طائرة هليكوبتر تنقله إلي مستشفي المعادي بعد إصابته بجروح بالغة.. والمفاجأة كانت في انتظار والده

مصطفى بكري يكتب ..‎الوصية »٢/٢« قصة استشهاد الجندي محمد المعتز رشاد

الكاتب الصحفى مصطفى بكري
الكاتب الصحفى مصطفى بكري
ماذا كتب محمد المعتز في يومياته ولمــــاذا طـلـــــــــب الصفـــــح مــن والــــــــده؟
كيـف كـان رد فـعــل والــده ومــــــاذا قالــت خطيبتــــــه؟!

قبل أن تقرأ هذه قصة واقعية، بطلها هوالجندي «محمد»‬ نجل العميد الدكتور المعتز رشاد، جرت أحداثها في منطقة رفح بشمال سيناء في العام 2015، ونقلت الشئون المعنوية للقوات المسلحة بعضًا من صفحاتها المشرقة في حضور السيد رئيس الجمهورية خلال أعمال الندوة التثقيفية الخامسة والعشرين التي نظمتها القوات المسلحة في الثالث والعشرين من مارس لعام 2017..

لقد شاهدت والد الشهيد يتقدم بثبات وشموخ نحوالمنصة ليحصل علي وسام التكريم المقدم من رئيس الجمهورية -القائد الأعلي للقوات المسلحة- في حضور القائد العام ووزير الداخلية، تخليدًا لاسم »‬نجله» الذي ضحي بأغلي ما يملك من أجل الوطن وعزته واستقراره.


يومها عقدت العزم علي أن أكتب القصة بتفاصيلها، التقيت والده في منزله، واستمعت إلي تفاصيل ما جري من خلال زميله الجندي »‬صلاح» الذي حمل إلي والده »‬الوصية»، وهوالاسم الذي اطلقته الشئون المعنوية لتجسد من خلاله اللحظات الأخيرة في حياة الشهيد، حتي تكون مسيرته نبراسًا لأبناء الوطن وأجياله المختلفة.


في صباح اليوم التالي، الثلاثاء 8 ديسمبر 201٥، كان الجندي المقاتل »‬محمد المعتز رشاد» قد استعد للمشاركة في عمليات المداهمة لأوكار الإرهابيين، كان الجوباردًا في هذا اليوم، كان محمد يبدومتلهفًا للمشاركة، كان طاقم الدبابة المدرعة بقيادة الملازم أول محمد أشرف، ومعه أفراد آلية مسلحون، وفرد رامِ علي البرج، وفرد متعدد بالإضافة إلي السائق.


كان الملازم أول محمد أشرف قد تم استدعاؤه إلي مكتب العقيد (أحمد) الذي سيتولي قيادة العملية، وقف صلاح يتابع الأمر عند بوابة الكتيبة، فقد كان واحدًا ممن سيرافقون الملازم أول محمد أشرف بينما ذهب الجندي »‬محمد المعتز» ليأخذ مكانه بداخل المدرعة، عندما تقدم الضابط محمد أشرف باتجاه المدرعة التي ستتقدم الركب سأل: هل أصبحتم جاهزين الآن؟، رد عليه الجندي صلاح قائلًا: كله تمام يا أفندم، ثمانية جنود علي وضع الاستعداد، نظر إليه الضابط وقال: التعليمات، سيكون هنا ثلاثة من سلاح المهندسين، ولذلك يجب الاكتفاء باثنين آلية فقط.


قال له صلاح: إذن أكون أنا ومحمد المعتز معك.


رد الضابط علي صلاح بالقول: لا أركب أنت مع دبابة العقيد (أحمد)، لنعطي الفرصة للمهندسين.
تحركت الدبابة المدرعة بقيادة الملازم أول محمد أشرف، وكان بداخلها ثمانية أفراد، كان صلاح ينتظر العقيد أحمد عند البوابة حتي يتم التحرك للحاق بالدبابة الأولي.. كان يتابع الدبابة وهي تمضي وبداخلها زميله محمد المعتز، وفجأة وعلي بعد 200 متر من بوابة الكتيبة سمع دوي صوت انفجار هائل أحدث هزة في كل مكان، نظر صلاح ناحية الدبابة التي بداخلها محمد فوجدها تتطاير في السماء والنار قد اشتعلت فيها، والذخيرة التي بداخلها تنطلق من كل اتجاه.


