وزير الأوقاف يكتب: «في رحاب سورة مريم عليها السلام»

وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة

نشر وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة، اليوم الأربعاء ٤ يوليو، مقالا هامًا على موقعه وصفحته تحت عنوان: «في رحاب سورة مريم عليها السلام (1- 2)».

وجاء نص المقال كالتالي:


«السيدة مريم عليها السلام هي المرأة الوحيدة التي ذكرت باسمها صريحًا في القرآن الكريم، فقد ورد اسمها صريحًا في أكثر من ثلاثين مرة، وزيادة في إكرامها وبيان فضلها، اختصها القرآن الكريم بسورة خاصة باسمها هي سورة مريم، وقد افتتحت السورة بالحديث عن سيدنا زكريا عليه السلام.

 

وعندما ننظر في العلاقة بين قصة سيدنا زكريا وقصة السيدة مريم (عليهما السلام) نجد أن الصلة وثيقة، فقد كانت السيدة مريم (عليها السلام) في كفالة ورعاية سيدنا زكريا (عليه السلام)، حيث يقول الحق سبحانه: "وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"، يقول المفسرون وأهل العلم: كان زكريا (عليه السلام) يدخل عليها فيجد عندها الرزق في غير أوانه، فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وهو ما كان يدعوه (عليه السلام) إلى السؤال "أَنَّى لَكِ هَـذَا"، فتجيبه (عليها السلام) في صراحة ووضوح تامَّين "هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"، وهو ما دعا سيدنا زكريا (عليه السلام) أن يلجأ إلى الله (عز وجل) بالدعاء الخفي أن يرزقه الولد، واستجاب له ربه "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًا".

 

ولم يقف الأمر عند حدود البشرى، بل تجاوزها إلى الاسم الذي لم يُسم به أحد من قبل، أو لم يكن له شبيه من أهل زمانه في الحكمة والفضل، فقد آتاه الله الحكم صبيًّا وجعله برًّا بوالديه، ولم يجعله جبارًا عصيًّا، وعندما استفهم سيدنا زكريا (عليه السلام): "أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا"، كان الجواب الإلهي: "قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً".

 

 وليس ذلك ببعيد عن حال مريم (عليها السلام) التي بشرها الروح القدس جبريل (عليه السلام) بالولد، "قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا" فقالت في دهشة واستغراب لا يَقَّلاِنِ بل يزيدان عن دهشة وتعجب زكريا (عليه السلام): "أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا "، وهنا كان الجواب عين الجواب الذي أجيب به زكريا (عليه السلام): "قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ"، غير أن العبرة هنا أشد لمن يعتبر "وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً"، فإذا كان رزق الله للإنسان الولد على تقدم سنه ووهن عظمه وكون امرأته عقيمًا أمرًا عجيبًا في دنيا الناس ومقاييسهم البشرية، فإنه ليس أعجب من خلق الولد بلا أب أصلا، على أن الجمع بين القصتين هنا يحمل لنا معاني وقف عندها بعض أهل العلم فقالوا: "إن الله (عز وجل) يبين لنا جانبًا من دلائل وعظمة قدرته ، فقد خلق آدم (عليه السلام) بلا أب ولا أم، وخلق حواء بلا أم، وخلق عيسى (عليه السلام) بلا أب، وخلق سائر البشر من أب وأم، ورزق بعضهم الولد بعد اليأس منه، وكأنه سبحانه يعلمنا ويذكرنا بقدرته على الخلق بأسباب وبلا أسباب "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"، و"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ".

 

وكما تحدثت السورة الكريمة عن سيدنا يحيى بن زكريا (عليهما السلام) فوصفته بكونه برًّا بوالديه ، وليس بجبار ولا عصي ، فقال سبحانه : ” وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ” نجد المعاني نفسها تسبغ على نبي الله عيسى بن مريم (عليهما السلام ) حيث يقول الحق سبحانه وتعالى على لسانه (عليه السلام) : ” وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ” فالمنبع واحد ، والمشرب واحد ، وصدق نبينا (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول : “الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد “.

