من دفتر الأحوال

مرضى الأوهام

جمال فهمى
جمال فهمى

العنوان المشعلق أعلى هذه السطور ليس من صنع العبد لله، لكنه مشتق من عنوان مسرحية طبقت مشهورة أبدعها رائد المسرح الفرنسى «موليير» (اسمه الحقيقى جان باتيست بوكلان 1622 ـ 1673)، وكل ما فعلته أننى أدخلت عليه تعديلا طفيفا جعل»مريض الوهم»بطل المسرحية الهزلية زائعة الصيت، ليس مريضا واحدا بل «مرضى»كُثر.
فأما سبب اهتمامى بهؤلاء المرضى فسوف أدخره لحضرتك حتى تنتهى من قراءة ملخص تلك الحكاية «المولييرية»الشهيرة جدا التى تتكشف خيوط حبكتها كلها فى الفصل الأول حيث يتعرف القراء أو المشاهدون على أبطالها جميعا وأهمهم رب العائلة الثرى «أرجان»الذى يعيش وهم أنه مريض ومصاب بداء قاتل لاشفاء منه حسب ما أبلغه الأطباء، لذلك يسعى لكتابة وصيته وتعيين من يحق له الفوز بنصيب من ثروته بعد وفاته، وما أن يشيع نبأ هذه الوصية حتى تهب على الرجل عاصفة هوجاء يختلط فيها الغدر والطمع بالإخلاص والحزن، وفى هذه الأجواء يقرر «أرجان»أن يسارع قبل أن يحل أجله المحتوم، بتزويج ابنته «آنجليك»من «توماس»ابن الطبيب الذى يعالجه ويمتهن الطب مثل أبيه.. وفى البداية تظن الابنة أن العريس الذى أختاره أبوها لها هو نفسه حبيبها «كليانت»، فترحب بسعادة لكنها سرعان ما تكتشف الحقيقة فتحزن وتعترض ويرد الأب مهددا إياها بالحرمان من الميراث أن لم تقبل العريس الذى اختاره لها.
عند هذا الموضع تبدأ سلسلة طويلة جدا من المفارقات والأحداث المتشابكة التى برع «موليير»فى تصميمها، ويبرز فى هذا الخضم المؤامرة التى حاكتها «بيلين»زوجة «أرجان»الثانية لكى تستغل لمصلحتها غضب هذا الأخير من ابنته، وتدبر أحضار كاتب العدل لزوجها حتى يملى عليه وصية جديدة تتضمن حرمان آنجليك من مال والدها، غير أن خادمة الأسرة المخلصة تكتشف أن كاتب العدل هذا ليس إلا العشيق السرى لزوجة الأب، ومن ثم تبادر بصنع مؤامرة مضادة تؤدى إلى فضح الأشرار جميعا، فيعرف «أرجان»حقيقة أنه ليس مريضا بل يتمتع بكامل عافيته، وكل مافى الأمر أنه وقع ضحية أطباء مبتزين ونصابين ضحكوا عليه وزرعوا وهم المرض فى رأسه، كما يكتشف خيانة زوجته وطمعها فى ثروته، ولكن (وعلى عادة موليير) تعم السعادة فى النهاية على جميع «أخيار المسرحية»، إذ يشفى الأب من أوهامه ويوافق على أن تتزوج ابنته من حبيبها الطيب..
وقبل أن أنتقل من رحاب هذه المسرحية وأهديك سبب استدعائها، لابد أن أحكى لك حكاية لاتخلو من طرافة كانت غالبا دافع «موليير»لكتابتها قبل شهور قليلة من وفاته.. الحكاية باختصار، أن مبدع فرنسا العظيم كان مشهورا بكراهية الأطباء عموما وقد زاد وتفاقم حنقه عليهم بعدما توفيت «مادلين بيجار»أقرب وأخلص صديقاته، إذ ظل مقتنعا أن السبب الوحيد لموتها هو جشع ونصب أطبائها، وقد نُقل عنه أنه توعد أصحاب هذه المهنة بفضيحة تبهدلهم بهدلة تاريخية لاتمحى.. وهذا هو ما فعله بالضبط عندما أبدع نص «مريض الوهم»!!
فأما سر أننى تذكرت تلك المسرحية بالذات الآن، فهو أننا نعيش حاليا حالة انحشار قاسية بين قطعان من المرضى بالأوهام لعل أشدهم خطرا تلك العصابات الإرهابية الذين أخذهم الجنان الرسمى بعيدا فى فضاء الأوهام إلى درجة الظن بأنهم ممكن بالإجرام والتقتيل والتخريب أن يهزموا هذا الوطن دولة ومجتمعا وشعبا.