لم يستطع أحد الاقتراب من المدرعة التي توالت فيها الانفجارات وظلت النيران مشتعلة فيها لبعض الوقت، كان الكل يتابع ما يجري وقد أخذوا لأنفسهم سواتر حتي لا تصيبهم الشظايا والرصاصات التي انفجرت، والحمم التي خلفتها الألغام التي تسببت في الانفجار. 


بعد قليل وصلت سيارة المطافي التي بدأت تقذف بالمياه من كل اتجاه لتهدئة النيران المشتعلة.
وعندما هدأت النيران قليلًا، وتوقف دوي الذخيرة التي كانت تلقي بشظاياها في كل اتجاه، تقدم صلاح ومعه العديد من الجنود والضباط للبحث عن الجرحي والمصابين وإخراج جثث الشهداء..


كان صلاح يبحث عن محمد كالمجنون، لقد تم إخراج الجثث المتفحمة، ثلاثة من الجنود استشهدوا بعد أن أصيبوا بحروق شديدة أخفت ملامحهم، أما الضابط فقد تم إخراجه من داخل المدرعة والنيران مشتعلة في النصف الأعلي من جسده، لقد استطاع الجنود إطفاء النيران المشتعلة في جسده وكان لا يزال حيًا ويئن.


القي صلاح بسلاحه جانبًا، وظل يبحث عن محمد، إنه لم يعثر عليه حيًا أوشهيدًا بالرغم من استخراج جميع من كانوا فيها شهداء أوجرحي.


بعد قليل سمع صلاح صوتًا يئن يناديه ويقول: يا صلاح.. يا صلاح، ظل يبحث عنه أسفل الدبابة، حتي عثر عليه وساقه أسفل منها، عندما حاول أن يخلع حذاءه، فوجئ أن ساقه بالكاد تمسك في جسده، تم رفع ما تبقي من الدبابة، وأخرج جسد محمد المعتز من أسفلها، كانت سيارة الإسعاف قد وصلت إلي موقع الحادث، تم نقل الضابط محمد أشرف والجندي محمد المعتز وبعض المصابين الآخرين، وعلي الفور توجهت الإسعاف إلي مستشفي رفح والتي كان حولها عدد من الدبابات للحراسة.


ركب صلاح إلي جوار محمد المعتز، أمسك بيده، وكان محمد يردد من خلفه الشهادة، حتي أغمي عليه قبيل أن يصل إلي المستشفي بقليل..


وفي مستشفي رفح أجريت إسعافات أولية للجرحي، وبعد ذلك تم نقلهم بالهليكوبتر إلي مستشفي العريش، وهناك كان الضابط محمد أشرف قد أسلم الروح، بينما تم بتر ساق محمد المعتز، وظلت حالته الصحية في تدهور مستمر.


• • •


كان العميد الدكتور معتز رشاد والد الجندي محمد متواجدًا بمستشفي القوات المسلحة بالمعادي في نفس اليوم، الثلاثاء 8 ديسمبر، إنه يتولي مسئولية رئاسة قسم جراحة العظام أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس من كل أسبوع..


وفي هذا اليوم وصلت طائرة هليكوبتر أقلعت من العريش إلي مستشفي المعادي العسكري، كانت سيارة الإسعاف تنتظر الطائرة التي هبطت أمام المستشفي في المساحة المخصصة لذلك..
تحركت سيارة الإسعاف إلي داخل المستشفي العسكري، وعلي الفور تم نقل الجريح »‬محمد» إلي قسم العظام، كان العميد الدكتور معتز رشاد قد تم إخطاره منذ قليل، بأن يكون علي أهبة الاستعداد لفحص مكان جراحة عظام لأحد الجرحي.


استعد الدكتور المعتز ومعه فريقه الطبي، تم إعداد غرفة الاستقبال سريعًا، تمهيدًا لنقله إلي غرفة العمليات، قدم الفريق الطبي المصاحب للجندي من العريش توصيفًا للحالة، أمسك د.المعتز بالتقرير الطبي الذي سلمه له أحد أعضاء الفريق الطبي، قرأ الدكتور معتز نص التقرير »‬المصاب يعاني من نزيف في المخ وتهتك، وكسور في العظام..».


تقدم د.المعتز نحوالجريح، تراجع للخلف قليلًا بعد أن أصيب بصدمة عنيفة، قرأ الاسم المدون علي التقرير الطبي جندي محمد المعتز رشاد، اعترته حالة من الدوار إنه لا يصدق أن نجله هوالذي يرقد أمامه وأنه علي أبواب الموت. اقترب منه أحد الأطباء، أمسك بالتقرير الطبي، قرأ الاسم، لم يصدق، بدت عليه حالة من الدهشة الشديدة..


