انتبه.. في بيتك «مريض نفسي»!

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

الخوف‭ ‬من‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬مجنون‮»‬‭ ‬وراء‭ ‬تستر‭ ‬الأسر‭ ‬على‭ ‬المرضى‭ ‬والنهاية‭ ‬جريمة‭ ‬مأساوية

الخبراء‭  ‬تجاهل‭ ‬الاضطرابات‭ ‬السلوكية‭ ‬للطفل‭ ‬أمر‭ ‬خاطئ‭ . ‬وتأخر‭ ‬العلاج‭ ‬بداية‭ ‬الكارثة

انتشرت فى الفترة الأخيرة مجموعة من الجرائم الدموية الغريبة، ربما اختلفت ملابساتها وأماكن تنفيذها وتوقيتها، لكنها جميعا اتفقت فى شيء واحد وهو أن المتهم "مريض نفسي"، لتعود ظاهرة الجرائم النفسية لفرض نفسها على الساحة مرة أخرى وبقوة.

وبالرغم من أنه عادة ما تكون الضحية ضمن أسرة المريض، إلا أنها فى الوقت نفسه ـ وبحسب آراء المختصين ـ المسئول الأول عن الجريمة ككل، فتستر العائلة على المريض والتغاضى عن علاجه منذ الصغر خوفا من "الوصمة الاجتماعية"، أو اتجاهها لعلاجه بطرق غير منطقية هو الذى أفرز للمجتمع "مرضى نفسيين" برتبة "قاتلين".

وفى هذا التحقيق تحاول "الأخبار" رصد الظاهرة مع مناقشة الخبراء حول السبل التى يمكن من خلالها تدارك الأمر قبل أن يتفاقم.

لم تكن تلك الظاهرة فى منأى عن الدراسة فوفقا لآخر أبحاث المركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية بالقاهرة وجد أن 60‭%‬ من المصابين بالأمراض النفسية فى مصر يفكرون فى الانتحار، وأن 20 ‭%‬ ينفذون عدداً من الجرائم الخطيرة التى تصل إلى القتل والاغتصاب، ومن بينها اغتصاب المحارم.

ويكون الحل فى أغلب الأوقات هو إيداع المريض أو "المتهم" داخل مستشفى الأمراض النفسية بناء على قرار من القضاء إذا رأى داعيا لذلك، كخاتمة لمأساة دموية تعود لتتكرر مرة أخرى دون علاج.

الضحية الأولى

فى أغلب الأوقات تلاحظ الأسرة بالفعل وجود أمر غريب فى أحد أفرادها، حتى تتيقن من مرور الزمن أنه يعانى خللا نفسيا، وبالرغم من انتشار الأمر بين الجيران والأقارب إلا أن الأسرة تصر على الصمت خوفا من "السمعة السيئة" من الذهاب لطبيب نفسى أو حتى الاستعانة بأطباء مستشفى الأمراض النفسية، حتى تدفع الثمن فى النهاية ليكون أحد أفرادها هو الضحية الأولى لهذا النوع من الجرائم.

وكانت جريمة "قرية على خضر" بالبحيرة من أبشع الجرائم التى تسبب "المرض النفسي" بها، حين أقدم "نقاش"، على قتل زوجته التى لم تتعد الـ 30 عاما، وأطفاله الثلاثة بالسم، ثم أقدم على الانتحار بعدها.

أما المفاجأة التى ظهرت حينما تحرت الأجهزة المختصة عن الأمر من الجيران والأقارب، هى أن الأب مرتكب الواقعة يعانى من حالة نفسية سيئة منذ فترة زمنية طويلة، لكنه لم يتردد على أى طبيب، ما أن الزوجة لم تقدم على التحر فى أى اتجاه.

وعلى الجانب الآخر هناك بعض الأسر التى تلتزم الصمت فى حالات أكثر صعوبة من مجرد ظهور أعراض المرض النفسى على أحد أفرادها، فيتطور الأمر ليتعدى "المريض النفسي" على أسرته بالضرب والإيذاء مرارا وتكرارا دون أى تحرك منهم حتى يصل الأمر فى النهاية لجريمة دموية.

وهذا هو ما حدث بالفعل فى منطقة دار السلام بالقاهرة، حينما عثر الجيران على جثة ربة منزل مهشمة الرأس وغارقة فى الدماء، فتم تبليغ الشرطة التى تحرت عن الأمر لتفاجأ بأن "شقيق" الضحية هو القاتل، وأنه هشم رأسها بحجر بعد مشاداة كلامية بينهما.

وكانت المفاجأة هنا أيضا أن "المتهم" مريض نفسى منذ سنوات طويلة ويعانى من انفصام فى الشخصية، كما أنه اعتاد التعدى بالضرب على والدته كثيرا، وحينما أرادت شقيقته لومه تطور الأمر لمشاداه كلامية هشم المتهم المريض على أثها رأس شقيقته وفر هاربا.

