البابا شنودة شاعراً!

وبدهىٌّ أن نجد فى أشعاره ما يصوِّرُ الروح المسيحية فى تسامحها الذى نعرفه من موعظة السيد المسيح على الجبل

البابا شنودة
البابا شنودة

‭ ‬كان‭ ‬للبابا‭ ‬شنودة‭ ‬الثالث‭ (‬1923‭ ‬ـ‭ ‬2012‭) ‬مكانةٌ‭ ‬عظيمةٌ‭ ‬فى‭ ‬نفوس‭ ‬إخواننا‭ ‬الأقباط،‭ ‬ومنزلتُه‭ ‬عندهم‭ ‬تفوقُ‭ ‬الوصف‭. ‬ولا‭ ‬شكَّ‭ ‬فى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬حكماء‭ ‬عصرنا‭ ‬وأشهر‭ ‬واعظيه؛‭ ‬عُرِف‭ ‬بالعقل‭ ‬والسماحة‭ ‬والاعتدال،‭ ‬وتميَّزَ‭ ‬بمواقفه‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬الشجاعة،‭ ‬وكان‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬وأخلاقه‭ ‬مثالاً‭ ‬طيِّباً‭ ‬لسعة‭ ‬الأفق‭ ‬ورحابة‭ ‬الصدر‭ ‬ورجاحة‭ ‬الفكر،‭ ‬والتقريب‭ ‬بين‭ ‬المذاهب‭ ‬والعقائد‭ ‬والأفكار‭.‬

‭ ‬وهو‭ ‬متحدِّثٌ‭ ‬طَلْقُ‭ ‬اللسان،‭ ‬حُلْوُ‭ ‬البيان،‭ ‬سَلِسُ‭ ‬العبارة،‭ ‬واضحُ‭ ‬الفكرة،‭ ‬حاضرُ‭ ‬البديهة،‭ ‬خفيفُ‭ ‬الظل،‭ ‬مبتسمُ‭ ‬الوجه،‭ ‬لا‭ ‬يَمَلُّه‭ ‬المستمعون،‭ ‬ولا‭ ‬يضيق‭ ‬به‭ ‬الجلساء؛‭ ‬يَوَدُّ‭ ‬من‭ ‬يحضرون‭ ‬مواعظه‭ ‬ويتابعون‭ ‬أحاديثَه‭ ‬ألا‭ ‬ينتهى‭ ‬من‭ ‬كلامه‭. ‬بسيطٌ‭ ‬ومتواضعٌ‭ ‬وحنون،‭ ‬متنوع‭ ‬الثقافة،‭ ‬قويُّ‭ ‬الذاكرة،‭ ‬كثيرُ‭ ‬المحفوظ‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربيِّ‭: ‬قديمِه‭ ‬وحديثِه‭. ‬ومن‭ ‬يقرأ‭ ‬سيرةَ‭ ‬حياته‭ ‬إنسانا‭ ‬وراهباً،‭ ‬لا‭ ‬يعجب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬النبيل‭ ‬شاعراُ،‭ ‬بل‭ ‬يعجب‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬كذلك؛‭ ‬والأمرُ‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بكونه‭ ‬رجلَ‭ ‬دينٍ‭ ‬أو‭ ‬رجلَ‭ ‬دنيا،‭ ‬وإنما‭ ‬يرتبط‭ ‬بثقافته‭ ‬ومواهبه‭ ‬واستعداده‭.‬

‭ ‬وُلِدَ‭ ‬نظير‭ ‬جيِّد‭ ‬روفائيل،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬اسمه‭ ‬الحقيقى،‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬قرى‭ ‬محافظة‭ ‬أسيوط،‭ ‬لأسرةٍ‭ ‬من‭ ‬أثرياء‭ ‬الصعيد،‭ ‬فلم‭ ‬يعانِ‭ ‬الفقرَ‭ ‬فى‭ ‬طفولته،‭ ‬ولكنه‭ ‬ظل‭ ‬يشعر‭ ‬بشعور‭ ‬الفقراء‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مراحلِ‭ ‬حياته‭. ‬ولم‭ ‬تكد‭ ‬الفرحة‭ ‬بقدومه‭ ‬تملأ‭ ‬البيت‭ ‬حتى‭ ‬أُصيبت‭ ‬أمُّه‭ ‬بحمَّى‭ ‬النفاس،‭ ‬ورحلَت‭ ‬فجأةً‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تُرضِعَ‭ ‬طفلَها،‭ ‬وكانت‭ ‬أولَ‭ ‬مَن‭ ‬أرضعته‭ ‬سيدةٌ‭ ‬مسلمةٌ‭ ‬شاركت‭ ‬فى‭ ‬عزاء‭ ‬والدته‭!‬