تقدم أحد أعضاء الفريق الطبي وقال: احنا آسفين يا دكتور، اللي عند ربنا مش بعيد..


وعلي الفور أمسك د.المعتز بأدواته الطبية واقترب من نجله، والدموع تكاد تنهمر من عينيه، طلب علي الفور نقل أكياس من الدم إلي جسده، بعد أن نزف كثيرًا منذ نقله من المستشفي العسكري بالعريش، بدأ في اتخاذ الإجراءات الطبية العاجلة، طلب من أطباء الأشعة الاستعداد للكشف عن الكسور ونزيف المخ.


بعد قليل وصل أحمد وتسنيم شقيقا محمد، صعدا علي الفور إلي مكتب والدهما، كانا في حالة انهيار شديد، ظلا يطرحان الأسئلة عن حالة شقيقهما، كانت الإجابات كلها تقول: خير إن شاء الله. وأمام غرفة الأشعة وقف محمد وتسنيم ينتظران في قلق، خرج الوالد بعد قليل، اسرعا نحوه، يسألان عن »‬محمد»، وهما في حالة انهيار شديد، لم تكن لدي والدهما إجابة شافية، وبعد إلحاح شديد قال لهما: ربنا يستر.


عاد الدكتور معتز إلي داخل غرفة الأشعة مرة أخري، مضي خلف نجله محمد والممرضات يدفعن بالسرير الذي ينام عليه إلي أحدي غرف العمليات، أمسك أحمد بالسرير، حاولت تسنيم أن تلقي بنفسها علي جسده، أمسك بها والدها في اللحظة الأخيرة، كان محمد غائبًا عن الوعي، وقبيل الدخول إلي غرفة العمليات قام الأطباء بمنع أحمد وتسنيم عن مواصلة متابعتهما لشقيقهما الجريح.


بعد قليل وصلت خطيبته ووالدها ووالدتها، وكانت في حالة انهيار شديد لم تصدق أن حلمها يتبدد أمام عينيها، ظل الوالد ساهرًا يتابع الحالة، بينما الأطباء المتخصصون يتناوبون علاجه، لم تر الأسرة طعم النوم حتي الصباح، ظلوا في حالة من القلق تصل إلي حد الانهيار.


أمسكت خطيبته بالسلسلة الفضية التي كانت ترتديها والتي سبق وأن أهداها محمد إليها منذ فترة، شعرت أنها تكاد تجن، لا تصدق ما تراه أمامها، راحت تمسك بالمصحف الشريف، وتدعوله بالشفاء، كانت تتحدث بكلمات غير مفهومة، إنها لا تتصور لنفسها حياة من بعده، كانت تلح في طرح التساؤلات علي والده، وكان الوالد لا يجد إجابة شافية يمكن أن تهدئ من روعها، كان هوأيضًا يبدو تائهًا، حتي وإن حاول التماسك.


في صباح يوم الجمعة، بدأ محمد يفيق بعض الشيء، أمسك بيد والده الذي كان يجلس إلي جوار سريره، قال له والدموع تكاد تنهمر من عينيه »‬سامحني يا والدي، لقد كذبت عليك وقلت لك أنني في تأمين قناة السويس.. قال له والده: ولماذا لم تبلغني يا محمد، رد عليه بصوت خافض وقال له: لقد خفت عليك


قد أبلغت أخي أحمد وحلفته بالمصحف الشريف ألا يبلغك، سامحني يا والدي، أمسك الوالد برأس ابنه وقال له: أنا فخور بك.


بعد قليل جاءت »‬خطيبته»، ترك الأب الغرفة وخرج إلي غرفة ملحقة؛ نظر محمد إلي »‬خطيبته» وقال لها: معلش يا خطيبتي، كان نفسي أفرحك وأفرح بيكي، لكن!!، بادرته خطيبته علي الفور: متكملش يا محمد، أيام وهتخرج، وهنعمل فرحنا ونتجوز وهبقي أسعد إنسانة في الدنيا..


التقي بنظره إلي ساقه المقطوعة، لاحظت خطيبته ذلك، وقالت له: أوعي يا محمد، مفيش حاجة أبدًا هتهزك، أنت حبيبي وحياتي وعمري كله.