بأى ذنب قتلوا

لم تكن الأسرة فقط هى من تدفع الثمن وراء إهمال علاج المريض النفسي، بل يمتد الأمر للمحيطين بالمريض وإن لم يكن لهم صلة به، فربما تسوقهم الصدفة أمامه أو يكون الأمر عن قصد، ويزداد الأمر سوءً إذا كانوا من حائزى الأسلحة البيضاء.

ففى واقعة هزت المجتمع المصرى، شرع رجل فى قتل إمام مسجد أثناء صلاته فى يوم الجمعة على مسمع ومرأى من كافة المصلين، بعد أن وجه له عدة طعنات متتالية مستخدما سلاحا أبيض، وأظهرت التحريات حينها أن المتهم مصاب بانفصام فى الشخصية.

أما الغريب الأمر أن تلك الحوادث وصلت إلى المكان الذى من المفترض أن يكن الأكثر أمان للمريض النفسى وهى "مستشفى الأمراض النفسية بحد ذاتها"، فقد شهدت مستشفى الصحة النفسية فى مدينة العاشر من رمضان، جريمة مروعة، حينما قتل مريض نفسى زميله داخل المستشفى، عن طريق الإمساك بقطعة من الخشب تُستخدم كـ"مولة سرير" وهشَّم رأسه فسقط الآخر على الأرض فاقداً للوعى ومات فى الحال.

مرض عضوي

فى الجانب الآخر تواصلت "الأخبار" مع المتخصصين لمناقشة تلك الظاهرة، فأكدوا أن المرض النفسى ينبغى أن يعامل كأى مرض عضوى خطير إذا تم تجاهله تفاقم الأمر وكانت نتيجته كارثية للمريض ولذويه.

وفى البداية أكد د. جمال فرويز، استشارى الطب النفسي، أن المرض النفسى مهما كانت درجته بسيطة وفى مراحله الأولية فإن إهماله لفترة طويلة أو إيقاف العلاج فجأة بعد ملاحظة التحسن، يؤدى بالطبع إلى نتائج كارثية لايحمد عقباها من الانتحار أو القتل المقصود أو غير المقصود.

وأشار إلى أن سبب عزوف العديد من الأسر عن علاج أولادهم هو الاعتقاد الخاطئ أن علاج المرض النفسى ينحصر فقط فى جلسات المناقشة مع المريض، بل الأكثر خطورة هو تدخل بعض الأطباء من المتخصصات الأخرى والصيادلة بالأمر فيحذرون أسرة المريض من أحذ الأدوية التى يصفها الطبيب النفسى لأنها ستمتد مدى الحياة ولا يمكن إيقافها، وأضاف قائلا:" بالطبع من الممكن أن تمتد مدى الحياة مثلها مثل عقاقير مرض القلب والسكر والضغط وغيرها فالمرض النفسى ما هو إلا مرض عضوى لكنه يصيب المخ، وبالفعل انتحرت إحدى الحالات بعدما أوقف أحد الأطباء غير المتخصصين فى المرض النفسى علاجها بالعقاقير للأسف".

اضطرابات سلوكية

أما عن كيفية اكتشاف إصابة أحد أفراد الأسرة بمرض نفسى أكد فرويز أن كل ما يصدر من الطفل فى سلوكه أثناء النوم أو الطعام أو المشى او الحديث ويلاحظ أنه خارج عن الطبيعى والمألوف من الممكن بكشل كبير أن تكون بداية مرض نفسي، فعلى الأم ألا تتجاهل اضطرابات النوم أو سلوك طفلها الإندفاعى مع الاخرين وتبرر بأنها مجرد "شقاوة".

وأضاف أن الزوجة أو الزوج أيضا إذا لاحظوا أى تغير بالطرف الآخر عليهم التوجه لأقرب مشفى نفسى أو الاتصال بالخط الساخن لمجلس الصحة النفسية، لأنه كثيرا ما يكذب أحد الطرفين عن إصابته بمرض نفسى وعندنما تحدث أزمة مع شريكه يدعى أنها أول مرة، وفى هذه الحالة فهو يعد تدليس وتحكم المحكمة بالطبع بالطلاق.

أما عن أشهر الأمراض النفسية اتلى من الممكن أن تؤدى لجرائم دموية أكد فروز أن منها الاضطراب الوجدانى والهوس وهنا يندفع المريض للقتل بصورة غير مقصودة، كما يؤدى الاكتئاب السودوى للانتحار، والفصام التشككى أو الاضطراب التشككى يودى لأذية الأخرين والقتل الدموى.

