مدير الجمعية الفلسفية المصرية: الشخصية المصرية قادرة على إعادة صناعة التاريخ

د. مصطفى النشار
د. مصطفى النشار

30‬ يونيو‭ ‬أعادت‭ ‬هويتنا‭ ‬المعتدلة.. ‬و«الإخوان‮»‬‭ ‬ورم‭ ‬سرطانى‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بالوطن

الحديث‭ ‬عن‭ ‬تجديد‭ ‬الخطاب‭ ‬"موضة"‭.. ‬وقصر‭ ‬الاجتهاد‭ ‬على‭ ‬الأزهر‭ ‬مناف‭ ‬للعقل

الشعب‭ ‬المصرى‭ ‬‮«‬مؤمن‭ ‬بطبعه‮»‬‭.. ‬وأجدادنا‭ ‬سبقوا‭ ‬العالم‭ ‬فى‭ ‬التفكير‭ ‬بالغيبيات

 

تتفق الأفكارُ وتختلفُ، تتحدُ وتنفصلُ، تقتربُ وتبتعدُ، ثم تتنازعُ الأطرافُ المتصارعةُ أهدابَ الفكرة الواحدة لإثباتها أو سحقِها؛ وتبقى كل هذه المُحاولات مشعلة للواقع الفكرى قادحةً لزناد الإلهام العقلى الذى أصبح لازمةً فى عصر العولمة الجديد.. وإذا كان أفلاطون، فيلسوف الفلاسفة، وصاحب أول مذهب فلسفى متكامل، قد وضع للفلسفة منهجها باعتبارها علم الحوار، وكتب فلسفته فى هيئة مُحاوراتٍ قابلةٍ للنقاش؛ فإن الحوار مع فيلسوف يُصبح أكثر عصفًا للمُدركات الحسية واستنفارًا للكوامن الذهنية، لكشف سوءات الخمول التى التاط بها العقل العربى الحديث.

ولأننا نفهم أنه لا تقدم بلا أسسٍ معرفيةٍ ينطلقُ منها التفكير الفلسفي، ونُدرك أن حضارتنا قد أسهمت منذ بواكير الوهج المعرفى فى تشكيل نواة العلوم الفلسفية: مصريا بعلوم التشريح والهندسة والفلك، وعربيا بتأثيث وتقعيد وتأصيل المعارف الأرسطية اليونانية ونقلها إلى مرحلةٍ تنويريةٍ جديدةٍ عن طريق الفارابى وابن سينا وابن رشد والتوحيدى وغيرهم،فإن ضرورة الوقوف عند منصة انطلاق إلى المُستقبل يُصبح أمرًا وجوديا لا وزر عنه.. ولهذا كان هذا الحوارُ المعرفى المُتعمق مع أحد أقطاب الدراسات الفلسفية العربية، د. مصطفى النشار، الأستاذ بقسم الفلسفة والعميد الأسبق لكلية الآداب جامعة القاهرة، ومدير الجمعية الفلسفية المصرية، وأحد أصحاب المواقف المتفردة فى التفكير المعاصر، للحديث عن صراع الحضارات والعولمة وغيرها من المصطلحات التى شغلت العقل العربى ولا تزال.. فإلى نص الحوار التشريحى لمكانتنا الذهنية، لنعرف أين نحن وإلى أين المسير:

 

عندما أستطلع العديد من كتبك التى حملت مشروعك التنويرى أجد أن المفتاح الرئيسى لها هو المنافحة المخلصة عن الهوية المصرية والقومية العربية ضد غوائل الأفكار المُستوردة، خاصة فى كتابيك: (ضد العولمة)، و(ما بعد العولمة).. إلى متى نركن إلى هذا الدور الدفاعي؟

استحضار التراث والتاريخ المصرى والعربى ليس لندافع عنه، وإنما لتبيان أثر هذا التراث على الشباب المصرى الذى يبدو أن معظمه لا يُقيم كبير اعتبار لهذا البُعد التاريخي؛ وجزء كبير من الشخصية الحضارية لأى أمة يتعلق بالتاريخ وبالذات إذا تعلق الأمر بمصر أو بالعرب؛ واستحضار هذه الهوية، سواء فى مصر القديمة أو أعلام الفكر المصرى على مرّ التاريخ،له دور فى استحضار الهوية وإعادة الثقة المفقودة للشخصية المصرية، لأننا− للأسف− كثيرًا ما يكون لدينا شعور بالدونية تجاه الغرب، وهذا يرجع إلى مئتى سنة سابقة. وتذكر التاريخ وإنجازاتنا فيه− القديمة أو الوسيطة أو الحديثة− يدعم مسألة إلغاء الإحساس بالدونية، لأننا مثلما صنعنا التاريخ من قبل يُمكن أن نصنعه مرة أخرى.

