■ د. سعيد سلّام - مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
• كييف 14/1/2024
مع بداية الحرب الروسية الشاملة على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، انتظر العالم بفارغ الصبر تطور الأحداث ولم يفكر حتى في حقيقة أن أوكرانيا هى أحد الموردين الرئيسيين للمنتجات الزراعية إلى العالم، وفي المقام الأول الحبوب.
كانت الإمدادات الاوكرانية إلى السوق العالمية في عام 2021 تعادل إطعام حوالي 400 مليون شخص، دون الأخذ في الاعتبار احتياجات المستهلك الأوكراني المحلي، كما أفاد وزير السياسة الزراعية والأغذية في أوكرانيا رومان ليششينكو في بداية شهر فبراير 2022.
وكانت نتائج عام 2021 مثيرة جدا: فقد حققت الزراعة أعلى زيادة في الإنتاج بين قطاعات الاقتصاد الأخرى، حيث بلغت 14.4%؛ وارتفع الإنتاج في القطاع الزراعي بنسبة 19.2%؛ وساهم الإنتاج الزراعي بأكبر نسبة من الناتج المحلي الإجمالي بين جميع قطاعات الاقتصاد - أكثر من 10%. وبخطوات واثقة، غزت أوكرانيا قمة السوق العالمية وحصلت على مكانة واحدة من أكبر الضامنين للأمن الغذائي العالمي، حيث نفذت خططا استراتيجية لتوفير الغذاء لمليار من سكان العالم بحلول عام 2030.
وأدت الحرب إلى إنهاء فرصة تصدير الحبوب إلى القارتين الأفريقية والآسيوية (خاصة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، مما شكل تهديدا كبيرا لاندلاع المجاعة، لأن مصر مثلا في عام 2021 كانت ثاني اكبر مستورد للقمح الأوكراني في العالم، لبنان قام باستيراد 50% من احتياجاته من القمح من أوكرانيا، وليبيا 43%.
وكانت البلدان التي لديها نسبة أقل من واردات القمح الأوكراني أقل تأثراً، لكن الأسعار في السوق العالمية ارتفعت بلا هوادة، مما أدى إلى تفاقم الوضع، خاصة في البلدان ذات مستويات الدعم الاقتصادي والاجتماعي المنخفضة.
وشعرت دول الاتحاد الأوروبي ايضا بعواقب الحرب على شكل توقف واردات الحبوب من أوكرانيا ، ولا سيما إسبانيا وهولندا (على التوالي، المركزين الرابع والخامس بين المستوردين من اوكرانيا). كذلك كانت الصين المستورد الرئيسي للذرة الأوكرانية وبعض الحبوب الأخرى خلال السنوات القليلة الماضية.
وهكذا نرى ان الحرب الروسية الشاملة على أوكرانيا أدت إلى خروج جزء كبير من الأراضي المناسبة لزراعة محاصيل الحبوب من التداول الزراعي داخل حدود كييف، تشيرنيهيف، سومي، خاركيف، لوغانسك، دونيتسك، دنيبروبتروفسك، زابوروجيا، منطقتي خيرسون ونيكولايف، مما ادى الى تعطيل حملات البذر بسبب الأعمال القتالية النشطة في الأراضي المستخدمة للزراعة أو التي تم تلغيمها، والأضرار التي لحقت بالمحاصيل نتيجة للأعمال القتالية، وخاصة خلال موسم النمو في الربيع، ونقص الموارد (الإنتاجية والمالية)؛ كذلك الى دمار الخدمات اللوجستية و خلل في جميع عناصر سلاسل التوريد للمنتجات الزراعية والمنتجات الغذائية (من الإنتاج إلى البيع)؛ و تدمير الأصول والبنية التحتية لنظام الأغذية الزراعية؛ تعقيد تصدير منتجات الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق الخارجية بسبب إغلاق الموانئ الأوكرانية من قبل الاسطول الروسي، حيث يتم تصدير ما يصل إلى 60% من هذه المنتجات عن طريق البحر، مما ادى الى تأثير سلبي على الدول المعتمدة على الاستيراد.
