حديث الأسبوع

إنه الإلهاء مع سبق الإصرار والترصد

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

تطرح بعض التقارير الدولية أسئلة حارقة حول مصداقيتها والخلفيات التى أقنعت الجهات التى أعدتها بإنجازها، والظروف والتوقيت اللذين خرجت فيهما إلى حيّز الوجود، والأكيد أن هذه التقارير لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة، ولا هى لقيطة جاءت من العدم، بل الأكيد أن دواعى ومبررات كانت سببا فى ولادتها، وأهدافا تبرر بذل ما تطلبته من جهود مادية وفنية وفكرية. وهكذا، مثلا، فإن التقرير الذى نشرته مجلة العلوم الطبية البريطانية ( لانست) خلال الأسبوع الثالث من الشهر الجاري، والذى أعدته لجنة من الخبراء ترأسها الدكتور «فرانسيسكو برانكا» رئيس وحدة التغذية للصحة والتنمية التابعة لمنظمة الصحة العالمية، حول أوضاع التغذية فى العالم خلف ركاما هائلا من الأسئلة حول المضامين التى اكتظت به، والفئة المستهدفة منه، وحول طبيعة الأهداف التى توخيت منه. فهو يبدو موجها إلى فئة معينة ومحددة من سكان العالم دون سواهم من بنى البشر، وقد يعنى شريحة من الذين تلائمهم مضامين هذا التقرير، فى حين أن مئات الملايين من الأشخاص، الذين شاءت الأقدار أن يعيشوا فى مناطق معينة من الكرة الأرضية دون أن يكون لهم قرار فى ذلك غير مشمولين باهتمامات معدى هذه الوثيقة الجديدة.
فالتقرير يعالج قضية سوء التغذية فى العالم من زاوية جد محدودة، ويجعل منها إشكالية عميقة دون أن يضعها فى سياق الإشكالية الأم، التى تتعلق بقضية الغذاء فى العالم وفى صلبها آفة المجاعة، إنه ينظرإلى أوضاع الأشخاص الذين يواجهون إشكالية سوء التغذية فى إطار توفر العرض الغذائي بما يعنى أن الإشكالية فى نظر معدى التقرير تنحصر فى سوء تدبير هذا العرض، بيد أن الأمر يتعلق فى حقيقته وفى عمقه بانعدام التوازن فى العرض الغذائي، وبذلك فإن الإشكال الحقيقى لا ينحصر فى تدبير العرض الغذائى مع توفره، ولكنه يكمن أساسا فى تحقيق العدالة الغذائية بين جميع سكان المعمور، إذ من غير المقبول أن تواجه مجموعة من سكان الكرة الأرضية مشكل التصرف فى عرض غذائى متاح ومتوفر، بيد أن مئات الملايين من سكان آخرين يواجهون نقصا كبيرا وفظيعا فى هذا العرض إلى حد المجاعة.
و هكذا، فإن التقرير يشير إلى أن 2،3 مليار من الأطفال والبالغين فى العالم يعانون من زيادة الوزن، وأن أكثر من 150 مليون طفل عالميا يعانون من صغر الحجم بسبب انعدام التوازن فى استهلاك الغذاء، ويبحر التقرير فى ما سماه ب «العبء المضاعف لسوء التغذية»، وفى التأكيد على أن ثلث الدول الفقيرة وذات الدخل المعتدل معنية بشكل من الأشكال بسوء التغذية، وهذه الدول توجد أساسا فى قارة آسيا وجنوب شرق إفريقيا وفى إفريقيا جنوب الصحراء، وفى القول بأن سوء التغذية يكلف 8 بالمائة من الناتج الإجمالى الخام وأن السمنة تتسبب بدورها فى هدر 3بالمائة من هذا الناتج. والأدهى أن التقرير يقترح تدابير وتوصيات لمواجهة قضية سوء التغذية لا تهم عمق الإشكالية، من ذلك إتباع أنظمة غذائية عالية الجودة، وتشمل هذه الأنظمة عناصر من قبيل اعتماد أفضل الممارسات فى الرضاعة الطبيعية فى العامين الأولين بعد الولادة باعتبار أنها أهم مراحل نمو أعضاء الجسم وتكون حاسة الذوق، وتحسين العرض الغذائى من خلال مراقبة السلطات العمومية لهذا العرض ويقترح معدو التقرير مثلا، تضريب المشروبات السكرية لخفض مستويات استهلاكها، وتشديد المراقبة على المنتوجات الاستهلاكية المصنعة وتتبع العرض الغذائى فى المدارس وفى المطاعم المدرسية، وتعبئة الإشهار، والتشجيع على تجنب استهلاك اللحوم الحمراء واللحوم المصنعة والمشروبات السكرية والمنتوجات ذات الدهون، والإقبال على تناول الفواكه والخضراوات الطازجة والحبوب والبذور.