 

التخلص من الأوهام

لكن هذه الرؤية المتفائلة تصطدم بالسؤال الصعب عن الكيفية.. كيف نُعيد إنتاج تاريخنا المجيد مرة أخرى؟

فى سؤال الكيف علينا أن نعود إلى الأفكار التى طرحتها من قبل فى كتابى (الأرجنون العربى للمستقبل)، لأنها تشرح إجابة السؤال عن هذا الكيف، وأهمها ضرورة التخلص من الأوهام التى يجلبها الشعور بالدونية والإحساس بالمُعجزة الغربية وأن كل ما يفعله الغرب هو الإعجاز وهو التقدم وكل ما لدينا مجرد استهلاك ومحاولة للحاق به. والحقيقة أن أوهامنا أصبحت عبئا ثقيلا يجب التخلص منه، مثل: وهم الأصالة والمعاصرة، ومن أين نبدأ الماضى أو الحاضر، وأنا أقول دائمًا إن بدايتنا ستكون من المستقبل لأن التفكير من المستقبل سيجعلنا ننظر فى التحديات الحالية ونتغلب عليها، وبالتأكيد سنستعين بالتقنيات والتقدم العلمى الغربي، ولكن هذا لن يمنعنا من التمسك بأصالتنا وتراثنا وهويتنا الحضارية؛ وهذه ليست إشكالية صعبة لتأخذ منا مئتى عام للتفكير فيها والتناقش حولها، وحتى الآن نحن ننقسم إلى ثلاث فرق: أتباع القديم وأتباع المعاصرة ثم الذين يجمعون بين الاثنين فى مشروعاتهم الفكرية أمثال د. زكى نجيب محمود؛ وعلينا الآن تجاوز هذه الثنائية.

 

لماذا نجد آراءك صدامية دوما مع فكرة حوار الحضارات باعتبارها وسيلة لتلاقح وتبادل المعارف؟

مسألة حوار الحضارات عندما تأتينى من الغرب أضع الكثير من علامات الاستفهام، لأن الغرب يُحاورنا دائمًا من منطق القوة وأنه الأفضل وأننا لا بد أن نُطيع أوامره، ولهذا أعتقد أن نجاح حوار الحضارات متوقف على إيمان دعاة هذا الحوار من الغربيين بالتكافؤ الحضاري.

 

وهل حقا ترى أن هناك تكافؤا حضاريا بيننا وبين الدول الغربية الآن ليعترفوا به؟!

 التكافؤ الحضارى يعنى أن كل أمة وكل حضارة وكل شعب يملك ما يُمكن أن يُقدمه للآخر، والحقيقة أن الشرق الإسلامى يملك الكثير مما يُمكن أن يُقدمه بموضوعية للآخر، لأن الحضارة الغربية منذ بزوغها فى عصر النهضة حتى الآن لها بُعد واحد فقط وهو البُعد المادى والتقنى والعلمى لأنه كان جانبًا مُفتقدًا فى أوربا فى العصور الوسطى وعندما ركزوا عليه وجدوا النهضة والتقدم، وعندما قطعوا مسافات طويلة وهناك آخرون فى الذيل قاموا بتقسيم العالم إلى عالم أول وثان وثالث ووضعوا معايير للتنمية والتقدم الحضارى لا أوافق عليها على الإطلاق لأنها تعتمد فقط على المقاييس المادية وهذا مجرد جزء فقط من الحضارة وليس كل أشكال الحضارة لأنه من الغبن أن نقيس مدى تحضر الإنسان بثرائه أو بالتقنية التى يملكها.

 

مؤمن بطبعه!

