إنها مصر

أم كلثوم و»ثقافة الكهوف» !

كرم جبر
كرم جبر

مصر فى أمس الحاجة لأن تنفض التراب عن الذهب، وأن تستعيد ثقافتها وحضارتها وفنونها وآدابها، وأن تحمى شعبها بسياج آمن من الوعى واليقظة، ووقف محاولات تجريف قوتها الناعمة، أو استبدالها ببذور صحراوية لا تنبت فى الأرض المصرية.
مصر لا تنفع معها ثقافة الكهوف والخيام، ولا إهانة المثقفين لصالح المتطرفين، ولا إجهاض رواد الإبداع، وإنما إضاءة مشاعل التنوير، والانفتاح على كل الثقافات والحضارات، والابتعاد عن التعصب وضيق الافق.
ثقافة مصر التى خاف المصريون عليها من الإخوان، هى عصارة وعى أدبائها العظام، ورصيد الفنون المصرية الأصيلة، عبدالوهاب وعبدالحليم والسنباطى وعبدالمطلب ومحمد قنديل، وطابور طويل من المثقفين والأدباء والشعراء وعظماء الفكر الذين يتجاوز عددهم عناصر الإخوان وتنظيماتهم المتطرفة.
المثقفون المصريون هم عصب القوة الحريرية المصرية، وحسب تعريف «جوزيف باى» نائب وزير الدفاع فى عهد كلينتون ومخترع نظرية القوة الناعمة «أصحاب الجذب والإعجاب والضم، دون اللجوء إلى القوة كوسيلة للإقناع، وأصحاب القوة المعنوية الروحية القادرين على التفاعل والتأثير».
الحضارة والثقافة والفنون والآداب عناوين للقوة الناعمة المصرية، وهى مزيج من عظمة الفراعنة وعناق المسيحية والإسلام على ضفاف النيل، تحت ظلال التسامح والمودة والتلاحم والانسجام المجتمعى، بينما قوة التطرف الخشنة التى استعرضها الإخوان فى عام حكمهم كانت خلطة شيطانية مشتقة من عقائد متشددة وأفكار ظلامية.
أم كلثوم نموذج للإبداع فقد كانت شعلة متقدة، تغذى الضمير الوطنى بالدفء والحماس، وما زالت أصداء صوتها تستصرخ فينا حلم العودة إلى الأمجاد، فهى التى غنت بعد قيام ثورة يوليو «مصر التى فى خاطرى وفى فمى، أحبها من كل روحى ودمى»، وحين تعرض عبدالناصر لمحاولة اغتياله من قبل جماعة الإخوان فى ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، سارعت بغناء «يا جمال يا مثال الوطنية.. أجمل أعيادنا المصرية.. بنجاتك يوم المنشية».
أم كلثوم كانت متحدثاً فوق العادة للمناسبات الوطنية، وغنت للسد العالى «كان حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالاً»، وغنت لوحدة مصر وسوريا 1958، ثم غنت للاتحاد الثلاثى الذى ضم مصر وسوريا واليمن، ومنحها جمال عبدالناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، ومن قبله منحها الملك فاروق «قلادة النيل العظمى» الذى يجعل لقبها «صاحبة العصمة»، وهو لقب تحصل عليه الأميرات.
ظن الإخوان و«حراس التطرف» أن بمقدورهم تغيير القوة الناعمة المصرية واستبدالها بقوة خشنة، فواجهوا حائط صد قوياً من «حماة الوعى» والمدافعين عن الحضارة والثقافة والفنون والمبادئ والأفكار والأخلاق وغيرها أدوات الردع المعنوى، وتحولت البلاد إلى سجادة نار تحت أقدام الذين حاولوا طمس الهوية الوطنية أو تذويبها، وانهزمت ثقافة الكهوف.
ارتفع علم مصر كنموذج للوعى فوق راياتهم السوداء، ورسمه المصريون بألوانه الأحمر والأبيض والأسود على وجوههم وزينوا به ملابسهم واحتضنوه فى قلوبهم، بينما قوبلت راياتهم السوداء بمشاعر الكراهية والاستنكار والاستهجان.