 

وبعد الحديث عن قصة سيدنا زكريا وسيدنا يحيى (عليهما السلام)، وعن قصة السيدة مريم وسيدنا عيسى (عليهما السلام) , تحدثت السورة الكريمة عن قصة سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل (عليهما السلام)، وهناك أكثر من رابط، فإذا كانت السورة الكريمة قد تحدثت عن رزق الله الولد لسيدنا زكريا (عليه السلام) مع كون امرأته عاقرًا وقد بلغ من الكبر عتيا، ورزق مريم (عليها السلام) الولد بلا أب كآية وعلامة من دلائل قدرته سبحانه وتعالى، فإن الحق سبحانه وتعالى قد حدثنا عن قصة إبراهيم (عليه السلام)، وقد رزقه الله الولد على تقدم سنه أيضًا، فعندما صم قومه آذانهم عن الاستجابة لدعوته , وأرادوا به كيدًا لم يجد بدًا من اعتزالهم وما يعبدون من دون الله , يقول الحق سبحانه : ” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا” (مريم : 49) , وكان ذلك على تقدم سنه وسن زوجه على نحو ما قص علينا القرآن الكريم من شأنه عليه (عليه السلام) وشأن امرأته عندما جاءتهما البشرى بالولد , حيث يقول الحق سبحانه : “وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ” (هود : 71-73) .

 

 وقد نقلت لنا السورة الكريمة الحوار الذي دار بين إبراهيم (عليه السلام) وأبيه , حيث يقول الحق سبحانه : ” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا” (مريم : 41-42) , وفي التعبير بنفي السمع والبصر أكبر دلالة على عجز تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها , فإذا كانت لا تسمع أصلا ولا تبصر أصلا فمن المستحيل أن تنفع أو تضر أو تغني عن من يعبدونها شيئًا .


وفي أدب جم يقول إبراهيم (عليه السلام) لأبيه: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا” (مريم : 43) فلم ينسب حصول العلم له إلى نفسه , ولم يسم أباه بالجهل أو عدم العلم , إنما اعتبر أن هذا العلم منحة من الله تعالى له , وأن ذلك لا ينتقص من قدر أبيه , لذا فهو ينبه والده ويحذره من عبادة الشيطان أو اتباعه لما لذلك من سوء العاقبة وتعرضه لغضب الرحمن (عز وجل) قائلاً: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (مريم : 44) فهو يتحدث معه بدافع الخوف عليه وطلب الرحمة له.

 

واستمر الأب في عناده وجحوده:  قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا” (مريم : 46) , غير أن إبراهيم (عليه السلام) لم يواجه هذا التهديد إلا بالأدب الجم وحفظ حق الأبوة، "قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا” (مريم : 47)، وظل عليه السلام على وعده حتى جاءه النهي عن الاستغفار لمشرك فوقف عند حد الله وأمره، حيث يقول الحق سبحانه: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ" (التوبة : 114) .

 

ولم يجد إبراهيم مع عناد قومه وإصرارهم على الكفر والجحود وعبادة الأوثان والكيد له بدًا من اعتزالهم وما يعبدون من دون الله , فتركهم إيثارًا لدعوته , فكان الفضل والعوض له (عليه السلام) عظيمًا, إذ عوضه الله خيرًا منهم بالولد الصالح : ” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا” (مريم : 49) , فمن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه , وأي عوض هذا ؟ إنه الذرية الصالحة ” وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا” , فقد بُشر (عليه السلام) بالولد وولد الولد ورُزق بهما , وإلى جانب البشرى بإسحاق ويعقوب كانت المنة أيضًا بالولد الصالح نبي الله إسماعيل (عليه السلام) الذي وصفه القرآن الكريم بصدق الوعد والنبوة والرسالة , فكان نعم الولد لأبيه , حيث يقول الحق سبحانه: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا” (مريم : 54-55) , ويصور القرآن الكريم مدى طاعته لأبيه وبره به فيقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم (عليه السلام) : ” يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات : 102)، فأي عوض وأي بر أعظم من هذا العوض وهذا البر؟!».