من دفتر الأحوال

من بطن الماضى، للحاضر

جمال فهمى
جمال فهمى

هناك انطباع شائع عن المتخلفين الساعين للتأخر خلاصته أن هؤلاء هم فقط الذين يسكن فى أدمغتهم الفارغة فردوس من الزمن الغابر، ويداعب رؤوسهم ذلك الوهم اللذيذ الذى يزين لهم أن بمقدورهم إعادة إنتاج الماضى، أو الهجرة إلى العصور والأزمان الغابرة والإقامة الدائمة فيها.. كما أننا نرى ونسمع مفهوما عكسيا للتقدم يتوهم أصحابه أن طريق النهوض وبناء المستقبل الأفضل يبدأ من خرافة القطع التام والفورى مع التاريخ المنقضى وإهماله تماما واعتباره كأن لم يكن.
غير أن هذا الانطباع وذاك المفهوم كلاهما خاطئ والاثنان يصبان فى مستنقع التخلف، إذ أن الحقيقة الغائبة عن الكثيرين أن التاريخ حلقات زمنية متصلة تفضى كل منها للأخرى وتتشابك معها.. ومع ذلك تتمركز هنا حتميتان أو استحالتان لايمكن مراوغتهما ولا التملص من تحكمهما المطلق فى حيواتنا، الأولى أن الزمن المنتهى لايعود أبدا، والثانية أن آثار كل عصر غابر تبقى ممتدة وحاضرة فى الزمن اللاحق، لهذا فإن كل شىء حديث ومستحدث لابد أن يكون له أصل وجذر فى الماضى، آية ذلك أن كل منجزات التقدم وتطبيقات العلوم الثورية (التكنولوجيا) لم تهبط على رؤوس البشر فجأة كده يوم اختراعها وفى صورتها الراهنة المعروفة وإنما هى نتاج مسيرة طويلة ومضنية بدأت تبشيرا من أصحاب عقول نيرة ومخيلات خصبة ورحبة، ثم عبرت على محاولات وإخفاقات لا أول لها ولا آخر، وأخيرا تحولت الخيالات إلى حقائق مادية وصارت البشارات إنجازات نتمتع بها فعلا الآن ولا نستطيع أن نتصور الحياة من دون وجودها.
يعنى مثلا، نحن الآن نطوى المسافات على سطح هذا الكوكب طيا (بل ونمخر عباب فضاءات الدنيا المترامية خارجه) على متن آلات تطير بسرعات بعضها أضعاف سرعة الصوت، لكننا أغلب الوقت لانتذكر جدنا العالم العربى الأندلسى عباس بن فرناس (أبوالقاسم عباس بن فرناس التاكرانى 810 ـ 887) فهذا الرجل النابه الذى غطت بحوثه وتأملاته واجتهاداته مساحة واسعة من العلوم العقلية والطبيعية فلك ورياضيات والكيمياء وفيزياء وكتابات فى الفلسفة أيضا، هوصاحب أول محاولة جادة فى التاريخ (سبقتها محاولات أقل علمية وأكثر خيالا) لقهر الجاذبية الأرضية والتحليق بعيدا فى الهواء.. هذه التجربة نجحت جزئيا إذ تمكن ابن فرناس من الطيران بجناحين صممهما وصنعهما بنفسه مسافة بضعة أمتار قبل أن يسقط ويفقد حياته فاتحا ـ بجسارته ونباهته ـ الطريق أمام البشرية لكى تبنى بعد ذلك فوق افتراضاته الصحيحة وتتجنب أسباب إخفاق تجربته الرائدة.
وقبل سنوات قليلة وفى سياق احتفال فرنسا بمرور 80 عاما على تأسيس الأوكسترا السيمفونى الوطنى، نظم متحف اللوفر بباريس عرضا نادرا، أو بالأحرى غير مسبوق حيث جرى العزف أمام المئات من الناس على آلات موسيقية يراوح عمرها ما بين 4500 وعشرة آلاف عام وكلها مصنوعة من الحجر!!
هذه الآلات التى أخٌرجت لأول وآخر مرة من أماكن حفظها فى المتحف العتيد (كما قال مديره إريك جونتييه) والتى يبلغ عددها 23 قطعة اكتشفها عسكريون فرنسيون أثناء غزواتهم الاستعمارية لأقاليم وبلدان فى قارة أفريقيا خصوصا فى المناطق المتاخمة لجنوب السودان والنيجر وساحل العاج.. هذه الآلات الموسيقية البدائية العائدة إلى عهود سحيقة، خضعت لدراسات وأبحاث عديدة انتهت إلى أن الإنسان اكتشف الثراء الجمالى والتعبيرى للموسيقى وعرف أثرها الروحى الرائع وغير المحدود ومن ثم اخترع الآلات التى تصنعها وتصدح بها، مبكرا جدا وقبل أن تبدأ مسيرة التاريخ المكتوب للحضارة والتقدم.
صباح الخير..