نقطة ارتكاز

العرب.. والتعليم الرقمى

د. غسان محمد عسيلان
د. غسان محمد عسيلان

تُعد دولة (إستونيا) الدولة الأولى أوروبيًّا فى مجال التعليم الرقمى؛ إذ بدأت المدارس هناك فى تطبيق هذا النظام منذ تسعينيات القرن العشرين، حتى صار كل ما يرتبط بالعملية التعليمية مثل الواجبات المنزلية، ورصد وتوزيع درجات الطلاب يتمُّ عبر نظام رقمى مركزى يُنَفَّذ فى جميع المدارس، أمَّا على المستوى العربى فقد وُجِدت قبل زمن كورونا بعض المحاولات لدخول عالم التعليم الرقمى، لكنها كانت تسير ببطء وعلى استحياء!!
ولعل من الموضوعية والصدق مع النفس أن نعترف بأن هناك مشاكل حقيقية فى أغلب النظم التعليمية العربية؛ إذ تقبع – بكل أسف – فى أسفل سلُّم التقييم العالمى الخاص بمؤشرات التعليم، ويؤكد تقريرٌ علمىٌّ مفصَّل للبنك الدولى أن التعليم العربى جامد بشكل كبير، ويعانى من عدة مشاكل جوهرية من بينها التركيزُ على الشهادات أكثر من المهارات، والحرصُ الزائد على الحفظ والتلقين أكثر من الفهم والتحليل، فضلًا عن التخبط والارتجال والعشوائية فى رسم السياسات التعليمية فى أكثر من بلدٍ عربى، وبالطبع فقد أثَّر ذلك سلبيًّا على إنجاح مشروع التعليم برمته فى هذه البلدان!!
وعندما ضربت جائحةُ كورونا العالم مؤخَّرًا ألقَت بأعباء إضافية على كاهل وزارات التعليم فى عالمنا العربى التى تحاول إنقاذ العملية التعليمية عبر (التعليم الرقمى) لكن هذا التوجُّه ليس سهلًا، حيث لا تنتابه المصاعب الاقتصادية والعراقيل الفنيَّة والتقنيَّة وحسب، بل تُحيط به الكثير من الشكوك فى معظم مجتمعاتنا العربية؛ لأن أغلب أنظمتنا التعليمية لم تنجح أصلًا فى التعليم التقليدى القائم على الدراسة داخل الفصول الحقيقية، فكيف سيكون الأمر مع الفصول الافتراضية؛ لاسيما مع ضعف الأوضاع المعيشية لجزء كبير من السكان فى معظم الدول العربية، ناهيك عن عدم وصول تغطية شبكات الإنترنت إلى مناطق واسعة فيها!!
والحقُّ أن همَّ التعليم فى زمن كورونا ليس همًّا عربيًّا فقط، بل هو أزمة عالمية مطروحة للنقاش على المستويات كافة، وإذا كانت بعض دول العالم الكبرى مثل ألمانيا تعترف بعدم استعدادها بشكل كامل للتعليم الرقمي؛ لأن المناهج والأنشطة اللاصفية ليست مصممة له، كما أن معظم المعلمين فيها ليسوا مدربين جيدًا عليه، وليس لديهم فكرة متكاملة عن أفضل طرق التدريس فى هذا النوع من التعليم!! فما بالنا بدول العالم العربى الفقيرة التى يعيش أغلب سكانها تحت خط الفقر!!وهناك العديد من المشاكل التقنيَّة حيث لا يملك كل طالب فى منزله الأدوات اللازمة لضمان سير العملية التعليمية عن بُعد بيسر وسهولة، بل فى معظم الدول العربية قد لا يملك الطالب أصلًا حاسوبًا يتعلم من خلاله، وإن توافر الحاسوب لكل مجموعة من الطلاب فقد لا يتوافر فى المنزل الاتصال بشبكة الإنترنت!! كما أن الطلاب أنفسهم لا يجيدون استعمال البرامج المستخدمة فى التعليم الرقمى بنفس القدر، وأغلب المعلمين غير مدربين على تقنيات هذا النوع من التعليم.
ورغم صحة هذا الكلام فى المجمل لكن من المنصف والمفيد هنا أن نؤكِّد أنَّ الصورة ليست حالكة السواد وليست بهذه القتامة، وقد تفاجأنا فى عالمنا العربى كما تفاجأ غيرنا بأزمة جائحة كورونا التى فرضت علينا الانتقال إلى التعليم الرقمى، واستخدام وسائل الإعلام الجماهيرى كالقنوات التعليمية التليفزيونية، والإذاعات الحكومية لشرح المناهج الدراسية للطلاب لتمكينهم من متابعة دروسهم؛ لضمان سير العملية التعليمية وعدم تعثًّرها.
وقد اجتهدت وزارات التعليم وبذلت أقصى ما تسطيع لتسهيل العملية التعليمية عبر منصات التعليم الرقمى، وفى هذا الإطار أُبرِمَ العديد من الاتفاقات بين هذه الوزارات وبين شركات الإنترنت لتمكين الطلاب من الدخول إلى المنصات التعليمية مجانًا، وعلى سبيل المثال لا الحصر أعلنت وزارة التعليم المغربية أن عدد مستخدمى البوابة الوطنية الخاصة بالتعليم عن بُعد وصل هناك إلى نحو ستمائة ألف يوميًّا، وأن عدد المواد الرقميَّة المصوّرة فيها بلغ ثلاثة آلاف، وأطلقت وزارة التعليم المصرية موقع (إدمودو Edmodo) الذى يتيح التواصل ومناقشة الدروس بين الطلاب والمدرسين، ويحقق قدرًا كبيرًا من التفاعلية، ويستفيد من هذا الموقع نحو اثنين وعشرين مليون طالب وطالبة.
وفى الواقع فإن من أروع نماذج التعليم الرقمى فى العالم العربى النموذج السعودى، فبفضل القرارات الشجاعة التى اتخذتها وزارة التعليم السعودية وعلى رأسها معالى وزير التعليم السعودى الدكتور حمد بن محمد آل الشيخ بدأ العام الدراسى فى موعده دون تأجيل، وفى غضون مدة وجيزة تمكَّنت وزارة التعليم السعودية من توفير التعليم عن بُعد لأكثر من ستة ملايين طالب وطالبة ولنحو ستمائة ألف معلم ومعلمة، وتم من خلال منصة (مدرستى) توفير نموذج تفاعلى عن بُعد بين الطلاب والمعلمين، مع توفير بدائل مناسبة للمنصة عبر قنوات عين التعليمية، وغيرها من الوسائل التقنية الأخرى.
وفى الحقيقة فإننى أعتقد أنه من النافع والمفيد أن يتم توثيق تجربة التعليم الرقمى فى المملكة العربية السعودية، وتعميمها على سائر دول عالمنا العربى للاستفادة منها، وأعتقد أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) تحت قيادة معالى الأستاذ الدكتور محمد ولد أعمر سوف تُعنى بنقل التجارب العربية والدولية الناجحة فى هذا النوع من التعليم لمشاركتها بين جميع الدول العربية؛ لأن صناعة مستقبل عربى زاهر لن يتمَّ إلا عبر بوابة التعليم والثقافة والعلوم، وفى القلب من ذلك تربية النشء العربى على القيم الدينية والأخلاق والمبادئ الإنسانية التى يحترمها الجميع.