صراع في منابع النيل

محمد صلاح عبد المقصود
محمد صلاح عبد المقصود

شهد الصراع القومي الاثيوبي أمس اثنين من التطورات الحادة و الخطيرة، و التي تنعرج بالصراع كله لما هو أبعد من حملات عسكرية لتأديب اقليم متمرد، و التي يعج بها تاريخ اثيوبيا القديم و الحديث، أو حتى حرب أهلية بين قوميتين من القوميات الاثيوبية العديدة و المتناحرة على الدوام، لتصل به إلى كرة لهب كبرى قد تصيب وسط و شرق افريقيا بالكامل.

التطور الأول هو بدء اطلاق الصواريخ من جانب الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، كانت الدفعة الأولى ستة صواريخ، ثلاث منها أصابت مطاريين عسكريين داخل اثيوبيا، قالت الجبهة أنهم يستخدموا في الحرب ضدها، و ثلاث أصابت الاراضي الاريترية، اثنين منهما اصابا مطار اسمرة الدولي.

فيما كان التطور الثاني اعلان الامم المتحدة عن مجموعة من حوادث القتل الجماعي داخل اثيوبيا، و التي قالت المفوضية العامة لحقوق الانسان بالأمم المتحدة أنها جرائم قتل عرقي ديني، ترقى لمستوى جرائم الحرب.

يأتي هذان التطوران بعد يوم من قصف القوات الحكومية لسد تكيزي عبر استهداف محطات الكهرباء القريبة منه، و هو ما يعني أن الصراع العسكري في تيجراي يتطور بسرعة كبيرة، و أن هناك قوى دولية كبرى، و أخرى اقليمية اشتهرت مؤخرا بدعم الارهاب وراء ما يحدث على المسرح الاثيوبي.

و تتعمد القوتين اشعال النيران بين الطرفين -ربما تكشف الايام القادمة عن دعمها للطرفين أيضا-و تستهدفا اطالة أمد الحرب بين جميع الاطراف، بل ربما تسعى لتوريط أطراف أخرى في هذا الصراع الإثيوبي الأبدي، لا يزيد عليه هذه المرة سوى الأهمية الاستراتيجية و الاعلامية التي حظيت بها دولة المنبع الموسمي لنهر النيل، لاسيما بعد تدويل أزمة سد النهضة مع مصر و السودان.

و كما تقول القاعدة السياسية الثابتة، و هي أن هذه القوى لا تضع حجرا فوق حجر داخل مجال المنطقة الحيوية للامن القومي المصري، إلا و كان الهدف مصر و استقرار مصر ووجود مصر، و لا يوجد ما يهدد وجود مصر أكثر من شريان حياتها و مصدر المياه الوحيد فيها، و هو نهر النيل العظيم و منابعه الموزعة ما بين وسط و شرق افريقيا.

قد تستفيد مصر مرحليا من الأحداث الجارية، عبر توقف البناء في السد لفترة محدودة من الزمن، لكن تبقى الاستفادة الاعظم في استقرار الدول في الشرق الافريقي، و ألا تنهار وسط هذا الطوفان، و تصبح جسرا جديدا للجماعات الارهابية، و عمليات نقل السلاح و المخدرات، خاصة و أن رؤية مستقبلية مثل مصر 2030 تعتمد بشكل كبير على استراتيجية النقل و البقاء كحلقة وصل بين الشرق الصيني الروسي و الغرب الاوروبي الامريكي مع الجنوب الافريقي، و كذلك الاستحواذ على حصص كبرى في الاسواق الافريقية الناشئة و القريبة و الصديقة، و التي يمكن أن تستوعب كثير منالخبرات و المنتجات المصرية في المستقبل.

القوى الدولية و الاقليمية التي تدير الصراع في اثيوبيا متواجدة فيها منذ زمن بعيد، و بدقة أكثر فهي متواجدة منذ سقوط مصر في يد الاحتلال البريطاني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، و هو احتلال حول الممتلكات المصرية في الجنوب و البحر الأحمر إلى مستعمرات بريطانية و أوروبية، سواء بشكل مباشر عبر الاحتلال التقليدي في السودان و دول منابع النيل، أو بشكل غير مباشر عبر بناء كيانات ضعيفة و موالية للغرب، كما حدث مع اثيوبيا.