• • •


في هذا اليوم، الجمعة، تلقي د.المعتز رشاد اتصالًا هاتفيًا من الجندي »‬صلاح» الذي أبلغه أنه زميل وصديق لنجله الجندي محمد، وقال له: إن محمد أوصاني أن أسلمك حقيبته الصغيرة إذا حدث له مكروه، وأنا في إجازة من اليوم وسأحضر إليك غدًا إلي المستشفي لأسلم لك الحقيبة، واتمكن من زيارة محمد ورؤيته.


رحب الأب بقدوم صلاح، وقال له إنه في انتظاره وأن عليه أن يخطره بمجرد وصوله إلي المستشفي، وبالفعل جاء صلاح في صباح يوم السبت 12 ديسمبر 2015 وأبلغه بالوصول، فقال له: سيرسل لك اللواء رفيق مندوبًا ليكون في انتظارك.


• • •


في هذه اللحظات كان د.المعتز ونجلاه وخطيبة محمد جميعهم يلتفون حوله في غرفة العناية المركزة، نظر محمد إلي الجميع، أمسك بيد والده، أخذ نفسًا عميقًا، بدا كأنه غير قادر علي التنفس، فجأة غاب محمد عن الوعي.. أسرع الوالد يطلب الطبيب المعالج، وصل الطبيب سريعًا ارتاب في حالة محمد، إلا أنه أدرك أن قلبه قد توقف فجأة، كتم الجميع صرخاتهم، أمسك الوالد بيديه لقياس نبضه، علي الفور تم تركيب جهاز التنفس الصناعي له، طلب الفريق المعالج من أفراد الأسرة الخروج إلي خارج الغرفة.


كان الأب يتابع عملية التنفس الصناعي لنجله بقلق شديد، كان يسعي إلي إسعافه بكل ما يملك من قوة، وإلي جواره فريق طبي من زملائه، وفجأة توقف القلب العليل، وأسلم محمد الروح إلي بارئها..
نظر طبيب القلب إلي الدكتور معتز، وقال له بكل أسي: البقاء لله، نحتسبه عند الله شهيدًا، ومضي إلي خارج الغرفة.


القي الوالد بجسده علي الكرسي المجاور، ووضع يده علي وجهه، غير مصدق أن ابنه قد رحل، أزاح برأسه إلي الخلف وانهمرت الدموع من عينيه.


بعد قليل تقدم اثنان من الممرضين لنقل الجثمان إلي الثلاجة، اقتحم أفراد الأسرة الغرفة، كانوا يبكون ويحتضنون الجسد المسجي بعد أن تم رفع جهاز التنفس الصناعي من عليه.


• • •


في هذا الوقت وصل زميله صلاح إلي المستشفي، توجه إلي البوابة الرئيسية، حيث سيصطحبه أحد أفراد الأمن إلي مكتب اللواء رفيق، لتوصيله إلي غرفة محمد ومقابلة والده، فوجئ صلاح بأن اللواء رفيق يبلغه نبأ استشهاد محمد منذ قليل، ردد صلاح علي الفور »‬أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، يا سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وانهمرت الدموع من عينيه.


قال صلاح: معي متعلقات الشهيد، أريد أن أسلمها إليه..


بعد دقائق كان صلاح يحتضن والد الشهيد ويعزيه، ويعزي أسرته، لم يتمالك صلاح نفسه، قال لوالده: ابنك كان بطل يا دكتور، وكان يرفض أن نبلغك هو فين، كان بطل، بطل حقيقي..


سلم صلاح حقيبة محمد الصغيرة إلي والده، لقد ضمت الحقيبة بعض حاجياته، أمسك الوالد بالحقيبة وضمها إلي صدره، كان الدكتور المعتز رشاد، صلبًا، قويًا، رابط الجأش، كان يقول لنفسه ابني لا يغلي علي مصر، مثله مثل شباب كثيرين.


أمسك الوالد بخطاب إلي جانب كراس تضم بعض ذكريات نجله في الكتيبة، فتح الخطاب علي مهل، كان الخطاب يضم سبع صفحات صغيرة، قالت تسنيم: فيه إيه الجواب ده يا بابا..، تصفح الوالد الوريقات سريعًا، قالت »‬خطيبته»: اقرأه يا عمي، اقرأه.


قرأ الوالد بصوت متقطع »‬بسم الله الرحمن الرحيم.. إلي أبي الغالي، العزيز، سامحني يا أبي، لأني لم أقل لك أني في رفح، خوفًا علي قلقك عليّ، والله الحمد لله ربت العالمين، أنا في أمان هنا، والحياة جميلة وسعيد جدًا، أحلي إحساس أنا حاسه هو الجهاد في سبيل الله، وأيضًا أني في مكان الأبطال والشهداء..