هناك مقولة شهيرة تقول إن الشعب المصرى مؤمن بطبعه.. ما مدى صحة هذه المقولة برأيك؟

هذه مقولة صحيحة، لأن الشعب المصرى منذ بداية تاريخه يؤمن بأن هناك قوة عُليا وإن كانت طبيعة هذه القوة تختلف من عصر إلى عصر ومن دين إلى دين، لكن فى النهاية لا نستطيع إغفال أن أحد أسس الحضارة القديمة التفكير فى الماوراء، وعندما نزل المصرى القديم فى هذه الأرض بدأ بالسيطرة على النهر وتأسيس حضارة زراعية، لكن السؤال الذى واجهه بحدة هو كيفية مواجهة الفناء أو ظاهرة الموت، ومن هنا انشغل بالماوراء التى كانت أساس حضارتنا القديمة.. وكان من الطبيعى بعد ذلك أن يُؤمن بالأديان السماوية بصورة سلسة.

 

كان هذا فى الماضى البعيد.. لكن الواقع القريب يقول غير هذا، يقول إن الفلسفة العربية تأخرت عن الركض المعرفى طوال ألف عام، منذ ابن رشد وابن سينا والفارابى والبيرونى والتوحيدى وغيرهم.. ما رأيك؟

الحقيقة أنه لا يوجد اهتمام عربى بدراسة الفلسفة الآن، وكثير من الناس يعتقدون أن كلمة فيلسوف لا تُطلق إلا على مَن هو صاحب مذهب ضخم مثل أرسطو وأفلاطونوكانط وهيجل وغيرهم، وهذا ليس شرطا أبدًا فأفلاطون كان له تلاميذ لم يكونوا أصحاب مذاهب فلسفية ومع هذا كانوا فلاسفة؛ ولكن الفلسفة قرينة الاجتهاد والحُرية فى إبداء الرأي، وهذا الاجتهاد وهذه الحرية تم القضاء عليهما تقريبًا فى العالم الإسلامى منذ ابن رشد الذى أحرقوا كتبه فى الوقت الذى نسخها الغرب ونهض من خلالها فأصبحت لديهم الرشدية اللاتينية التى بدأت منها الحضارة الغربية الحديثة، وحتى ابن رشد الذى جاء بعد ابن رشد بسنوات أخذ الغرب مقدمته وأسسوا عليها علومهم.

 

أدباء فلاسفة

ولكن الدكتور لويس عوض كان ينفى الصفة الفلسفية عن بعض الذين كتبوا فى الفلسفة من الأدباء أمثال العقاد وتوفيق الحكيم.. ما ردك على ذلك؟

النظرات الأدبية أحيانًا ترقى إلى التصورات الفلسفية، فالعقاد يملك رؤى فلسفية قوية جدا، ويُمكن أن تلمس فلسفته واضحة من خلال كتاباته المتعددة، وكتابه عن "الله" يحمل فلسفة الألوهية؛ وتوفيق الحكيم حين تحدث عن مذهب "التعادلية" كان فيلسوفًا، وكل أستاذ فلسفة جيد هو فيلسوف، فكان د. زكى نجيب محمود فيلسوفا، وكان د. عبد الرحمن بدوى فيلسوفًا، حتى إنه كتب فكرة الزمان الوجودى قبل أن يكتب سارتر كتابه )الوجود والعدم(، أى أنه تحدث عن الوجودية قبل أن يتحدث عنها سارتر الذى هو إمام هذا المذهب فى العالم كله، وقد اعترف بذلك الدكتور طه حُسين حين وصفه بأنه فيلسوف مصرى، إذن فمصر لم تنضب من الفلاسفة طوال تاريخها.

 

أنت من أبناء ثورة يوليو وعاصرت ثورتى 25 يناير و30 يونيو.. كيف ترى تأثير الثورات المصرية على الواقع المعرفى للمصريين؟

بالتأكيد هناك تأثيرات للثورات، وهذه التأثيرات لها جانبان: إيجابى وسلبي، لأن أى ثورة تصنع هزة كبيرة فى المعتقدات والسلوكيات وكذلك فى العقول، وهزة 25 يناير أعطتنا هزة ثورة 30 يونيو، وكلاهما له تقييمه الإيجابى والسلبي، ولولا ثورة يناير ما كانت 30 يونيو، لأن يناير كانت ثورة شباب ولكن لعدم وعى الشباب الكامل بها وجاهزيتهم للآثار الإيجابية لها ولما تم بعدها ضاعت الثورة وهجم عليها الإخوان وخطفوها منهم، وقد كتبتُ رأيى هذا فى كتابى )ثورة الشباب( تأييدًا للثورة وقتها.

