روعة الأفلام بين قسوة الحياة وقسوة المهرجان

فيلم ترتيب جديد
فيلم ترتيب جديد

كتبت  هويدا حمدي :

أيام من الفن والإبداع الرائع عشناه مع فعاليات الدورة الثانية والأربعين لمهرجان القاهرة الذي عانينا قسوته قبل ان تصدمنا قسوة الأفلام الرائعة .. ساعات من الطوابير والانتظار في صفوف مرهقة للحجز ودخول قاعات العرض بدعوي الإجراءات الاحترازية ،ويتجاهل منظموه أن التزاحم ما هو إلا دعوة مفتوحة للعدوي، حتي أصبحت الطوابير غاية وليست وسيلة ،و أصبح المنظمون وشركاؤهم يتلذذون بطوابير" الذنب "مابين فيلم وآخر .

كانت الأفلام قاسية عنيفة ومرهقة كعام ٢٠٢٠ الذي علي ما يبدو ترك بصماته مبكرا علي إبداع صناع السينما فسبقت أفلامهم الواقع وفرضت آلام الفقر والمرض والفقد والوحدة والخوف نفسها علي أفلام مهرجان القاهرة السينمائي هذا العام

" الأب " عبقرية هوبكنز

————————

بداية من فيلم الافتتاح " الأب " لفلوريان زيللر الذي قدم فيه السير أنتوني هوبكنز أداءا عبقريا لشخصية أب عجوز يصيبه خرف الشيخوخة فتودعه ابنته ( أوليفيا كولمان ) بأحد دور الرعاية وترحل لشأنها ،لتنشطر حياته بعدما تخذله ذاكرته وذكرياته ووعيه وإرادته فيعيش حياة مرتبكة مشوشة ، تتوارد عليه وتهاجمه خيالات يمزجها بواقع يرفضه ليتهاوى في النهاية علي صدر ممرضته بالدار والتي يصارع عقله المريض ليحسبها ابنته ، يرفض عقله الاستسلام لواقع غياب ابنتيه فيزداد تشويشا ، وتبقي الذكريات والصور والأماكن تصدمه وتسجنه وتقيد روحه الشابة رغم عجز الجسد .

عبقرية انتوني هوبكنز في تجسيد معاناة الأب كانت العنصر الرئيسي في صنع فيلم رائع من أقوي وأجمل أفلام العام ،تناغم معه عبقرية سيناريو عشنا معه حالة الارتباك والتشوش التي فُرضت علي الاب وفرضت نفسها علينا ، التفاصيل الصغيرة كملابس الأب والملابس المعلقة علي شماعات المنزل والتي تختلف وتتبدل مع تحولات وعي الأب ، ديكور المنزل بحجراته العديدة المغلقة وباب حجرة الأب الواسع ، ألوان الجدران التي تتغير مع إدراكه وإدراكنا للحالة ، الستائر المزينة بورق شجر بلا حياة وفي الخارج تكتسي الاشجار بلون اخضر لا يسبغ نفسه علي حياة الأب العجوز ،واللوحات والصور التي تختفي مع ذكرياته وعالمه الحقيقي ورغم محاولاته المرهقة للهروب لعالم افتراضي يتمناه، نتحول تدريجيا للواقع الأليم وندرك أنه ليس بعالمه وبيته وحجرته ومطبخه وموسيقاه ، ونبكي معه في حضن امرأة ليست ابنته !!

اخراج رائع لزيللر نجح في السيطرة علي حواسنا لساعتين إلا ربع محبوسين مع الأب داخل جدران عالميه الحقيقي والافتراضي دون أن نشعر بملل للحظة ، فيلم سيكون له حظ وافر في ترشيحات الأوسكار خاصة أفضل ممثل التي يستحقها هوبكنز عن جدارة .

" أرض الرحل " وحقيقة الحياة

وبشكل آخر كان الفيلم العبقري أيضا " أرض الرُحّل"إمرأة عجوز قوية تواجه الطبيعة بصلابة أشد من صخور الأرض ، تتجاوز حياتها الجافة بكل ما فيها من ألم وقسوة بعد وداع زوجها ليتركها وحيدة بلا أبناء ، والانهيار الاقتصادي الذي سيطر علي الولاية التي كانت تعيش فيها فأرغمها علي الرحيل ، رسمت الحياة علي وجهها خطوطا وثنايا عميقة بعمق روحها التي لم تستسلم للواقع وقررت أن تخوض رحلة تكتشف من خلالها حقيقة الكون والطبيعة وماهية الحياة ، تنطلق في حافلة تضم كل ما لها علي هذه الأرض لتعيش كالبدو ، ومعها في الرحلة رفاق كل بحافلته ، يواجه مصيرا مختلفا ، البعض يرحل لأرض أخري وآخر يرحل بعيدا إلي السماء ، وتبقي هي وكأنها جزء من الطبيعة صلب كئيب كالجليد ،متصحر كالأرض الشاسعة الجافة بلا عشب سوي صبار وشوك قاس ، تحجرت مشاعرها كأنثي فلا تكترث برفيق رحلة يحاول أن يجذبها لعالم دافئ ينبض بالحياة ، لكنها تفضل الرحيل للبراح ،لا يسجنها حب أو بيت ولا أسرة فكله زائل ، الكون هو الحقيقة الوحيدة الباقية للأبد !