أبي العزيز..


كل يوم يعدي هنا باطلب من الله أن يصبرني ويعدي إن شاء الله أيامي علي خير، وأرجع وأشوفك يا أبي وأخي وأختي وكل أحبائي، أرجع وسطيكوا تاني.


يارب، ربنا يتقبل جهادي ويجعله في ميزان حسناتي، ويجعله أيضًا في ميزان حسناتك يا والدي العزيز وفي ميزان حسنات أمي الغالية، الله يرحمك يا أمي، لأنكم خلفتم راجل، يارب يتقبل».


يكمل الأب قراءة الخطاب.. »‬إليك يا أبي الغالي وحبيبي وأحلي أب في الدنيا، أنا آسف يا أبي العزيز علشان لم أقل لك أني في رفح أقاتل في سبيل الله، خوفًا أن تقلق، وخوفًا علي صحة حضرتك، والله أنا سعيد جدًا، وكل حاجة في هذا المكان مباركة وجميلة، وهي سيناء كده، وحضرتك عارف..


واستكمل الأب يقرأ الخطاب »‬يا أبي، إن كنت نلت الشهادة بأمر الله، تأكد أني في مكان جميل وسعيد إن شاء الله مع الشهداء والأنبياء والصالحين، يارب، يارب العالمين، يملأ قلبك بالصبر والإيمان، وإني إن شاء الله في جنات رب العالمين الكريم الرحيم».


أغلق الوالد الكراسة وقال بصوت منخفض »‬رحمة الله عليك يا محمد، رحمة الله عليك يا ابني، إلي جنة الخلد بإذن الله، ثم راح يقرأ الفاتحة لروحه الطاهرة، وقرأها كل من كانوا حاضرين في الغرفة..


في اليوم التالي كان هناك تشييع الجثمان الطاهر داخل المنطقة المركزية العسكرية، قيادات الجيش تتقدم الجنازة، أسرة الشهيد، وفي المقدمة الوالد، وشقيقه أحمد وشقيقته تسنيم وخطيبته، الموسيقي العسكرية، الخيول السوداء التي تجر عربة عسكرية حملت الجسد الطاهر ملفوفًا بعلم مصر.. توجه الركاب إلي حيث مقبرة عين الصيرة، لقد تم دفن محمد إلي جوار والدته، التي طالما تمني لقاءها، والاقتراب منها، الآن وبعد فراق استمر لما يقارب العشر سنوات حان وقت اللقاء، لقد صمم أحمد أن ينزل القبر مع شقيقه، وخرج وهو شديد التأثر والحزن.


في الخامس والعشرين من مارس عام 2016، وبعد أشهر قليلة من استشهاد محمد المعتز رشاد وزملائه، كانت القوات تهاجم أوكار الإرهابيين، في منطقتي رفح والشيخ زويد، لقد طاردتهم في كل مكان، قتلت منهم نحو ستين إرهابيًا، وأصابت حوالي أربعين، دمرت 27 سيارة و32 مخزن أسلحة في عملية أطلقت عليها حق الشهيد للقصاص للشهداء الذين سقطوا في الميدان..


كانت المدافع تنطلق، وطلقات الرصاص توجه إلي صدور الخونة والعملاء، بينما كانت الطائرات تدك جحورهم التي اختبأوا فيها..


كان صلاح وزملاؤه يوجهون رصاصاتهم ودانتهم بلا رحمة، لقد تناثرت أشلاء الجثث في كل مكان، ألقوا القبض علي العشرات من الذين استسلموا من هول الضربات، كم كانوا جبناء وهم يزحفون علي بطونهم!!


ومضت الأيام، كانت الأسرة لا تتوقف عن زيارة الشهيد محمد في مقبرته، وفي مارس من عام 2017، كان الرئيس عبدالفتاح السيسي يكرم والد الشهيد، تقدم الوالد بهدوء ليصعد إلي المنصة، بينما العقيد ياسر وهبة يقدم فقرات من فيلم أعدته الشئون المعنوية عن الشهيد، كانت الدموع تنهمر من الجميع، حتي دموع الرئيس راحت تبلل وجنتيه في مشهد إنساني نبيل.. احتضن والد الشهيد، كان العميد الدكتور معتز رشاد قويًا، مرفوع الرأس، متماسكًا وكأنه يقول للجميع.. دماء نجلي لن تكون أغلي من دماء الكثيرين.