 

وما أبرز الآثار الإيجابية والسلبية الأخرى التى كانت مؤثرة لثورة 25 يناير؟

أبرز الآثار السلبية التى ترتبت على ثورة يناير كانت وصول الإخوان إلى السلطة بما فيه من عوامل سلبية أثرت على المجتمع وشوهت اعتداليته ووسطيته، ولكنها كان لها جانب إيجابى آخر وهو أنها كشفت أن تنظيم الإخوان كان يستهدف التأبيد فى السلطة منذ البداية ولم يكن يستهدف الإصلاح الدينى وتكوين دولة إسلامية معتدلة كما كان يزعم.

 

ثورة ضرورية

وكيف ساعدت ثورة 30 يونيو فى كشف هذا الزيف الإخوانى والقضاء عليه مُبكرًا؟

30 يونيو كانت ثورة ضرورية لإعادة الهوية المصرية التى شوهها الإخوان، وكذلك عملت على عودة الشخصية المصرية المعتدلة دينيا، بل وإعادة مصر للمصريين، لأن هذا التنظيم لا يؤمن بالوطن ولا يؤمن بالانتماء للبلد لأنه تنظيم دولى بالأساس، كما أنه تنظيم مصنوع، فهو صناعة غربية لأن حسن البنا كان صناعة ماسونية غربية، وهم يتخذون الدين ستارة لتحقيق أغراضهم مرتكزين على تعلق الشعب بالدين.

 

وإذا كان الإخوان بكل هذه الضحالة المعرفية كما تقول كتابات زعمائهم.. كيف تمكنوا من التأثير فى الشارع طوال هذه السنوات حتى ثورة 30 يونيو؟

الخطاب المؤسس تنظيميا وفكريا للجماعة الإخوانية اعتمد على سيد قطب لأنه كان أديبا ومفكرا بعض الشيء لأنه بدأ تلميذا للعقاد، أما الباقون فلا وزن لهم فكريا، كما أن انتشار الإخوان فى الشارع جاء من تداخلهم مع الناس فى المناسبات الاجتماعية والدينية مما جعل التنظيم يتغلغل فى المجتمع، إضافة إلى التحالفات السياسية بينهم وبين الحكومات المُتتابعة، فعندما تم القضاء عليهم بعد ثورة يوليو رجعوا مرة أخرى بعد أن منحهم الرئيس السادات الفرصة لإعادة بناء التنظيم ليضرب بهم اليساريين فتعاون مع التلمسانى وفتح لهم الصحف، وهذه التحالفات هى التى أبقت هذه الجماعة فى الشارع المصرى إلى أن ظهر هذا الورم السرطانى على حقيقته بعد أن احتلوا السلطة وبيان مرسى الشهير الذى أظهر فيه استبداده بالسلطة وعبثه بالدستور.

 

استعادة الهوية

هل تعتقد أن الشخصية المصرية قادرة دومًا على تجديد نفسها ونفى خبثها وإبراز معدنها الحقيقي؟

بالطبع، والشعب المصرى طوال تاريخه قادر على ذلك، ليس فقط بينه وبين نفسه وإنما أيضًا مع الطوفان الاستعمارى منذ الهكسوس حتى الإنجليز، فالشعب المصرى قادر على استعادة هويته دائمًا طال الزمن أو قصر، وحسب نوع التحدى يستطيع أن يُواجه ويهضم ويتجاوز، وهذا سر بقائه فى التاريخ.

 

هل ترى أن العقل العربى قد أصابه الكسل المعرفى مرة أخرى رغم استفزاز الثورات لقدراته وصعوبة التحديات؟

أحيانًا التأثيرات الخارجية وتحالفات النظم الحاكمة مع الخارج، إضافة إلى متطلبات المواءمة بين الداخل والخارج تُجبر الحاكم العربى بألا يُفضل الصوت المُختلف، وهنا تكمن المشكلة التى تخلق أزمة حُرية وأزمة فى المُشاركة السياسية وأزمة فى التقدم فى النهاية، لأن التقدم لا يأتى من الرأى الواحد مهما كان وجيهًا وثوريا لأنه لن يستمر طويلا إذ ستنضج الفكرة وتنتهي، ولهذا لا بد من تجديد الفكر الذى لن يأتى إلا بمناخ من الحرية والرأى والرأى الآخر؛ والمشكلة أنه دائمًا ما يخلق الحاكم العربى تحديا أو تُفرض عليه التحديات من الخارج، فيستمرئ التمسك بالسلطة ولا يكون هناك مكان للصوت الآخر أو الرأى المختلف.