ويوضح د.جمال أن اتهام المواطنين ذوى التعليم البسيط بأنهم السبب فى عدم الوعى بالمرض النفسى أمر خاطئ بشكل بير، فهناك نطاق واسع من الأطباء وأساتذة الجامعة والمهندسين وغيرهم من أصحاب التعليم الجامعى والثقافة العالية، عندما يلاحظون إصابة أحد أفراد عائلاتهم بهلاوس سمعية وضلالات يتوجهون لأحد المشايخ أو للكنائس لعلاج الأمر مما يهدر سنوات طويلة على الطريق الخطأ وتسوء الحالة إلى أن يصل الأمر للقتل.

قنبلة موقوتة

من جانبها قالت د.سوسن الفايد، أستاذ علم النفس بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن العديد من الأسر المصرية لاتزال حتى الآن لديها صورة مغلوطة عن أهمية المرض النفسى فى حد ذاته، فكثيرا ما تستسلم إلى أن أحد أفرادها مريض نفسى وكأنه ابتلاء من الله لا يمكن علاجه، موضحة أن السبب الرئيسى فى هذه الصورة المغلوطة هو عدم وجود توعية ثقافية بأهمية الطب النفسي.

 

وأضافت أن شريحة كبيرة من المجتمع ترسخت فى أذهانه أن علاج المريض النفسى يكون فقط بحبسه فى مصحة وعلاجه كهربائيا أو بجلسات معتمدة على "الفضفضة" مع المريض وكل ذلك بالطبع بسبب ما يبث فى وسائل الإعلام منذ القدم، وهو ما يدفع الأسر، خاصة ذات الثقافة المحدودة، أن تتجاهل العلاج وتلتزم الصمت حتى مع رؤيتها بتدهور حالة المريض، فهى لم تكن تتوقع أن يصل الأمر لجريمة نظرا لتعاملها مع المريض على أنه ضعيف ولا يقوى على التفكير فى أمور خطرة.

وأشارت فايد إلى أنه لعلاج هذا الأمر يجب أولا إعادة النظر فيما يبث للمواطن، وهنا يبرز دور وسائل الإعلام التقليدية والجديدة كمنصات التواصل الاجتماعى فى إصلاح الأمر بجانب المؤسسات والشركات المختلفة التى عليها أن تعى أن موظفيها ليسوا فى حصانة عن الإصابة بأى مرض نفسي، فهو لا يعرف سن أو شخص، وضغوط الحياة من الممكن بشكل كبير أن تصيبهم بضغوط نفسية تؤدى لأمراض نفسية فى نهاية الأمر.

مسئولية مجتمعية

أكدت د. سامية خضر أستاذ علم الإجتماع بجامعه عين شمس، أن الخطوة الأولى لتفادى وصولنا لمرحلة الجرائم النفسية، هو الاهتمام بالطفل منذ نشأته ومن هنا تبرز اهمية الاخصائى النفسى والاجتماعى داخل المدرسة خاصة فى ظل زيادة معدلات الطلاق بين الآباء وما يثيره من ضرر نفسي، بجانب توغل السوشيال ميديا وأثرها السلبى على سلوك الطفل بشكل ملحوظ.

 

وأضافت أنه بشكل عام فإن الدور الذى يلعبه الإخصائيون الاجتماعيون والنفسيون أصبح ضرورى فى ظل الضغوط والاحتياجات التى يفرضها التطور التكنولوجى فى عصرنا حالى على الجميع، فيجب الاهتمام بالأمر داخل جميع المؤسسات الحكومية والخاصة.

وأشارت إلى أن المرضى النفسيين البالغين يعانون أشد معاناة من مجتمعهم وحتى من أقاربهم بسبب نبذهم أو وصفهم بوصمه عار، لذا الدولة بأجهزتها الإعلامية عليها دورا كبيرا من ناحية إلقاء الضوء على أهمية المرض النفسى ليصل لجميع فئات المجتمع فالإعلام عليه مسؤليه مجتمعيه وثقافيه كبيره مما يساعد على زياده الوعى وكيفيه التعامل مع هذه الحالات، موضحة أنه من الضرورى توفير الكوادر والبرامج التى تخدم الصحة النفسية وتغير تلك المفاهيم المغلوطه فننمى أجيال أسوياء وأصحاء نفسيا ومجتمعيا.

وأكدت أنه على الدولة إعادة النظر فى تفعيل توظفهم بنسبه ٥٪ فى كل مؤسسات ودمجهم داخل المجتمع لأن لا يستطيع أى شخص العيش منعزلا، فالمريض النفسى يتعافى فقط بالعلاج إذا كان معه رعاية الصحية النفسية واجتماعية جيدة ويكون لديه القدرة على الاندماج فى المجتمع دون أى تمييز.