بالشمع الأحمر

جريمة فى القطار

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

غالبا كان هناك عديدون يعبثون بهواتفهم المحمولة داخل العربة المكيفة. انشغل معظمهم بممارسة طقوسهم المعتادة على مواقع التواصل، وتجاهلوا الشجار الدائر بالقرب منهم. وبعد النهاية المأساوية تحوّل كل منهم إلى وكالة أنباء متجولة، ليتباهوا بوجودهم فى بؤرة الحدث الساخن. ويبدأ بعضهم فى إطلاق شحنات من الصخب، ويتناسى الجميع أنهم مشاركون بسلبيتهم، التى سرعان ما تتحول إلى طاقة إيجابية على الإنترنت. دون أن يُلقى أحدهم باللوم على نفسه لأن صمته ساهم فى جعل النهاية كارثية.
تسلّل الشابان إلى عربة الدرجة الأولى فى القطار المتجه من الإسكندرية إلى الأقصر. محاولة تزويغ عادية من دفع ثمن التذكرة، يُكررها العشرات يوميا، وعادة ما تنتهى بدفع الغرامة. فى يونيو الماضى تم الإعلان عن تحصيل ألفى غرامة فورية فى أسبوعين فقط من المتهربين. من يرفض الدفع يتعرض للطرد من القطار، بعد أن يتلقى بعض التوبيخ من المُحصّل، غير أن الأمور نادرا ما تتطور إلى تحرير محضر. لكن النهاية هذه المرة اصطبغت بنكهة المأساة، فقفز الشابان من القطار خلال سيره، ليلقى أحدهم حتفه ويُصاب الآخر.
لا نملك حتى الآن القدرة على الحسم، فلا حقيقة حاسمة، هناك من أكد أن «الكمسارى» منح الشابين خيارين لا ثالث لهما: التسليم للشرطة أو القفز من القطار! بينما دافع الرجل عن نفسه، وقال إنه لم يطلب منهما القفز، بل حاول منعهما عندما فتحا الباب وفاجآه بفعلتهما، ليسقطا فى محطة صغيرة تبعد قليلا عن طنطا. كلتا القصتين تُفرز أسئلة سوف تجيب تحقيقات النيابة عنها. فلو أن رواية المحصل صحيحة يُصبح فتح الباب أمرا غريبا، لأنه أمر غير ممكن فى القطارات الفاخرة، التى لا تستسلم أبوابها إلا لمشرفين يمتلكون مفاتيحها.
لو اتضحت صحة هذه القصة، سنكتشف أننا لم نتمكن من «صرف» شبح الإهمال الذى يقصف أعمار الكثيرين منا يوميا، وهو ما يشير إلى الفجوة بين التصريحات الوردية والواقع المؤلم. غير أن القصة المضادة تُصبح أشد وطأة فى حالة ثبوتها، بدلالاتها التى تؤكد أن غالبيتنا مصابون بخلل مُزمن، ينهشنا من الداخل دون أن نشعر. لأنها تشير إلى أن بعضنا يمكن أن يستغل سلطته على بساطتها بشكل دموى. وفق هذه الرواية يكون «الكمسارى» قد وجدها فرصة لممارسة اللعب بالمصائر، لكن الأخطر أن ذلك حدث بمساعدة ضمنية من رُكّاب حبسوا أنفاسهم فى انتظار نتيجة المباراة! التى تشبه مصارعة رومانية قديمة، لابد أن تنتهى بالموت، فيهتف الجمهور لمن يذبح منافسه!
هنا تطرح الأسئلة نفسها: ما الذى يُجبر شخصا على التضحية بحياته كى يتجنب القبض عليه؟ وما هى العقوبة المُتوقعة التى تدفعه للمغامرة بنعمة الحياة؟ طرْح «الكمسارى» خيار القفز يعنى أنه ارتضى عدم تسليم الشابين للشرطة، فلماذا لم يصبر عليهما ليغادرا فى المحطة التالية؟ ما أسباب سلبية الركّاب؟ القول بأن بعضهم حاول دون نتيجة غير مُقنع، فلن يستطيع المحصل أن يصمد فى وجه من يرفضون التحريض على الانتحار، خاصة أن الانتصار محسوم له فى النهاية، عندما تتولى الشرطة استعادة حق الدولة.
لا يمكن التعامل مع هذه الحادثة خارج سياق تحوّلاتنا المؤلمة، فهى تنضم إلى حوادث أخرى، اعتدنا أن نطلق بعدها صيحات عويل نُفرغ فيها انفعالاتنا. كلها ممارسات تزيد حدة تشوهاتنا الداخلية، وتظهر أحيانا فى شكل صديد إجرامى نسارع إلى التنديد به، لكن الأخطر هو ما يظل بداخلنا من تقيّحات تهددنا بـ»غرغرينة» مميتة. وقتها حتى «البتر» لن يكون مفيدا فى إنقاذ حياتنا!