‭ ‬ظهرَت‭ ‬عليه‭ ‬مخايلُ‭ ‬النجابة‭ ‬منذ‭ ‬الصغر،‭ ‬وعُرِف‭ ‬بموهبته‭ ‬الفذَّةِ‭ ‬فى‭ ‬حفظ‭ ‬الشعر‭ ‬ونظمه‭. ‬كان‭ ‬متفرغاً‭ ‬للقراءة‭ ‬والأدب‭ ‬والشعر؛‭ ‬فلم‭ ‬يعرف‭ ‬فى‭ ‬نشأته‭ ‬الأولى‭ ‬لَهْوَ‭ ‬الأطفال‭ ‬ولا‭ ‬عبثَ‭ ‬الشباب‭. ‬وازدادت‭ ‬لديه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬لساعاتٍ‭ ‬طويلة‭ ‬دون‭ ‬كلل،‭ ‬وتعمَّقت‭ ‬فى‭ ‬داخله‭ ‬الرغبة‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يجالسَ‭ ‬الكبارَ‭ ‬ويحاورَهم‭ ‬ويتعلم‭ ‬منهم،‭ ‬واهتمَّ‭ ‬كثيراً‭ ‬بحفظ‭ ‬خُطَبِ‭ ‬الزعيم‭ ‬مكرم‭ ‬عبيد‭ ‬ومرافعاته‭ ‬الشهيرة‭ ‬فى‭ ‬المحاكم،‭ ‬وكانت‭ ‬نموذجاً‭ ‬رائعاً‭ ‬للأدب‭ ‬الرفيع‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭.‬

‭ ‬وفى‭ ‬السنة‭ ‬الرابعة‭ ‬من‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬وكانت‭ ‬تلى‭ ‬الابتدائية‭ ‬مباشرةً،‭ ‬حفِظَ‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬بيتٍ‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬كما‭ ‬اُعجِب‭ ‬بشوقى‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء،‭ ‬وحفظ‭ ‬أكثر‭ ‬مسرحياته‭ ‬الشعرية‭ ‬وقصائده‭. ‬وقد‭ ‬سمعتُه‭ ‬غيرَ‭ ‬مرَّةٍ‭ ‬فى‭ ‬أحاديثه‭ ‬المصوَّرة‭ ‬وهو‭ ‬يحكى‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬المدرسين‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يمتحنه‭ ‬امتحاناً‭ ‬شفويًّا‭ ‬فى‭ ‬مادة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وسأله‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬قصيدةً‭ ‬مما‭ ‬يحفظ،‭ ‬فأجابه‭: ‬من‭ ‬أى‭ ‬عصرٍ‭ ‬تريد‭ ‬؟‭ ‬فدُهِشَ‭ ‬الأستاذ‭ ‬وسأله‭: ‬أَوَتحفظُ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬العصور‭ ‬؟‭! ‬فلما‭ ‬أجابه‭ ‬بالإثباتِ‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬أسمعنا‭ ‬قصيدةً‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬فردَّ‭ ‬عليه‭ : ‬ولأيِّ‭ ‬شاعرٍ‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬تريد‭ ‬؟‭ ‬فطلب‭ ‬منه‭ ‬الممتحن‭ ‬أن‭ ‬يُلقى‭ ‬قصيدةً‭ ‬من‭ ‬نظمه‭ ‬فأعجبته،‭ ‬فطلب‭ ‬منه‭ ‬المزيدَ‭ ‬حتى‭ ‬مَرَّ‭ ‬الوقتُ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر،‭ ‬وأخيراً‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬بشىءٍ‭ ‬من‭ ‬التحدِّى‭: ‬المقرَّرُ‭ ‬عليك‭ ‬جزءٌ‭ ‬من‭ ‬قصيدةٍ‭ ‬طويلة،‭ ‬فهل‭ ‬تعرف‭ ‬أبياتاً‭ ‬من‭ ‬أولِها؟‭ ‬فأجابه‭ : ‬نعم،‭ ‬أعرف‭ ‬أوَّلَها،‭ ‬وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أُلقِيَها‭ ‬من‭ ‬آخرها‭ ‬أيضاً‭!‬