أداء عبقري أيضا لفرانسيس ماكدورماند التي تناسب ملامحها الجامدة تلك الأدوار ، لم تكن تحتاج لحوار فعيناها تكفيان وتبطلان مفعول أي كلام ، وأعتقد ستحصد الاوسكار الثانية لها عن هذا الفيلم!

أما مخرجة الفيلم كلوي تشاو فتلك عبقرية أخري أعتقد ستقتنص أوسكار أفضل إخراج ،وربما يقتنص الفيلم أيضا أوسكار أفضل فيلم لتحمل المخرجة الآسيوية الشابة أكبر وأهم جائزتين لهذا العام .

 

حب ضائع بين الماضي والحاضر

" أوندينا" للمخرج الألماني الكبير كريستيان بيتزولد .. واحد من أجمل أفلام المهرجان، حب ضائع بين تاريخ مؤلم وحاضر يحاول استنساخ علاقة رومانسية تبدو أكثر جمالا وعذوبة من علاقة سابقة مع حبيب خائن يغادر حبيبته لأخرى، ولا يلتفت لدموعها وتوسلاتها بالبقاء، أو تهديدها بأن تحق عليه اسطورة "أوندينا" عروس البحر التي تقتل حبيبها الخائن وتعود لتغرق في المياه .

تتركه أوندينا الشابة الجميلة باولا بير ( حصلت عن دورها علي افضل ممثلة في مهرجان برلين ) لتلقي محاضرتها المعتادة عن التنمية الحضارية وتتابعه من الشرفة لتجده قد اختفي ، تقاوم احساسها بالفقد والمرارة ،حتي يهديها القدر حب جديد حين تلتقي بالغطاس كريستوف ( فرانس روجوفسكي ) ، تعيش معه قصة حب رومانسية عذبة ، إلا أن الماضي يلاحقها ، ويغادر حبيبها عالمها فجأة ، وتعلم أنه بأحد المستشفيات وتخبرها غريمتها أنه مات اكلينيكيا ، تذهب لتنفذ حكم القدر وتعيد الأسطورة، تقتل الماضي ، الحبيب الخائن ، ثم تغرق في اعماق البحر ، وتحدث المعجزة يعود كريستوف للحياة ليبحث عن أوندينا ويدرك أنها رحلت كماض لن يعود .

القصة الحزينة اسقاط علي قدر برلين المنشطرة روحا بين التاريخ والحاضر ومحاولة البعض استعادة الماضي والتاريخ الذي لن يعود مهما كان .

أكثر الأفلام قسوة وعنف ودموية في المكسيك بأحد القصور حيث تحتفل الطبقة الثرية بزفاف إبنتها الجميلة الشقراء ( الموهوبة نايان جونزاليز )وتبدو الفجوة واسعة بين أصحاب القصر وخادميهم حتي في الملامح ، تشعر أنك في وطن آخر لا علاقة له بالمكسيك ، حتي يهاجم القصر الجياع، يتحول العرس لساحة حرب دموية ، وفي الخارج لا يختلف الأمر ، فانتفاضة الفقراءتحولت لثورة ، و العنف والدم هو اللغة الوحيدة التي يعرفها الجياع الآن ، الجثث في كل مكان وأبناء الطبقة الثرية قد أصبحوا أسري في معتقل ضخم ،والعروس الجميلة أصبحت مستباحة ، يسيطر الجيش في النهاية ولكن بعدما تقتل العروس وتتحول البلد لمدفن كبير .

الفيلم الرائع الصادم " ترتيب جديد " لم يكن الأول ولن يكون الأخير الذي ينذر بفوضي دموية بسبب التفاوت الطبقي المرعب الذي يعيشه العالم الآن .. أبدع فيه كاتب الفيلم ومخرجه ميشيل فرانكو وتلاعب بالمشاعر والالوان لنغرق معه في بحر من دم وفزع أظنه لم ينته مع كلمة النهاية ، فقد تركنا في رعب حقيقي من القادم .