناء سلم إضافيٍّ للطوارئ، وخزان مياهٍ لا يقل عن 30 مترًا، وماتور لرفع المياه، وآخر لاستخدامه في عمليات الإطفاء.
ثانيًا: إذا كان المبني إداريًا أو تجاريًا لابد من توصيلات "رشاشات المياه الأتوماتيكية وأجهزة إطفاء تلقائي".. ثالثًا: في حالة الجراجات التي تزيد على 500 متر، لابد من توفير شبكة إطفاءٍ تلقائيٍّ.

جمال حلاوة، مسئول الحماية المدنية، مساعد وزير الداخلية السابق، أكد أن دور إدارة الحماية المدنية يقتصر على المنشآت الصناعية المُرخصة والتى تُخطرنا بها الأحياء ليتولوا هم تأمين المنشأه الصناعية، وأغلب المخالفات تصدر من المنشآت الصناعية غير المُرخصة.
وأضاف قائلًا: يفتقر الكثير لثقافة الحماية المدنية، فجميع المنشآت الصناعية المُنتشرة بين الأحياء السكنية أغلبها غير مرخصٍ، وإدارة الحماية المدنية ترفض وجود منشآت صناعية وسط الأحياء السكنية.
وأضاف قائلًا: يتم تأمين المنشأه الصناعية الحاصلة على ترخيصٍ ضد مخاطر الحريق، مشيرًا إلى أن حريق عقار حى الهرم، الذى ظلت النيران تلتهمه لأيامٍ، شبَّ في مخزن غير مرخصٍ وموجودٍ داخل عمارة سكنية يتنافى تمامًا مع جميع معايير الأمن والسلامة المهنية، كما احتوى المخزن على مشتقات بترولية مثل "الكولة والتنر"، وجميعها موادٌ قابلةٌ للاشتعال، وتُسهم فى زيادة اشتعال الحريق، وعند استدعاء الحماية المدنية للحريق، تمت معاينة المبنى، وكانت هناك شواهد لانهيار العقار، كان أولها تآكل الأبنية الخرسانية وظهور الحديد المسلح، مما يدل على وجود تبجُّع فى الأعمدة، فهذه شواهد على تأكيد انهيار العقار، وفى هذه الحالة يتم صرف القوات مباشرةً والتعامل خارجيًا.
موضحًا أن التواطؤ يأتى من الأحياء التى سمحت بوجود مثل هذه الورش والمصانع المُخالفة، فكل مهندسٍ مسئولٌ عن منطقةٍ سكنيةٍ لديه علم بجميع الأنشطة الصناعية داخل الحى.
وتابع قائلًا: إن دور الحماية المدنية يتوقَّف على تأمين المنشأة الصناعية المُرخصة؛ من وجود مدخل للطوارئ فى حالة نشوب الحريق، ومتابعة التجهيزات المطلوبة؛ لتحقيق سبل الأمن والسلامة داخل المصانع، إضافة إلي إجراءات التأمين الخاصة بكل منشأة، والنظر لمصادر المياه بالمصنع والتوصيلات الآمنة للكهرباء، وقدرة تحمُّلها الضغط الكهربى، ومتابعة مسالك الهروب الآمنة، وتوفير مداخل للتهوية وتخزين البضاعة بشكلٍ آمنٍ حال وجود مخزن.
وأوضح قائلًا: تختلف المعايير ووفقًا لنوع ونشاط المنشأة الصناعية، واتباع خطة "تجويعٍ للنيران"؛ لإمكانية سحب المواد المُساعدة على الاشتعال أولًا.
ولفت مدير الحماية المدنية السابق إلى أنه بكل منشأةٍ يتم اشتراط  توفير طفاياتٍ للحريق، ويتم تدريب العاملين داخل المنشأة على سبل الحماية المدنية من خلال التدريبات الميدانية على خطط الطوارئ للعاملين فى المصنع حالة نشوب حريق أو انهيار العقار.
متابعًا: يجب تفعيل القانون بتغليظ العقوبة لمن يُسىء استخدام عقارٍ سكنىٍّ واستغلال الطوابق الأولى لمحالٍ أو ورشٍ صناعيةٍ.
حرائق الدائرى والتوفيقية والأسواق الشعبية.. شاهدةٌ على فساد المحليات