والواضح أن التقرير الدولى الطبى الجديد يحصر انشغالاته الرئيسية فى بعض مناطق العالم، حيث تواجه مجتمعاتها إشكاليات فى مجال التغذية والإطعام وتتعلق بتردى العرض الغذائي، وفى سوء استعمال هذا العرض مما يخلف تداعيات سلبية على الأوضاع الصحية للسكان هناك، ومرد هذه الإشكاليات إلى جشع كثير من شركات الإنتاج، التى تبدع فى استقطاب الزبائن على حساب الجودة فى المنتوجات الاستهلاكية، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للأسواق التجارية الكبرى، التى تعرض منتوجات فى أشكال مذهلة ومغرية دون مراعاة الجودة الصحية، بيد أن التقرير يسقط من حسابات المنظمة الصحية الدولية أوضاع التغذية فى الدول الفقيرة والمتخلفة، التى لن تكون معنية بمضامين التقرير وبتوصياته التى لا تتلاءم نهائيا مع ما هو سائد ومعاش هناك. من ذلك أن 821 مليون شخص فى العالم (شخص واحد من كل تسعة أشخاص من سكان العالم ) يعانون من آفة المجاعة، والأولوية بالنسبة إلى هذه الحشود الهائلة من سكان الكون هو توفير الحد الأدنى من الغذاء بغض النظر عن جودته، والأدهى من ذلك أن تقريرا أمميا آخر يشير إلى أن الجوع آخذ فى الارتفاع على مدى السنوات الثلاث الماضية، وأن وتيرته عادت إلى المستويات التى كان عليها منذ عقد كامل حيث كان يسود الإعتقاد بأن الجهود الدولية كفيلة بردع توجهها نحو الارتفاع، وتم تسويق شعارات كبيرة وضخمة لإقناع الرأى العام الدولى وطمأنته. وها هم رؤساء منظمات دولية وأممية متخصصة من قبيل رئيس منظمة الأغذية، والزراعة للأمم المتحدة ورئيس الصندوق الدولى للتنمية الزراعية ورئيس برنامج الأغذية العالمي، ورئيس صندوق الأمم المتحدة للطفولة ورئيس منظمة الصحة العالمية، فى مقدمة المشتركين لصياغة تقرير أممى آخر صدر سابقا، يؤكدون فيه « أن العلامات المثيرة للقلق المتمثّلة فى زيادة انعدام الأمن الغذائى وتسجيل مستويات مرتفعة لأشكال مختلفة من سوء التغذية، تشكل رسالة تحذير واضحة بأن هناك الكثير من العمل الذى ينبغى القيام به للتأكد من أننا لن نترك أحدا متخلفا عن الركب فى سعينا، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالأمن الغذائى وتحسين التغذية «.
مهم أن نذكر فى هذا الصدد أن المجتمع الدولى كان قد حدد سنة 2030 كموعد للقضاء نهائيا على آفة الفقر وسوء التغذية فى العالم، أو هكذا تم الترويج لهذه الأهداف، والأكيد أن ميزانيات ضخمة صرفت فى هذا الشأن، ولكن الواضح والأكيد الآن أن معدل الفقر والمجاعة وسوء التغذية لا يزال يتجه نحو الارتفاع، بما يؤكد أن هذه المظاهر المخلة بتحقيق العدالــــة الاجتماعية فى العالم ستستمر فـــى الوجود إلى مابعد الثلاثين من القرن الحالي، لذلك قـــد يكون معـــدو التقرير الجديد لم يجـــدوا مايلوكون به ألسنتهم فى الظروف الحالية، غير تحويل انشغال واهتمام الرأى العام للحديث عن سوء تدبير العرض الغذائى العالمي، الذى يوحى بأنه متوفر بإنصاف بين جميع سكان المعمورة، وأن الخلل فى الإنسان الذى لا يحسن تدبير الاستهلاك.إنه الإلهاء الذى يبرر صرف ميزانيات مالية جديدة لملء جيوب المحظوظين.
< نقيب الصحافيين المغاربة