‭ ‬ثم‭ ‬التحق‭ ‬نَظير‭ ‬جَيِّد‭ ‬بقسم‭ ‬التاريخ‭ ‬فى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬وكان‭ ‬محبًّا‭ ‬للتاريخ‭ ‬المصرى‭ ‬القديم‭ ‬والتاريخ‭ ‬الإسلامى،‭ ‬وعُرِف‭ ‬بين‭ ‬زملائه‭ ‬بأنه‭ ‬صديقٌ‭ ‬للجميع‭ ‬؛‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬يجلس‭ ‬إليه‭ ‬الراحةَ‭ ‬فى‭ ‬الحديث‭ ‬معه‭ ‬والإفضاء‭ ‬إليه‭ ‬بما‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬هموم،‭ ‬فيتعاطف‭ ‬معهم‭ ‬بصدقٍ‭ ‬وإخلاص،‭ ‬ويستمع‭ ‬إليهم‭ ‬بصبرٍ‭ ‬ومحبة،‭ ‬ويفكر‭ ‬معهم‭ ‬فى‭ ‬مشاكلهم،‭ ‬ويساعدهم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يجدوا‭ ‬لها‭ ‬حلولاً‭ ‬واقعية،‭ ‬وبدأت‭ ‬شخصيتُه‭ (‬الكارزميَّة‭) ‬تظهرُ‭ ‬مبكِّراً‭. ‬

‭ ‬عمل‭ ‬بعد‭ ‬تخرُّجه‭ ‬مدرساً‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬واللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬استجاب‭ ‬لصوتٍ‭ ‬عميقٍ‭ ‬فى‭ ‬ضميره،‭ ‬يؤكد‭ ‬له‭ ‬أننا‭ ‬نعطى‭ ‬اللهَ‭ ‬فضَلاتِ‭ ‬القلب‭ ‬والوقت،‭ ‬والله‭ ‬يريدُ‭ ‬الوقتَ‭ ‬كلَّه‭ ‬والقلبَ‭ ‬كلَّه،‭ ‬فأخذ‭ ‬يقتصد‭ ‬فى‭ ‬طعامه‭ ‬وشرابه،‭ ‬ويتخلَّى‭ ‬عن‭ ‬الزينة‭ ‬والملابس‭ ‬الأنيقة،‭ ‬ويقرأ‭ ‬كثيراً‭ ‬فى‭ ‬الكتب‭ ‬الدينية‭. ‬وكما‭ ‬يتفجَّرُ‭ ‬البركانُ‭ ‬فجأةً،‭ ‬وفى‭ ‬لحظةٍ‭ ‬خاطفةٍ‭ ‬مثل‭ ‬البرق،‭ ‬حمل‭ ‬نظير‭ ‬جيِّد‭ ‬حقيبته‭ ‬وكُتُبَه‭ ‬ذات‭ ‬صباح،‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬إلى‭ ‬الدير،‭ ‬وعرَف‭ ‬أشِقَّاؤه‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يعودَ‭ ‬إلى‭ ‬دنياهم‭ ‬أبداً،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بالفعل؛‭ ‬فقد‭ ‬انقطع‭ ‬الراهب‭ ‬أنطونيوس‭ ‬السريانى،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬اسمه‭ ‬الجديد،‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬وضجيج‭ ‬البشر،‭ ‬وتفرغ‭ ‬للوحدة‭ ‬والتأمل‭ ‬الروحى،‭ ‬وظلَّ‭ ‬يترقَّى‭ ‬فى‭ ‬المراتب‭ ‬والدرجات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صار‭ ‬الأنبا‭ ‬شنودة‭ ‬الثالث،‭ ‬والبابا‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬بعد‭ ‬المائة‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الكنيسة‭ ‬القبطية‭.‬

‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬يمرُّ‭ ‬بها‭ ‬المَرءُ‭ ‬تصوِّرُ‭ ‬حياتَه‭ ‬الخارجية،‭ ‬فإن‭ ‬فكره‭ ‬وشعره‭ ‬يعكسان‭ ‬حياته‭ ‬الداخلية‭. ‬ولستُ‭ ‬أبالغ‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬شعر‭ ‬البابا‭ ‬شنودة‭ ‬هو‭ ‬فكرُه،‭ ‬وإن‭ ‬فكره‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شعراً‭. ‬استمع‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

لستُ‭ ‬أدرى‭ ‬أيــــن‭ ‬نمضى‭ ‬ومتى‭ ‬كلُّ‭ ‬مـــا‭ ‬أدريه‭ ‬أنَّا‭ ‬ســــوف‭ ‬نمضى

فى‭ ‬طريق‭ ‬الموتِ‭ ‬نجـــــرى‭ ‬كلُّنا‭ ‬فــــى‭ ‬سباقٍ‭ ‬بعضُنا‭ ‬فـــى‭ ‬إثْرِ‭ ‬بعضِ

كبخــــــارٍ‭ ‬مضمحِــلٍّ‭ ‬عُــــــمرُنا‭ ‬مثل‭ ‬برقٍ‭ ‬سوف‭ ‬يمضى‭ ‬مثلَ‭ ‬ومضِ

‭ ‬هكذا‭ ‬قال‭ ‬الرجلُ‭ ‬موجِزاً‭ ‬فى‭ ‬عبارته‭ ‬الشعرية‭ ‬البسيطة‭ ‬العميقة‭ ‬حَيْرةَ‭ ‬الإنسانِ‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الوجود،‭ ‬وعجزه‭ ‬أمام‭ ‬مصيره‭ ‬الحتمىِّ‭ ‬الأبدىِّ‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬ما‭ ‬يدهش‭ ‬العقل‭ ‬ويفاجئُ‭ ‬الفكر؛‭ ‬فليس‭ ‬ثمة‭ ‬طريق‭ ‬آخر‭ ‬لدخول‭ ‬الحياة‭ ‬والخروج‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬الميلادِ‭ ‬والموت،‭ ‬وما‭ ‬دمنا‭ ‬قد‭ ‬جئنا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬بغير‭ ‬حولٍ‭ ‬منَّا‭ ‬ولا‭ ‬قوة،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعىّ‭ ‬أن‭ ‬نتركها‭ ‬بغير‭ ‬إرادةٍ‭ ‬منّا‭ ‬ولا‭ ‬مشيئة‭. ‬بَيْدَ‭ ‬أن‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬النفسَ‭ ‬ويُهيج‭ ‬الخواطر،‭ ‬حين‭ ‬يتذكر‭ ‬المرءُ‭ ‬مآلَه‭ ‬ومنتهاه،‭ ‬ويستحضر‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬غايةَ‭ ‬سعيِه‭ ‬وخاتمة‭ ‬مطافه‭.‬

‭ ‬ولم‭ ‬يَنسَ‭ ‬البابا‭ ‬شنودة‭ ‬أن‭ ‬يذكِّرَنا‭ ‬بأصلِ‭ ‬تكويننا‭ ‬ومبدأ‭ ‬وجودِنا‭ ‬وخَلقِنا،‭ ‬فقال‭ ‬وهو‭ ‬يعرِّضُ‭ ‬بالمغرورين‭ ‬والمتكبرين‭:‬

قل‭ ‬لمن‭ ‬يعتــــــز‭ ‬بالألقاب‭ ‬إن‭ ‬صاح‭ ‬فى‭ ‬فخره‭: ‬مَن‭ ‬أفضلُ‭ ‬منِّي؟

نحنُ‭ ‬فى‭ ‬الأصلِ‭ ‬تـــرابٌ‭ ‬تافهٌ‭ ‬هل‭ ‬سينسَى‭ ‬أصلَه‭ ‬مَن‭ ‬قال‭: ‬إنِّى؟‭!‬

‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬أيضاً‭ ‬فى‭ ‬قوله‭:‬

يا‭ ‬ترابَ‭ ‬الأرضِ‭ ‬يا‭ ‬جَدِّى‭ ‬وجَدَّ‭ ‬الناسِ‭ ‬طُرَّا

أنتَ‭ ‬أصْـــلِى،‭ ‬أنتَ‭ ‬أقـــــدمُ‭ ‬من‭ ‬آدمَ‭ ‬عمرا

‭ ‬ومصيرى‭ ‬أنتَ‭ ‬فـى‭ ‬القبـرِ‭ ‬إذا‭ ‬وُسِّدتُ‭ ‬قبرا

‭ ‬ويبدو‭ ‬لى‭ ‬أنه‭ ‬متأثِّرٌ‭ ‬كثيراً‭ ‬بالشاعر‭ ‬المِهجَريِّ‭ ‬الأشهر‭ ‬إيليا‭ ‬أبى‭ ‬ماضى،‭ ‬وبخاصة‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ (‬الطلاسم‭) ‬التى‭ ‬نجد‭ ‬صداها‭ ‬ظاهراً‭ ‬فى‭ ‬مثل‭ ‬قوله‭:‬

يا‭ ‬صديقى‭ ‬لستُ‭ ‬أدرى‭ ‬مَن‭ ‬أنا‭ ‬أوَ‭ ‬تدرى‭ ‬أنتَ‭ ‬من‭ ‬أنتَ‭ ‬هنا؟‭!‬

أنتَ‭ ‬مثلى‭ ‬تائهٌ‭ ‬فـــــــى‭ ‬غُربةٍ‭ ‬وجميـــع‭ ‬الناسِ‭ ‬أيضاً‭ ‬مثلُنا

نحـــنُ‭ ‬ضَيفانِ‭ ‬نُقَضِّى‭ ‬فتـــرةً‭ ‬ثم‭ ‬نمضى‭ ‬حـين‭ ‬يأتى‭ ‬يومُنا

‭ ‬وقريبٌ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬يصف‭ ‬غربته‭ ‬فى‭ ‬الدنيا‭ ‬وحَيرةَ‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ ‬فهم‭ ‬سِرِّه‭ ‬وإدراكِ‭ ‬حقيقته‭ :‬

غـــــريباً‭ ‬عشتُ‭ ‬فى‭ ‬الدنيا‭ ‬نـــزيلاً‭ ‬مثــــلَ‭ ‬آبائـــي

غــــــريباً‭ ‬فــــى‭ ‬أساليـبى‭ ‬وأفكارى‭ ‬وأهــــــــوائي

غريباً‭ ‬لـم‭ ‬أجـــــــد‭ ‬سَمعاً‭ ‬أُفَــــرِّغُ‭ ‬فيـــــــه‭ ‬آرائي

يَحــــــارُ‭ ‬الناسُ‭ ‬فى‭ ‬ألِفى‭ ‬ولا‭ ‬يــدرون‭ ‬مــــا‭ ‬يائى‭!‬

‭ ‬وما‭ ‬أعجب‭ ‬وما‭ ‬أجملَ‭ ‬مناجاتِه‭ ‬الرقيقةَ‭ ‬لله‭ ‬فى‭ ‬خَلوته‭ ‬ومعتزَله‭:‬

قلبيَ‭ ‬الخفَّاقُ‭ ‬أضحَـى‭ ‬مضجعَك‭ ‬فى‭ ‬حنايا‭ ‬الصدر‭ ‬أخفى‭ ‬موضعَك

قد‭ ‬تركت‭ ‬الكون‭ ‬فى‭ ‬ضوضائه‭ ‬واعتزلت‭ ‬الكلَّ‭ ‬كى‭ ‬أحـــــيا‭ ‬معك

ليس‭ ‬لـــى‭ ‬فكـــرٌ‭ ‬ولا‭ ‬رأىٌ‭ ‬ولا‭ ‬شهوةٌ‭ ‬أخــــــرى‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أتبَعَك