 

إذن، متى ترجع إلينا تلك الجذوة المعرفية التى توهجت فى بدايات القرن العشرين على أيدى نخبتنا المثقفة؟

تبدأ الأمور كلها عندنا من السياسة، حتى مشكلة التقدم والتخلف، وإذا اقتنع أى نظام سياسى قائم بضرورة التقدم فسيركز على هذا الأمر، وإذا اقتنع أن التقدم هو رهين حرية الفكر فسيهتم بحُرية الفكر، فتسييس المشكلة هو دائمًا المشكلة.

 

إصلاحات جذرية

وهل ترى أن السياسة المصرية الآن تسير فى الاتجاه المعرفى الصحيح؟

الحركة موجودة ورائعة بالفعل، لكنها فى مجال التقدم المادى المهم أيضًا، سواء فى الإصلاحات الجذرية للبنية التحتية ومجالات الطرق والإنتاج الزراعى والصناعي، ولكن لا بد أن يُواكب ذلك تقدم فكرى وإطلاق حُرية التفكير والتعبير والحرص على تعيين قيادات ثقافية مستقلة وقادرة على إنتاج نُخب فكرية جديدة، وأعتقد أن الرئيس السيسى يعى كل ذلك ويعد له عدته ولحظته المناسبة التى أرجو أن تكون قريبة لأنه من المهم جدا فى مصر الآن مواكبة التقدم الفكرى للتقدم المادى.

 

يتحدث الجميع عن الخطاب الدينى والتجديد الفقهى وضرورة مواكبتهما للعصر.. ما مفهومك الفلسفى عن التجديد؟

هذا مصطلح أصبح "موضة" الآن، لكن الحقيقة أن التجديد لا يأتى بالكلام ولا شيوع اللفظ وإنما يأتى عن طريق تجارب فكرية حقيقية، وأعتقد أن الإصلاح الثقافى هو أساس التحديث والتجديد، وإذا ركزنا على استنبات ثقافة التقدم فى المجتمع المصرى فسيحدث التقدم فى كل المجالات بما فيها تجديد الخطاب الديني، لأن ثقافة التخلف قرينة الجمود والثبات أما ثقافة التقدم فقائمة على إتاحة حُرية التفكير وحُرية الإبداع وعدم التقليد والتفاعل مع الرأى المُختلف واستيعابه لا إسكاته. هذه هى الثقافة التى تجب إشاعتها بين الناس، إضافة إلى نظام تعليمى يقوم على تعويد الطالب على الإبداع وليس التقليد والحفظ، لأن الشباب المصرى يملك طاقات مُبدعة لكنه لا يجد البيئة المواتية.

 

صراع مُفتعل

كيف ترى محاولات المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية فى التنصل الدائم من مسئولية هذا التجديد؟

هذا صراع مُفتعل لأنه ليس للتجديد ولا الإبداع بيتٌ ولا مكان، فالاجتهاد مُتاح، وميزة الدين الإسلامى أنه يقوم على فكرة تلقى الفرد لمُعتقداته؛ هل يتلقاها وهو يشعر بحريته إزاءها أم يتلقاها سمعًا وطاعة ووراثة، لأن السمع والطاعة ليس بيئة مواتية للتجديد، أما إذا علمت الناس كيفية تلقى الدين كأفكار وليس كعبادات فسنجد أن الإسلام هو دين الفكر والعقل، وكل الدعوات التى تُنادى بقصر الاجتهاد على الأزهريين ضد العقل، فلا يصح أن نكبت حُرية الناس فى التفكير بأى شكل من الأشكال، بل أدعهم يقولون ثم أتفاعل معهم إيجابًا أو سلبًا، ونحن قد نتهم صاحب الفكرة بالجنون فى البداية ثم أتفاعل معها وأنقدها وآخذها إلى الاتجاه الصحيح؛ أما إذا كبتها مباشرة فلا تجديد لا فى الدين ولا فى غيره.