استمر تواجد هذه القوى في منابع النيل حتى اليوم، و تغلغلت للدرجة التي أصبح فيها للرئيس الاوغندي يوري موسيفيني صورة في متحف أصدقاء اسرائيل، و الذي اعلنت عنه مؤخرا، و تستحق صورة موسيفيني هذا التواجد و أكثر بعدما قام بدور هام في تقسيم السودان، ثم تهيئة الاجواء للتطبيع الاسرائيلي مع السودان القديم و الجديد على السواء.

هذا الوجود المؤثر لهذه القوى في منابع النيل، و الذي تُوِج بسد النهضة، الذي جاء كمحطة وصول للهدف الأبرز من كل التحركات التاريخية، و هو السيطرة على مصر و التأثير على القرار السياسي المصري عبر سد "الدمار الشامل"، هكذا يجب أن نقرأ كمصريين المشهد الحقيقي في منابع النيل، و هكذا يجب أن نتفهم الصمت المصري إزاء ما يجري من تطورات في هذا الصراع الخطير.

ما يجب أن ندركه كمصريين أن معركة السد ليست مع اثيوبيا أو أي من قومياتها في المقام الأول، كان الرئيس السيسي واضحا و صريحا، و هو يعلن للعالم أن اثيوبيا لا تمتلك الارادة السياسية اللازمة للتوصل لاتفاق ملزم حول هذا السد، و الحقيقة أن هذا المشروع بكل تفاصيله و مراحل تنفيذه و مراحل تمويله فوق قدرة الدولة الاثيوبية، التي تمتلك احتياطيا من النقد الاجنبي أقل من تكلفة السد!

و المزعج أن الادارات الاثيوبية السابقة و الحالية و القادمة لا تمتلك قدرة ولا رغبة أو حتى قرارا في هذا الشأن، كل ما يمكن أن تقوم به هو تنفيذ ما يصدر لها من أوامر من أصحاب السد فقط، و هو أمر أدركته الدولة المصرية مبكرا جدا، و بدأت الاعداد لمواجهة هذا الأمر بحرفية و صبر و خداع استراتيجي ربما يدرس في التاريخ، كما يدرس الخداع الاستراتيجي في حرب أكتوبر.

إن أبرز مكاسب مصر من هذا الصراع الاثيوبي هو اعلان دقة و صحة كل كلمة قالتها مصر في مشوار التفاوض الطويل، أثبت الصراع أن مصر لم تكن يوما طرفا معطلا في المفاوضات، و كل مخاوفها استحالت عناوينا للأخبار و تفاصيل مأساوية يقرأها العالم كل صباح، بكل ما حدث من اثبات ضعف الدولة في اثيوبيا، ثم استهداف السدود اثر خلاف قومي، أو حتى القصف الصاروخي المتبادل بين طرفين يفترض أنهما ينتميانلنفس الدولة!

كسبت مصر أن التجربة أثبتت أن الطرف الذي استمعت له اثيوبيا و سلمته قرارها الأمني و الاستراتيجي، هو الطرف الذي يهدمها اليوم للسيطرة على النهر الخالد، و هو أمر أكثر من يدركه اليوم هم أفراد فرق التفاوض الاثيوبية المختلفة، و يأبى رئيس الوزراء الاثيوبي آبي احمد الاعتراف به من قبيل الكبر و العجرفة ليس إلا.

إن جنوح مصر الدائم للسلام، و اعلائها لقيم التعاون و تبادل المنافع و الأمن كان حكمة و ليس ضعفا أو خوفا من أحد، لا ترغب مصر أن يتحول القرن الافريقي إلى منطقة نزاع عسكري دولي مشتعلة، لكنها في الوقت ذاته لن تسمح أيضا أن يعبث أحدهم بمقدرات الشعب المصري و حقوقه التاريخية، أو أن يتصور مخلوق أنه قادر على السيطرة على القرار المصري.

الكرة اليوم في الملعب الاثيوبي، إما أن يستمع الجميع هناك لصوت العقل، و تنحي جميع الاطراف منطق القوة و الغطرسة و السلاح،و يعودوا إلى المفاوضات السياسية داخليا و خارجيا بمزيد من الفهم و الرغبة في التعاون الشامل بين مصر و السودان و باقي دول القرن الافريقي.

أو أن تواصل اثيوبيا الكبر بلا سبب، و العجرفة بلا دليل، و الغطرسة بلا منطق، و تستمر في اشعال كرة اللهب التي ستحرقها هي قبل حتى أن تمس الآخرين، بل ربما تذهب بها إلى حيث ذهبت يوغوسلافيا و الاتحاد السوفيتي، و غيرها من الدول التي ذهبت إلى المتاحف، و لم تعود!

اقرأ أيضا: سمعة الحكومة في درج مفتوح!