‭ ‬لم‭ ‬يسَعكَ‭ ‬الكــــــونُ‭ ‬ما‭ ‬أضيَقَه‭ ‬كيــــــف‭ ‬للقـــلبِ‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬يسَعَك‭ ‬؟‭!‬

‭ ‬وبدهىٌّ‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬فى‭ ‬أشعاره‭ ‬ما‭ ‬يصوِّرُ‭ ‬الروح‭ ‬المسيحية‭ ‬فى‭ ‬تسامحها‭ ‬الذى‭ ‬نعرفه‭ ‬من‭ ‬موعظة‭ ‬السيد‭ ‬المسيح‭ ‬على‭ ‬الجبل‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬لتلاميذه‭: ‬اأحبُّوا‭ ‬أعداءكم،‭ ‬باركوا‭ ‬لاعنيكم،‭ ‬أحسنوا‭ ‬إلى‭ ‬مبغضيكم،‭ ‬وصَلُّوا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الذين‭ ‬يسيئون‭ ‬إليكم‭ ‬ويطردونكمب‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نلقاه‭ ‬فى‭ ‬قوله‭:‬

إن‭ ‬جــــــاع‭ ‬عدَّك‭ ‬أطعِمْهُ‭ ‬وإذا‭ ‬مــا‭ ‬احتــاج‭ ‬تساعدُه

وبكـــل‭ ‬سخــاءٍ‭ ‬تـــعطــيهِ‭ ‬ومن‭ ‬الخـــيراتِ‭ ‬املأ‭ ‬يدَهُ

أحسِن‭ ‬للكلِّ‭ ‬تنلْ‭ ‬خــــــيراً‭ ‬من‭ ‬يزرع‭ ‬خيــراً‭ ‬يحصده

‭ ‬وقد‭ ‬تجد‭ ‬أثرَ‭ ‬الأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬الشريفة،‭ ‬وكان‭ ‬يحفظ‭ ‬طرفاً‭ ‬منها،‭ ‬وذلك‭ ‬فى‭ ‬مثل‭ ‬قوله‭ ‬عن‭ ‬مصر‭:‬

نـــوى‭ ‬الكلُّ‭ ‬رفعَكِ‭ ‬فوق‭ ‬الرؤوسِ‭ ‬وحقًّا‭ ‬لكلِّ‭ ‬امرئٍ‭ ‬مـــا‭ ‬نوَى‭!‬

‭ ‬بقى‭ ‬أن‭ ‬أشيرَ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬ديوانه‭ ‬من‭ ‬أزجالٍ‭ ‬عاميَّةٍ‭ ‬وأشعارٍ‭ ‬فكاهية‭ ‬ومشاهد‭ ‬تمثيلية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تتسع‭ ‬لعرضه‭ ‬ودرسه‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭. ‬ويمكن‭ ‬للقارئ‭ ‬الكريم‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إليه‭ ‬فى‭ ‬طبعته‭ ‬التى‭ ‬أخرجها‭ ‬صديقُنا‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬سالمان،‭ ‬وقدَّم‭ ‬لها‭ ‬بدراسةٍ‭ ‬نقديةٍ‭ ‬موسَّعةٍ،‭ ‬وطبعتها‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬البابا‭ ‬شنودة‭ ‬مباشرةً‭.‬

‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬أيضاً‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المقالَ‭ ‬إجمالٌ‭ ‬يحتاجُ‭ ‬إلى‭ ‬تفصيل،‭ ‬وإيجازٌ‭ ‬ينتظر‭ ‬الإسهاب،‭ ‬لكنَّ‭ ‬شيئاً‭ ‬خيرٌ‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬شىء؛‭ ‬وأرجو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬قابل‭ ‬الأيام،‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬مجالٌ‭ ‬أرحبُ‭ ‬للتأمل‭ ‬الواسع‭ ‬والعرض‭ ‬الوافى‭ ‬والبحث‭ ‬العميق‭!‬