 

إذا كانت مرتكزاتنا الفقهية قائمة على اجتهاد أئمة توفوا منذ ما يزيد على ألف عام وقد اختلف الزمان والمكان.. ما الطريق إلى الخروجمن هذه الإشكالية التى يراها بعض المثقفين السبب فى انعزالنا الحضارى والفكري؟

صحيح أننى لستُ مُتخصصًا فى الدين، ولكننى أرى أنه على المؤسسات الدينية التمييز بين الفقه وتاريخ الفقه، وعند مواجهة أى قضية فقهية علينا أن نُعمل الاجتهاد أولا ثم نستعين بآراء الأئمة السابقين بعد ذلك، لأن القضايا الفكرية متجددة مثل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتقدم الآن لحظي، ومن ثم لسنا فى حاجة إلى الرجوع إلى الوراء ما دمنا متوافقين مع النص الدينى المتمثل فى الكتاب والسنة، لأن الأئمة السابقين كانوا أئمة لعصورهم وليس لعصورنا.. والحقيقة أننا نرى تقدمًا كبيرًا فى الفتاوى وسرعة فى الاستجابة عن طريق الوسائط التكنولوجية مع التعاطى مع متطلبات العصر وقضاياه المُلحة، لكن تبقى مشكلة تدريس هذه الفتاوى الحديثة داخل المناهج الأزهرية بجوار الأئمة الأربعة.

 

على ذكر المناهج.. هل ترى أن محاولات "التجريب" فى التعليم قادرة على إنتاج فيلسوف مصرى كبير فى الفترة المقبلة؟

أقدر جهود الدولة للحاق بركب التقدم فى التعليم ومحاولة التطوير المستمر، لكننى أرى خطورة على التعليم من كثرة الازدواجيات، ليس فقط بين التعليم الأزهرى والتعليم العام، وإنما فى تعدد المدارس الأجنبية، وهذه مشكلة نصنعها بأنفسنا ثم نلوم أبناءنا على عدم الانتماء، فأشكال التعليم الأجنبى خطر يُهدد الشخصية المصرية، وهذا ليس معناه عدم الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة، ولكن يجب أن يتم ذلك فى ضوء التجربة المصرية، أى تمصير هذه المناهج وتدريب المدرسين عليها، وليس عن طريق استزراع التعليم الأجنبي، لأن هذا أخطر ما يُواجهنا فى المستقبل القريب وليس البعيد.

 

تدوير النخبة!

ما أبرز تأثيرات الفضائيات والوسائط التكنولوجية على أسس التفكير السليم عند الشباب المصري؟

تأثير سلبى فى مجمله للأسف، لأن النغمة الواحدة فى الإعلام بكل أشكاله تقضى على تعددية الآراء وعلى الروح النقدية وعلى إمكانية تقدم المجتمع، إضافة إلى عدم تقديم وجوه جديدة، وعدم الاستعانة بالمُتخصصين للتحدث فى القضايا الشائكة، ولدينا ما يُمكن أن نُطلق عليه ∩تدوير النخبة∪ فى السياسة والإعلام، أى أننا نعتمد على مجموعة من الأشخاص فى كل الأماكن، وكأن الوطن خلا من أبنائه؛ ولهذا علينا الدفع بالشباب أيا كانت رؤاهم ما دام ذلك يتم فى إطار الرؤية الوطنية، وهذا سيساعدنا فى فرز قيادات جديدة وأفكار جديدة.

 

يُقال دومًا إن الفلسفة تعيش فى أبراج ذهنية بعيدة عن واقع الناس.. لماذا لا يُساعد الفلاسفة فى توفير آليات لتهذيب التعصب الكروى والتشدد الفكرى؟

نزلنا بالفعل من أبراجنا منذ عام 2004م فى مصر وانتشرت هذه الدعوة فى العالم العربى كله، وكنتُ رائدًا للتوجه من دراسة الفلسفة النظرية وتاريخ الفلسفة إلى دراسة الفلسفة التطبيقية والتركيز على معالجة قضايا الواقع من منظور فلسفي، وهناك الآن علاجات بالفلسفة لمعظم القضايا المجتمعية، والعالم الآن يهتم بتدريس الفلسفة للأطفال عن طريق تنمية مهارات التفكير النقدى المُستقل، فالطفل يُولد فيلسوفا، ولهذا علينا أن نُعلمه بألا يُسلم مباشرة بالرأى أيا كانت السلطة التى تُلقيه إليه: الأم أو الأب أو المدرسة.