وسط الصحراء القاحلة والرمال المترامية، والطقس شديد التقلب، وضجيج المواتير، وانبعاث الأشعة الضارة، تجد نقاط شديدة الحركة متواصلة 24 ساعة، يصلنا ثمرة إنتاجهم، ولا يصلنا أنينهم وألمهم، هنا يعيش «عمال البترول» المنقبون عن الذهب الأسود .
تواصل «بوابة أخبار اليوم»، معايشة العمال والتعرف عليهم ومشاركة آلامهم وأفراحهم، وأمام مقر شركة قارون بالمعادي تجمع رفقاء الرحلة، دخلنا السيارة برفقة حسام ضاحي مدير عام الإعلام بالشركة وقائد السيارة سامي محمد حواس.
حياة مختلفة في صحراء جرداء ورمال مترامية الأطراف، وحياة تمتلئ بأصوات الأطفال، وصياح الباعة، وأصوات المارة، وضجيج السيارات .
تتزايد هذه الأصوات في المناطق السكنية الشعبية، وتزدحم الشوارع بالمارة، وأصواتهم وضجيج السيارات، و"التوك توك"، وبضاعة على الأرصفة، وصياح الأطفال بين اللهو والبكاء .
تقل هذه النسبة في الأحياء الهادئة أو الراقية، كما يحلو للبعض وصفها به، حيث عمارات وفيلات، تُزينها كثير من كماليات الحياة الحديثة، والسيارات بمختلف أنواعها تتوقف أمام تلك المباني، ومحلات تعرض السلع بمختلف أنواعها، وأشجار متناسقة، وأزهار تزين شوارع حي المعادى، مقر شركة "قارون" مقصدنا ونقطة انطلاقنا .
تلك الصورة تختلف كثيرًا، خارج الكتل السكانية، وبعد تعمقنا في الصحراء، تنعدم صورة تلك المباني، وصياح الأطفال، وصرخات الأمهات على أطفالهن، ويبرز اللون الأصفر، ليحل محل اللون الأخضر، وتتعالى الكثبان الرملية محل المباني والفيلات.
على طريق «القاهرة – الواحات» تقلنا السيارة وهو الطريق الذي قام الجيش بتمهيده وتوسعته، بعد أن لوحظ كثرة الحوادث عليه، رغم ندرة مرور السيارات ولكنها السرعة الجنونية، كما تحملت الشركة تكاليف إنشاء وتمهيد 37 كيلومترا من الطريق على نفقتها الخاصة .
وسط الصحراء المترامية، وقف مجموعة من أفراد الجيش والشرطة بجانبي الطريق للتدخل لإنقاذ أي مستغيث بهم من مخاطر الطرق الصحراوية، وعمليات السطو المسلح من بعض الخارجين عن القانون أو عرب الصحراء أو ربما للحاجة إلى مساعدة .
اقتربت السيارة من هؤلاء هدأت السرعة، تبادلنا سويا حديث قصير وجهنا لهم التحية بوجه باسم لدورهم في حماية الوطن والمواطن.
أكملت السيارة الطريق إلى منطقة «حقول شرق بحرية»، يث مقصدنا، وبعد مسيرة امتدت إلى حوالي 160 كيلومترا في الصحراء، أبصرت أعيننا بعض المنشآت المتناثرة في الصحراء، أنها منطقة حقول «شرق بحرية».
استقبلنا المهندس محمد سيد إبراهيم مدير عام الإنتاج واستخراج الزيت بوجه سار وصدر منشرح، وبدأت رحلتنا بالتجول وسط تلك المنشآت المترامية الإبعاد، فالمنطقة تضم محطة كهرباء توفر 6.4 مليون دولار سنويا، وكانت تنفق في توفير السولار لمحولات توليد الكهرباء لـ«السكروت بمب» أو «الطلمبات الماصة» المنتشرة على أكثر من 120 بئرا، منهم 78 بئرا، وتشغيل 52 بئرا لحقن المياه، بالإضافة إلى محطة شرق بحرية لحقن المياه .
تعتمد الآبار في إنتاج الزيت على نوعين من الطلمبات الماصة «السكروت بمب»، والتي تصل تكاليف الواحدة منهم ما بين 4 ملايين دولار إلى 5 ملايين دولار، نوع يكون داخل البئر وهو النوع غير المرئي لنا، أما النوع الثاني وهو السكروت بمب والذي ينظر إليه على كونه رأس مال الشركة، ويكون على سطح الأرض .
تبدأ أولى خطوات استخراج الزيت بمرحلة البحث والاستكشاف بعد حصول الشركة على حق الطرح، والذي تمنحه إياها الهيئة العامة للبترول ممثلة لوزارة البترول والحكومة، وهى المرحلة التي تهيمن عليها الشركات الأجنبية لارتفاع التكاليف المالية لهذه المرحلة وارتفاع نسبة المخاطر بها وعدم قدرة الشركات المصرية على تحملها، ولذلك تحجم في الدخول بها، بالإضافة إلى عدم توافر التكنولوجيا الحديثة التي تمكنها من تقليل مخاطر تلك المرحلة .
عقب مرحلة البحث والاستكشاف، تأتي مرحلة الحفر، وهي التي سنتحدث عنها بالتفاصيل في حلقة قادمة .