وتتطلب الأراضي التي جرت فيها الأعمال القتالية إزالة الألغام والتنظيف الشامل من الأجسام المتفجرة، الأمر الذي قد يستغرق، بحسب الجيش، عدة أشهر أو حتى سنوات. ويجب التأكيد أن الاراضي، حيث تجري فيها الأعمال القتالية طويلة الأمد ستتطلب وقتًا أطول بكثير لإزالة الألغام وضمان استخدامها، وربما عشرات السنين. مع الأخذ في الاعتبار الظروف المذكورة أعلاه، هناك تحذير منطقي فيما يتعلق بتوقيت استعادة المناطق الزراعية في أوكرانيا، وبالتالي إمكانية استعادة مستوى ما قبل الحرب من إنتاج وتصنيع وتوريد المواد الغذائية، ولا سيما تصدير المنتجات الزراعية.
وكانت طرق تصدير الحبوب الرئيسية حتى 24 فبراير 2022 هي أحواض بحر آزوف والبحر الأسود، سواء لأوكرانيا أو لروسيا، التي استخدمت هذا الطريق لتصدير حوالي 40% من حبوبها. ومع بداية الحرب، تم قطع جميع طرق التجارة، مما تسبب بدوره في انهيار إمدادات محاصيل الحبوب من أوكرانيا إلى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. بدأت أسعار الحبوب في الارتفاع بسرعة كبيرة، مما أدى بدوره إلى إثارة حالة من القلق و عدم الاستقرار في سوق الحبوب العالمية، وأجبر الخوف من إندلاع أعمال الشغب، بسبب الجوع، المجتمع الدولي على ممارسة المزيد من الضغوط على روسيا من خلال فرض العقوبات والمطالبة بتنظيم ممر للحبوب.
وفي نهاية يوليو 2022، شعر العالم بالارتياح لاستئناف صادرات الحبوب من الموانئ التي تسيطر عليها أوكرانيا، مع بدء عمل اتفاق "ممر الحبوب"، لكن روسيا انسحبت من الاتفاق في شهر يوليو 2023، بعد قيامها بعمليات عرقلة متكررة لتصدير الحبوب الاوكرانية عبر تأخير تفتيش بواخر الشحن بشكل مقصود. و بعد انسحابها بدأت روسيا عمليات قصف ممنهج للموانئ الاوكرانية على البحر الاسود التي يتم استخدامها لتصدير الحبوب و المنتجات الغذائية، في محاولة منها لمنع اوكرانيا من تصدير الحبوب و الغذاء و "ابتزاز العالم بالجوع" والضغط على حلفاء وشركاء اوكرانيا من اجل رفع العقوبات عنها و ايقاف الدعم العسكري و الاقتصادي لأوكرانيا.
وهكذا، يمكننا أن نلاحظ دور أوكرانيا في ضمان الأمن الغذائي العالمي كبير جدًا لدرجة أن عددًا كبيرًا من البلدان شعرت بشكل مباشر نتيجة توقف واردات الحبوب الأوكرانية، لكن هذا لا يقارن بالثمن الذي يدفعه الشعب الأوكراني كل عام. كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، وخاصة جنود القوات المسلحة، لإتاحة الفرصة لهم لتكون أوكرانيا حرة وذات سيادة وموحدة ومستقلة.
على الرغم ان الحرب أدت إلى انخفاض إنتاج الحبوب والمحاصيل الزيتية في أوكرانيا بنحو 20%، تبقى أوكرانيا واحدة من أكبر المنتجين والمصدرين العالميين الرئيسيين للأغذية. حيث انه على الرغم من العدوان الروسي المستمر، تمكنت أوكرانيا في عام 2023 من حصاد 81 مليون طن من محاصيل الحبوب والزيت، منها 50 مليون طن تمكنت من تصديرها إلى الأسواق الخارجية.
وعلى الرغم من انسحاب روسيا من "اتفاقيات الحبوب" والهجمات المستمرة على البنية التحتية للموانئ الأوكرانية، فإن أوكرانيا بقيت ملتزمة بالتزاماتها الدولية وتستمر في بذل كل ما هو ضروري لضمان الإمدادات الغذائية دون انقطاع إلى البلدان الأكثر اعتماداً على الإمدادات الخارجية. و قد تم الاعتراف بجهود أوكرانيا من قبل جمعية الرابطة البحرية الدولية (IMO).
وحاليا تعمل أوكرانيا بنشاط على إنشاء آلية جديدة لتأمين السفن ضد المخاطر العسكرية Unity Facility، المصمم لضمان استقرار الشحن وسلامة النقل البحري.
فقط إنهاء الاحتلال الروسي للأراضي الاوكرانية و توقف القصف الصاروخي من شأنه أن يسمح بزيادة الانتاج وإمدادات الغذاء الأوكراني إلى السوق العالمية.