«المسرحـية المكتوبة» ضــاعـت فــــى زمن الرواية

حسن حافظ
حسن حافظ

فى سنة 1933 كانت الحياة الثقافية المصرية مع حدث مؤسس وفارق فى تاريخ الأدب الحديث، حدث أدى إلى ميلاد فن أدبى جديد فى وقت كانت الرواية المصرية تتلمس خطاها الأولى، والقصة القصيرة لاتزال فى محاولات الميلاد، والشعر يخلع عن ذاته رداء الماضى ويترك عرشه النخبوى لينزل ليعارك قضايا الشارع، كان الحدث المدوى ثقافياً هو إصدار توفيق الحكيم مسرحية "أهل الكهف"، كأول مسرحية مكتوبة بشكل فنى تعالج قضايا وجودية بحرفية أدبية وتُقدَم للقارئ كنص مكتوب للمرة الأولى.

تاريخياً، أصبحت مسرحية "أهل الكهف" التى احتفى بها كبار نقاد عصرها وفى مقدمتهم طه حسين، بداية ما عُرف بفن المسرحية المكتوبة التى وصلت إلى ذروتها فى الستينيات والسبعينيات، والتى تشهد حاليا تراجعا، فلم يعد هناك الكثير من الأعمال التى تطبع وتحمل على غلافها كلمة "مسرحية"، مقارنة بالرواج الكبير لفن الرواية، فهل نحن على مشارف وفاة ظاهرة المسرحية المكتوبة؟ أم أنها قادرة على الحياة فى وسط المشهد الأدبى الحالي؟ هل جنى رواج الرواية وازدهارها على المسرحية المكتوبة؟

يعدُّ توفيق الحكيم رائد المسرحية المكتوبة، فقبله لم يعرف المشهد الأدبى كتابة مسرحية تعتمد على منجز مصرى أدبى صميم، فما قدمه مسرح نجيب الريحانى ويوسف وهبى وعلى الكسار وغيرهم من أصحاب الفرق المسرحية قام على تمصير العديد من النصوص الأوروبية وإعادة تقديمها على المسرح مباشرة، أو كتابة مسرحيات الهدف هو تقديمها على المسرح مباشرة وتعتمد على فن الإسكتش المسرحي، وهى نصوص لا يمكن قراءتها كعمل أدبى متكامل البناء، وهنا جاء دور الحكيم التاريخى الذى قدم لأول مرة نصا مسرحيا يقدم للقراء وليس للمتفرجين، وهو ما عُرف باسم "المسرح الذهني"، الذى يقوم على مشاركة القارئ فى تخيل النص المكتوب واستخراج معانٍ لا نهائية من النص.

ولم يتوقف دور الحكيم بحسب الدكتور أحمد سخسوخ فى كتابه "توفيق الحكيم منظِّرًا ومفكرًا"، عند التأسيس للمسرح المكتوب، بل إنه شارك عبر الكثير من النصوص المسرحية، التى كتبها، فى تقديم نماذج تجريبية شديدة التنوع، إذ استلهم التراث الفرعونى فى مسرحية "إيزيس" والتراث الإسلامى فى "السلطان الحائر" و"شمس النهار"، والتراث اليونانى فى "بجماليون" و"الملك أوديب"، ومسرح اللا معقول فى "يا طالع الشجرة"، كما قدم مسرحيات اجتماعية ومشتبكة مع الأوضاع السياسية والتحولات التى شهدها المجتمع المصرى فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فى مسرحيات "الأيدى الناعمة"، و"الصفقة" و"الورطة" و"الطعام لكل فم" ومسرحيات "مسرح المجتمع"؛ بل والخيال العلمى فى "رحلة إلى الغد".