على أكثر من 300 كيلو متر تنتشر تلك الآبار التابعة للشركة، يقوم بمتابعتها عدد قليل من العمال يجوبون الصحراء ليلا ونهار لتسجيل قراءات الطلمبات الماصة الخاصة بمعدلات إنتاج الزيت الخام من باطن الأرض .
على بُعد كيلو مترات، تبصر أعيننا عددًا من «الكارفانات» الخاصة بسكن عامل البترول وسط تلك الصحراء، نتقرب منها نجد أنها ترتفع عن سطح الأرض قليلا، تتراوح مساحتها مابين 3 أمتار في 6 أمتار تقريبا تُخصص لعيش ما بين 4 أفراد إلى 6 أفراد.
ويرجع سبب ارتفاعها عن سطح الأرض لتقليل تسلق الزواحف والثعابين والعقارب إلى داخلها وبالتالي إصابة من بداخلها بسمومها، وهي خطوة لتقليل مخاطرها وليس المنع التام .
الأمر لا يخلو من حالات الوفاة لهذا العامل خاصة إذا كانت اللدغة قادمة من «الطريشة» أحد أخطر الأنواع سمًا وأسرعهم في أحداث الوفاة كما حدث مع حارس موقع «غاريبون» الذي لقي مصرعه في الحال في جنح الظلام عندما هاجمته إحدى الطريشات وهو يرقد على فراشه ليلا وظلمة الليل تحيط به وحيدا وسط صحراء تكثر بها الزواحف الباحثة عن طعامها ليلا، وتفشل صرخاته القليلة في استقدام مُنقذ يبتر له ساقه لمنع تسلل السم إلى باقي جسده ويجلط دمائه فور اختلاطها بالسم المتدفق من فم الطريشة في عروق الحارس الضعيف أمام جبروت الصحراء.. بداخل تلك الكرافنات يعيش عامل البترول .
تتجول أعيننا فاحصة أجواء المكان، وهي تسرق نظرات أسفل أقدامنا خوفًا من كائن صحراوي يداهمنا، إنه الخوف من حياة الصحراء التي علمت عنها الكثير أثناء أدائي للخدمة العسكرية والواجب الوطني .
وسط هذا الشرود الفكري، يقترب منا صوت الرفيق المنضم إلينا بالموقع عبد الفتاح الدميري مدير عام مساعد الخدمات المساعدة، والذي التحق بالشركة منذ 18 عامًا قائلًا: «الحياة في الصحراء صعبة تزداد صعوبة، عندما تعلم أن ابنك مريض ولا تكون بجواره، أو الأب والأم والزوجة، أو حتى صديق عزيز، وأنت لا تستطيع التواجد معهم في أي وقت يحتاجونك».
وتابع: «أحد الزملاء توفى والده، ولم يستطع التواجد في جنازته، لتلقيه خبر الوفاة ليلًا، وعدم وجود بديلًا له مما جعله ينتظر إلى الصباح، وهو يعلم أن والده قد فارق الحياة.. إنها لحظات صعبة على الإنسان».
يواصل الدميري، سرده بتنهيدة حارة من داخل أعماق قلبه، قائلا: «نحن وبداخل هذه الصحراء الجرداء استطعنا بفكرة بسيطة توفير ملايين الجنيهات للشركة عن طريق جمع قطرات المياه الناتجة من تكييفات محطات الكهرباء، وإعادة استخدامها في غسل فلاتر المولدات الكهربائية، التي كانت يُستلزم تنظفيها بكميات كبيرة من المياه المقطرة .
وأكمل: «الفكرة أثبتت جدواها، وبكفاءة أعلى من استخدام المياه المقطرة، وبدأت الشركات العالمية في استخدامها، وأثبتت فاعليتها وجدواها الاقتصادية» .
عودة إلى المهندس محمد السيد ويتذكر عندما ضربت السيول المكان، وكان هناك تحدي جعله يمر عليه أسبوع بالكامل، لا يغمض له جفن إلا لدقائق قد تنعدم طوال الليل والنهار، لمدة أسبوع كامل .
محمد كان يدرك جيدًا أنه يعمل في مكان لا وقت فيه للراحة لا وقت فيه للتوقف ولا التقاط الأنفاس، ولا وقت لإهدار الوقت فيما لا يفيد، وأشياء بالملايين، مشددا على أن التوقف كلمة غير واردة في قاموس العاملين بحقول الإنتاج للزيت الخام، قائلًا: «أنها سلعة استراتيجية» .
طريق جرفه السيل، سيارات تكاد الرمال تردم أسفلها، حقول تعمل، إنتاج يتراكم، ولا سبيل لنقله أمام ما أحدثته المياه لحظات عصيبة - كما وصفها محمد.
وسط تلك الرمال والظلمة القاتمة والزواحف النشطة وسط الحرارة الحارقة صيفًا، وسط البرودة القارصة شتاءًا، وسط العواصف الرملية يتجول عامل البترول، لتسجيل قراءات الآبار.
لا تتوقف المخاطر عن هذا الحد, خاصة أن عملية استخراج الزيت الخام تصاحبه بعض الغازات الضارة، مثل غاز «اتش 2 اس» كبرتيتد الهيدروجين وهو الغاز المميت، والذي يؤدي للوفاة السريعة، إذا تعرض له الإنسان لمدة 5 دقائق، وهو غاز عديم اللون ذو رائحة تشبه رائحة البيض الفاسد .
ونتواصل في الحلقة القادمة من مسلسل حلقات «عامل البترول»، وتفاصيل وحدة المعالجة.