ومن عباءة توفيق الحكيم خرج جيل الشباب وقتها بداية من الخمسينيات، الذين بدأوا فى كتابة مسرحيات أكثر عمقا فى قراءة التحولات الاجتماعية، وتنهل من التراث الشعبى كخلفية للعمل، مثلما فعل يوسف إدريس فى مسرحية "الفرافير"، و"ملك القطن"، و"جمهورية فرحات"، و"المهزلة الأرضية"، ونعمان عاشور، رائد المسرح الاجتماعى فى أعماله "المغماطيس" و"الناس اللى تحت" و"الناس اللى فوق"، و"عيلة الدوغرى"، كما قدم ألفريد فرج نقدا اجتماعيا عبر استلهام التراث فى أعمال "حلاق بغداد" و"على جناح التبريزى وتابعه قفة"، و"الزير سالم"، ووضع عبد الرحمن الشرقاوى مسرحية شعرية مكتملة البنيان فى "الحسين ثائرا"، ثم استكملها فى "الحسين شهيدًا"، كذلك قدم صلاح عبد الصبور مسرحية "مأساة الحلاج" وهى واحدة من أروع أعمال المسرح الشعري، ثم قدم فاروق جويدة "دماء على أستار الكعبة" و"الخديوي".

وحكى أحمد عبد الرازق أبو العلا، الكاتب والناقد المسرحى، عن محطات الكتابة المسرحية فى مصر، قائلًا: "بدأت الكتابة المسرحية من الناحية الفنية المكتملة على يد توفيق الحكيم، الذى يمثل أول موجة من موجات الكتابة المسرحية، وأول من طبع مسرحية فى كتاب لكى تُقرأ كنص إبداعي، ثم جاءت الموجة الثانية متمثلة فى جيل يوسف إدريس ونعمان عاشور وألفريد فرج وسعد الدين وهبه وميخائيل رومان، كما ترسخ المسرح الشعرى بعد محاولات أحمد شوقى الأولية، على يد صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوى وفاروق جويدة، وهو جيل ارتبطوا بجملة من التغيرات الثقافية والسياسية التى شهدتها مصر بعد ثورة 1952، خاصة أن معظمهم كان فى الثلاثينيات من عمره وقت الثورة".

وتابع أبوالعلا: "ثم ظهرت الموجة الثالثة من الكتابة المسرحية على يد محمد السلامونى ويسرى الجندى ومحمد الفيل وسمير عبد الباقى ولينين الرملى بل ووحيد حامد، وهذا الجيل أجبرته الظروف على اللجوء إلى الكتابة الدرامية مثلما حدث مع الرملى وبشكل أكبر مع وحيد حامد، ثم جاءت المشكلة مع جيل الثمانينيات فلم يعد هناك الكثير من النصوص المسرحية التى تُطبع كعمل فنى يُقرأ لذاته مثل قراءة الرواية، وارتبط هذا بتراجع الاهتمام بالمسرح إنتاجا وإخراجا، وهى أزمة تعمقت مع الوقت، وهو ما لاحظته من خلال عملى كمدير عام للمسرح فى الثقافة الجماهيرية".

ولفت الناقد المسرحى إلى أن هناك العديد من النصوص المسرحية التى تخرج سنويا، فالأزمة ليست فى التأليف المسرحي، بل فى السؤال عن كيفية الكتابة المسرحية؟ فالأزمة ليست فى الكم بل فى الكيف، فالبعض يتناول أشكالا من التراث، ليبعد عن تناول مشاكل الواقع بشكل حقيقي، فلم يعد الكاتب المسرحى قادرا على معاركة الواقع معاركة حقيقية، وهو ما يجعلنا نقول إن هناك أزمة وضعفا فى التأليف المسرحي، ونحن نتحدث هنا عن القاعدة وليس الاستثناء الجيد والمجدد∪، خاصة أن أحد جوانب الأزمة غياب الحركة النقدية القوية مع تحولها إلى النقد المجامل، الذى لا يؤدى إلى فرز حقيقى للأعمال الجيدة من السيئة، بالتالى وجدنا أن بعض المبدعين لم يعد يؤمن بوجود الناقد القادر على تصحيح مساره.

وتحدث أبوالعلا عما وصفه بـ"سحر الصورة"، إذ ازدهرت الدراما التليفزيونية ما دفع عددا من كتّاب المسرح للكتاب الدرامية، خاصة أن التمكن من الكتابة المسرحية يعنى القدرة على الكتابة فى غيرها من مجالات الإبداع، لأن كتابة المسرحية تشمل كل الفنون بما فى ذلك اللغة الشعرية ووصف المناظر كما الرواية، وحبكة القصة وتوزيع الحوار كما هو حال السيناريو، وهنا وجدنا بعض كتّاب المسرح يتجهون إلى الكتابة الدرامية فخسرهم المسرح ولا شك، وهنا يجب وضع استراتيجية لدعم كتّاب المسرح وتخصيص الجوائز وكل سبل الدعم لإعادة الازدهار للمسرح المكتوب.

الدكتور نبيل بهجت، أستاذ قسم المسرح بجامعة حلوان، رأى أن أزمة اختفاء المسرحية المكتوبة جزء من الأزمة التى يعيشها المسرح بشكل عام، وقال: "هناك الكثير من كتّاب المسرح الكبار فى الوقت الحالى لكنهم لا يحظون بأى اهتمام سواء على مستوى النشر أو مستوى الحياة النقدية، وذلك لأن الرواية تحظى بالاهتمام الأكبر فى الوقت الحالي، خاصة أن لها الكثير من الجوائز المهمة التى تكرس تفوقها مثل جائزة البوكر، وهو ما ساعد فى التفاف الجميع حول الرواية وبعدهم عن المسرحية، التى هى واحدة من أصعب الأشكال الفنية كتابة لأنها تضم كتابة الرواية والسيناريو معا".

وأكد بهجت أن المسرح والمسرحية المكتوبة ضحية لغياب مفهوم الإدارة الثقافية بشكل عام، ما أدى إلى غياب الاهتمام بفن المسرح بشكل عام، ولم يعد هناك من يسلط الضوء على العروض المسرحية، خاصة أن المسرح من الصناعات الثقيلة التى لا يقدر على القيام بها إلا الدولة التى تستطيع احتضان النصوص المسرحية وتحويلها إلى عروض مسرحية، "فنحن فى حاجة إلى تخصيص جوائز تحتفى بالمسرحية المكتوبة من ناحية، وحركة فنية قوية مدعومة من الدولة لتحويل تلك النصوص إلى عروض ممولة بشكل جيد لتخرج بشكل راقٍ"، على حد قوله.

من جهته، قال محمود جمال، الكاتب المسرحي، إن هناك العديد من الكتّاب الجيدين الذين يقدمون نصوصا مسرحية جيدة فى اللحظة الراهنة، لكنهم لا يجدون التشجيع الكافى، وأضاف: "إذا حسبنا جميع النصوص المسرحية التى تؤلف وتعرض فى مصر فى مختلف الجهات بما فى ذلك المسرح الجامعى والمدرسى سنصل إلى عدة آلاف من النصوص".

وتابع: "المسرحية دخلت فى منافسة غير عادلة مع الرواية التى تحظى بالاهتمام الأكبر من المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء، ورغم ذلك فليس شرطا أن تكون هناك مسرحية مقروءة لكى نقرر أنها متوفرة وأن المسرح بخير، فاسم المسرحية مرتبط بالمسرح أى تحويل النص إلى عمل من لحم ودم على المسرح، ففكرة كتابة المسرحية وقراءتها فى شكل كتاب نادرة وليست الأصل، بل الأصل هو تقديم المسرحية على المسرح".

وأشار محمود جمال، الحائز على جائزة أفضل مؤلف مسرحى من المهرجان القومى للمسرح المصرى مطلع العام الجاري، إلى أن الأزمة الحقيقية تكمن فى عدم توفر الإنتاج الضخم القادر على نقل الإخراج المسرحى بشكل يتناسب مع النقلة التى تشهدها الأعمال الفنية فى الدراما والسينما، فضلا عن عدم تصوير العروض المسرحية المختلفة بشكل احترافى يؤدى إلى تعميق الشعور بغياب المسرح عموما عن الحياة الثقافية، على الرغم من أنه الأقدر على تناول الأفكار الفلسفية والوجودية والاشتباك مع الواقع ونقل مشكلاته".